داريوش فرهود الأب الروحي لعلم الجينات في بلاده بين الاختطاف والترهيب

كيف يقضي الولي الفقيه على النُخب في إيران.

الخميس 2022/11/03
آلة قمع النظام تطال العلماء أيضا

يبدو أن النظام الإيراني بلغ حدوداً غير مسبوقة من الخوف من كل صوت ينتقد العنف الذي يطبقه على المتظاهرين في هذه الفترة، ولاسيما النساء منهم. وكان اعتقاله لداريوش فرهود، الذي يعدّ أحد أهم العلماء الإيرانيين ويُلقّب بـ”الأب الروحي لعلم الجينات“، قد أثار جدلاً واسعاً واستنكاراً محلياً وخارجياً، بعد تصريحات للأخير انتقد فيها الهمجية التي يتعامل بها الحرس الثوري وقوى الأمن الإيرانية مع النساء في إيران.

فرهود البالغ من العمر 85 عاماً يحظى بمكانة وتقدير كبيرين في الأوساط الأكاديمية في بلاده. فهو باحث وصاحب إنجازات في مجال علم الوراثة وعلم النفس والأنثروبولوجيا والطب، وهو عضو دائم في الأكاديمية الإيرانية للعلوم الطبية.

ولد في شارع سايروس بطهران، ثم انتقل مع أسرته إلى الجنوب، أمضى مدرسته الابتدائية في هفتغول ومسجد سليمان في خوزستان، وبعدما أنهى دراسته الثانوية في مدارس رحنامة ودار الفنون والبرز في طهران رحل إلى ألمانيا، وحصل على درجتي دكتوراه في العلوم الطبيعية وعلم الوراثة البشرية، وأخرى في الأنثروبولوجيا من جامعة ماينز مطلع سبعينات القرن الماضي، وعاد ونال درجة الماجستير في علم الوراثة الطبية من جامعة ميونيخ بعد عشرين عاماً.

إيرانيون مختلفون 

تفوّقه العلمي خلال سنوات دراسته في ألمانيا خلق له اسماً ناصعاً
تفوّقه العلمي خلال سنوات دراسته في ألمانيا خلق له اسماً ناصعاً

تفوّقه العلمي خلال سنوات دراسته في ألمانيا خلق له اسماً ناصعاً لدرجة أن الألمان عيّنوه بمنصب رئيس لإحدى الجامعات المحلية. ودعته مدن ألمانية لإنشاء مجمعات طبية فيها لثقتها بكفاءته.

غير أن فرهود عاد إلى إيران وأسّس أول كرسي للعلوم الوراثية في جامعة طهران. ولم يكن علم الوراثة ما قبل الجينات منتشرًا ومعروفًا هناك. حتى أن فرهود يسخر من ذلك بالقول ”كان علم الوراثة في بلادنا يقتصر على معرفة أن الجمع بين بقرة بيضاء وبقرة سوداء سوف ينتج عن البقرة بقرة بيضاء“.

ولكن فرهود المولع بعلم الوراثة أنشأ وترأس أول عيادة جينية في بلاده، وعمل أستاذاً ومديراً لقسم الوراثة البشرية في كلية الصحة بجامعة طهران للعلوم الطبية.

جيل فرهود من الإيرانيين ما قبل عهد الخميني وثورته التي غيرت اتجاه المجتمع، كان تواقاً للتحديث وبرزت منه أسماء كبيرة في مجالات عدة ة، فكان من زملائه ورفاق دراسته رحمان زاده وساروستاني وماجد سمعي وفناي وبروستاني وتسينكرناجيل الحائز على جائزة نوبل.

استعانت منظمة الصحة العالمية بفرهود كخبير واستشاري في علم الوراثة منذ أواسط السبعينات وما زالت تعتمد على آرائه. فهو عضو لجنة “أخلاقيات علم الوراثة الطبية” في المنظمة، وعضو اللجنة الوطنية لأخلاقيات البيولوجيا التابعة للجنة اليونسكو في إيران.

بصمات عالمية

من بين بصمات فرهود اكتشافه لنوع جديد من الترانسفيرين البشري
◙ من بين بصمات فرهود اكتشافه لنوع جديد من الترانسفيرين البشري

من بين بصمات فرهود اكتشافه لنوع جديد من الترانسفيرين البشري، وهو بروتين سكري في بلازما الدم يضبط مستوى الحديد الحر في السوائل الحيوية. وكذلك اكتشف مرضاً وراثياً جديداً في عائلة إيرانية كبيرة.

قام فرهود بالتدريس في أكثر من مائتي فصل دراسي في دورات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه وعلّم أكثر من عشرين ألف طالب في مختلف مجالات الطب والعلوم البيولوجية.

◙ فرهود يحظى بمكانة وتقدير كبيرين في الأوساط الأكاديمية في بلاده. فهو باحث وصاحب إنجازات في مجال علم الوراثة وعلم النفس والأنثروبولوجيا والطب

وتم تكريمه من قبل مكتب تكريم وتمثيل دور النخبة في مؤسسة النخبة الوطنية في العام 2017 بحضور مجموعة من أساتذة الدولة البارزين ورؤساء الجامعات والطلاب وكبار النوابغ. لكن هذا لم يمنع من اعتقاله عند أول احتجاج له.

تجاوزت أبحاثه وكتبه علم الوراثة إلى الحقول العديدة الأخرى، فاشتغل في مجالات التأريخ للإنسان الإيراني، كما كتابه ”إيران الثقافية“ وفي غيره أيضاً من المؤلفات التي حاول فيها تقديم صورة مغايرة لتلك التي عمل ويعمل النظام الحالي في إيران على تصديرها.

وكانت قد نُشرت أنباء عن اختفاء فرهود، وأعلن العاملون معه قلقهم من عدم التحاقه بمكتبه، وقال مسؤول أمني في مقابلة مع وكالة أنباء الطلبة الإيرانية “لم يقم أيّ من الأجهزة الأمنية باعتقال دريوش فرهود في الأيام الأخيرة، وموضوع اعتقاله غير صحيح“.

لكن تم تأكيد ذلك الاعتقال لاحقاً، على لسان فرهود نفسه حين قال ”حين كنت أغادر المنزل. استقبلني شخصان كانا يرتديان ملابس سوداء ويبدوان مثل الضباط، وصعدا إلى سيارتي. ثم أخذاني إلى مكان ووضعاني في سيارة أخرى. ومكثت عندهم حوالي 26 ساعة“.

أخلاق العلوم والتكنولوجيا

نشر فرهود أكثر من 120 مقالة بحثية علمية باللغة الإنجليزية وعرض أكثر من 230 مقالة في المؤتمرات العلمية داخل إيران وخارجها
فرهود نشر أكثر من 120 مقالة بحثية علمية باللغة الإنجليزية وعرض أكثر من 230 مقالة في المؤتمرات العلمية 

نشر فرهود أكثر من 120 مقالة بحثية علمية باللغة الإنجليزية وعرض أكثر من 230 مقالة في المؤتمرات العلمية داخل إيران وخارجها، وهو المدير المسؤول ومحرر مجلة ”المجلة الإيرانية للصحة العامة“، ورئيس تحرير مجلة مخصصة للأطفال، وكذلك مجلة ”الأخلاق في العلوم والتكنولوجيا“، والعديد من المجلات العلمية الأخرى. كما حصل على الجائزة العلمية لمهرجان الخوارزمي الدولي، ونال الدرع الفخري والجائزة العلمية لمهرجان ابن سينا.

يقول الإيرانيون إنه من الصعب جداً سؤال أمثال فرهود فقط عن علم الوراثة، لأن الرجل لديه الكثير من الأنشطة العلمية حول علم الوراثة وتاريخ بحثي مثمر ومتعدّد، علاوة على كونه يحمل درجة البكالوريوس في علم النفس.

أما فرهود فيروي أن دراسته لعلم النفس لم تكن مصادفة على الإطلاق. ويضيف ”عندما ذهبت إلى ألمانيا لإكمال دورة طبية، كان لدي خطة لمسيرتي الأكاديمية بأكملها. لا يخفى على أحد أهمية الأمراض الوراثية، خاصة في عصرنا هذا. كنت على علم بهذا منذ ذلك الحين. كنت أعلم أن علم الوراثة سيغير وجه الطب بأكمله. وإلى جانب الطب وعلم الوراثة، فإن الجانب الآخر من المثلث الذي يؤدي إلى نتيجة فعالة وصحيحة هو علم النفس. علم النفس وأخلاقيات الطب والأنثروبولوجيا علوم إذا ما تم تجاهلها في الدراسات والإجراءات الطبية، خاصة في علم الوراثة، فسوف يسبب لنا مشاكل خطيرة“.

آراء تثير نقمة النظام

يثير فرهود غضب النظام الإيراني في كل مرة يطلق تصريحاً علمياً أو ثقافياً أو حتى أكاديميا
◙ يثير فرهود غضب النظام الإيراني في كل مرة يطلق تصريحاً علمياً أو ثقافياً أو حتى أكاديميا

يثير فرهود غضب النظام الإيراني في كل مرة يطلق تصريحاً علمياً أو ثقافياً أو حتى أكاديميا، ومنذ العام 2001 وهو ينادي بتحسين أوضاع النساء في إيران. وكانت مناشداته مع البرلمانية الإيرانية فاطمة راكعي ذات تأثير كبير، حين قالت “إن هدف النساء ليس الحصول على مكان في الحكومة، وإنما السعي لإزالة العقبات التي تعترض سبيل بلورة قدراتها في المجتمع الايراني“، معتبرة أن “إزالة العقبات الفكرية والثقافية بأنها ضرورية لمشاركة النساء في مختلف مستويات إدارة شؤون البلاد“. وكان ذلك في عهد الرئيس محمد خاتمي الذي وصف بالإصلاحي.

◙ علم النفس وأخلاقيات الطب والأنثروبولوجيا علوم إذا ما تم تجاهلها في الدراسات والإجراءات الطبية فسوف تسبب لنا ”مشاكل خطيرة“ كما يحذّر فرهود

لكن المرأة التي دافع عنها فرهود في ذلك الوقت ما زالت تعاني من تعامل عنيف داخل إيران في كل ما يتعلق بشؤون حياتها، لا السياسية والإدارية وحسب، بما في ذلك مشكلة القوانين المدنية والزواج والإجهاض خاصة، وهي المعضلة التي لم تلق حلاً بعد، على الرغم  من وجود الكثير من الفتاوى الشرعية، وحتى فتاوى صدرت عن المرشد علي خامنئي نفسه، والقاضية بعدم اشكالية الاجهاض في بعض الحالات التي تشخص قبل الولادة والتي يصعب علاجها فإن هذا الموضوع لم يحل عمليا، إلا أن الطب الشرعي الإيراني يرفض إعطاء الرخص القانونية المطلوبة لتنفيذ عمليات الاجهاض الرسمي رغم تأييد الطبيب المختص بالجينات إصابة الجنين.

وعن هذه المشكلة قال فرهود إن عدم وجود قانون واضح في مجال الإجهاض يخلق مثل هذه الحالة، مضيفاً “هناك الكثير من العائلات التي لم تتمكن من الحصول على ترخيص لإجراء عملية الإجهاض من قبل الطب الشرعي بالرغم من وجود تحاليل طبية تشير إلى إصابة الجنين بالشلل مثلا في بعض الحالات“.

هل تغيّرت إيران

◙ وجود مثل هذا المستوى من النخب والأكاديميين والفنانين يعرقل مشروع الولي الفقيه
◙وجود مثل هذا المستوى من النخب والأكاديميين والفنانين يعرقل مشروع الولي الفقيه

فرهود ليس الوحيد الذي نكّل به النظام في إيران، فوجود مثل هذا المستوى من النخب والأكاديميين والفنانين يعرقل مشروع الولي الفقيه في برمجة المجتمع الإيراني والهيمنة عليه. وقد كتب كل من السوسيولوجي الإيراني فرهاد خسرو والباحث الإيراني المتخصص في الفكر الاسلامي الشيعي المعاصر محسن متقي بالفرنسية قبل سنوات بحثا يصفان فيه معاناة المثقفين الإيرانيين في صميم الحياة العامة تحت وطأة الاستبداد والقمع.

وبعد عقد من الزمن مر على وصول الخميني إلى السلطة، بدأت ظاهرة المثقفين ”ما بعد الإسلاميين“، في بدايات التسعينات من القرن الماضي. وطالب هؤلاء، باسم الإسلام، بفصل الأيديولوجيا الإسلامية عن المجال السياسي، محاولين فصل السياسة عن الدين، ليضمنوا للمجال السياسي وظيفته البشرية حصراً، كما فعل مفكرون مثل عبدالكريم سروش ومجتهد شابستاري ومحسن كاديفار.

◙ جيل فرهود من الإيرانيين ما قبل عهد الخميني، كان تواقا للتحديث وبرزت منه أسماء كبيرة في مجالات عدة، فكان من رفاقه رحمان زاده وساروستاني وتسينكرناجيل الحائز على جائزة نوبل
◙ جيل فرهود من الإيرانيين ما قبل عهد الخميني، كان تواقا للتحديث وبرزت منه أسماء كبيرة في مجالات عدة، فكان من رفاقه رحمان زاده وساروستاني وتسينكرناجيل الحائز على جائزة نوبل

ولكن نداءات سروش وشابستاري وكاديفار وآخرين غيرهم لم تجد لها أيّ صدى لدى المؤسسة الحاكمة، فأخذوا ومعهم آخرون بالابتعاد التدريجي عن السلطة المهيمنة لتأسيس مقاربة جديدة للدين مغايرة لنظرية ولاية الفقيه.

بعد فشل هذا التيار ظهر نموذجٌ جديد من المثقفين العلمانيين نزعوا عن النظام الشرعية تماماً، فكان التباين كبيراً بينهم وبين السلطات وكان مصيرهم إما الموت أو النفي. أما الذين بقوا في إيران فكان لديهم أملٌ بتغيير قد يحدث بفعل تأثير أيّ من التيارين السابقين، ولكن هذا لم يحصل.

النمط السائد بعد أولئك كان نمطاً جديداً من المثقفين ”أكثر تواضعاً وأقل نزوعاً في رؤيتهم الأيديولوجية، يتبنى حقوق الإنسان إضافة إلى مجموعة من المقولات الأخلاقية كما المعاهدات الدولية التي انضمت إليها إيران، بهدف وصوله إلى المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين وحقوق المواطنة“.

إن هذا النمط الذي شاركت فيه النساء بشكل واسع لا يتبنى دوراً رائداً كما هو شأن المثقفين الإيرانيين، بل يتبنى وجهة نظر ”متواضعة” بإثارة بعض القضايا الدقيقة حول موضوعات بعينها، كحق المرأة في الإجهاض وحضانة الأطفال و”حق الدم“.

ويتركّز اهتمام النخب الإيرانية في الداخل حول قضايا محددة مثل الفساد وتجاوزات الحكام وحقوق الإنسان وخاصة الحقوق المدنية منها والمحاكمات وغيرها. وحين أطلقت حملة “من أجل مليون توقيع“ اتسعت لكل من يقبل بمبدأ المساواة بين الرجال والنساء من الإسلاميين أو العلمانيين، رجالاً ونساءً على حدٍّ سواء، وأخذت تصبح حركة كان يمكن لحادثة مثل حادثة مقتل فتاة خلال التحقيق معها أن تفجّرها كثورة.

انضم إلى هذه الحركة غير المنظّمة العديد من الناشطين والصحافيين والمحامين والعلماء والأكاديميين، ويوصف ما قاموا به بأنه ”تحطيم للتجانس الاجتماعي والثقافي للمثقفين التقليديين“. وأخيراً حلّ هذا النموذج تدريجيا محلّ “المثقفين المتديّنين” الذين شكّكوا بأولوية ولاية الفقيه.

كانت مهمة الجميع الأساسية الدفاع عن كرامة المواطن على الصعيد الأخلاقي وفي الحياة اليومية للناس، أكثر من الصعيد السياسي.

ويعتبر الباحثون أن أصداء ما حصل في تحوّلات المثقفين في إيران في مكابدتهم للنظام العنفي فيها قد شوهدت في تونس، حيث نشط جيل من الفاعلين يهدف إلى الانفتاح والاعتراف بحقوق الإنسان.

ما حدث في إيران ليس منفصلاً عمّا جرى ويجري في العالم العربي، وكان داريوش فرهود أكثر شهوده حنكة متسلحاً بنظرة ثاقبة إلى الإنسان، وهو الذي يقول إن “أولئك الذين يسيرون على خطى الآخرين لن يتركوا آثار أقدامهم أبدًا“.

12