"دارميات شعر نساء العراق".. أنطولوجيا غزل البنات بثلاث لغات

في العالم العربي تتناقل الشفاه قصائد النساء الشعبية وتخفي أسماء شاعراتها نظرا إلى طبيعة المجتمعات العربية وإلى طبيعة القصائد الجريئة والتي تقوم على البوح والمكاشفة. ويبقى هذا الشعر مؤثرا للغاية بينما قليلة هي الكتب التي تتناوله بالرصد.
“مو شعر اكتب ليش.. أكتب اجروحي” (ليس شعرا ما أكتب، بل هي جروحي النازفة)، بهذا العنوان صدرت مؤخرا ما بين البرتغال والبرازيل الطبعة العربية العراقية ـ الإسبانية ـ البرتغالية، من أنطولوجيا شعرية عراقية عن دار أوروتا، بترجمة وتقديم واختيار من العربية إلى الإسبانية من قبل العراقي عبدالهادي سعدون، الكاتب وأستاذ الأدب العربي في جامعة مدريد المركزية، والترجمة إلى البرتغالية من الشاعرة ماريا توسكانو، الشاعرة والمترجمة والناقدة البرتغالية وبمراجعة الشاعرة كارمن فرياس غابيرو.
الكتاب يتضمن مقدمة طويلة عن هذا النوع الشعري المتميز، ومن ثم اختيار وترجمة 55 قصيدة قصيرة من قصائد الدارمي “غزل البنات” العراقي وتدوينه بثلاث لغات هي العربية (العراقية) والإسبانية والبرتغالية. والكتاب هو الثالث الذي يتناول هذا الفن الشعري المتميز من الكتب التي نشرها عبدالهادي سعدون بعد الكتابين الأولين بالعربية والإسبانية وهما: “أنطولوجيا مختصرة عن الغناء الشعبي لنساء العراق” (جائزة الترجمة في إسبانيا/ مارثيلو ريّس) والمنشور في دار نشر أوليفانته عام 2018، و”الغناء والجرح (دراسة مطولة ونماذج شعرية) ” عن دار بيربوم الإسبانية عام 2020.
غزل البنات
في حواره حول الكتاب، يقول عبدالهادي سعدون “الدارمي ‘شعر البنات‘ أو ‘غزل البنات‘ هناك دراسات عديدة عنه في كتب بالعراق يمكن الرجوع إليها، من طبيعة الشعر سرانيته لطبيعة موضوعاته، وهو الشعر مجهول الاسم أي لا ينسب لأيّ امرأة لهذه الأسباب بسبب من طبيعة مجتمعاتنا ولأن الموضوع الأساس فيه هو الحب والاعتراف والثورة على الأعراف وانتقاد المجتمع”.
ويضيف “بسبب الأغنية المعاصرة التي أخذت من الدارمي الكثير في الأغنية المدينية والريفية على حد سواء، جعل الكثير يدخلون كمؤلفين رجالا ولكن في الظل أيضا كاستمرارية على التقليد المتبع منذ عصور طويلة. وعلى فكرة هذا النموذج المدهش العالي في شعريته ومعناه كتبته وما تزال نساء المشرق ونماذجها في: التبراع الصحراوي والعلم في بادية مصر وليبيا واللانداي الأفغاني”.
ويتابع “شيء آخر مهم بالنسبة إلى كتابنا فهو أول كتاب بلغة هند أوروبية، إذ لا دراسات ولا نماذج سابقة حتى اليوم. ‘الدارمي‘ نسائي منذ المنشأ ونماذجه منذ سومر وحتى اليوم وفي كل النماذج الشعرية من غزل النساء في المشرق، ونحن الرجال الطارئون عليه وكتبنا على منواله، وإن لم نصل إلى مستواهن في التعبير. أما النعي فكما تقول، وللإضافة، هو نظم نجده منذ الحضارات الأولى وحتى اليوم وهو خاص بالنساء أيضا ومن الممكن أن نجد بعض الرجال من يمتهون النعي خاصة في القراءات المشهدية والطقوس الدينية”.
ويوضح أن الشعر الشعبي حقيقة واقعة ومؤثرة في المجتمع العراقي، تساوي أو تزيد عن القصائد الكلاسيكية، حسب الوضع العام والظرف والمستوى الثقافي للمجتمع. إنه أفضل متحدث باسم الشعب ولغة التعبير على جميع المستويات الشعبية واختلاف الاهتمام ما بين منطقة وأخرى من مدن البلاد. وشعر المرأة جزء مهم في هذا المجال، ودراسته هي المفتاح لفهم العديد من جوانب الحياة في المجتمع العراقي الأمس واليوم.
ويبين أنه لفهم هذا الواقع الشعري ذي التقليد الأدبي الطويل، لأكثر من قرن ونصف القرن كتوثيق نصي في منشورات ومخطوطات وكتب، يجعلنا نعرّف الثقافة الشعبية بما قدمه دارسو الأدب الشعبي والفلكلوريين عامة، مما يعني أن وثائقها وآثارها تنتقل شفاهيا، فهي لمؤلفين مجهولين أغلب الأحيان، يتصرفون بحرية عندما يسكنهم الإلهام، بمجرد تقليد الأشكال السابقة والتي في أحسن الأحوال تلهم الشعراء مع اختلافات طفيفة. من المفهوم أن الأشكال الشعرية القصيرة التي تفتقر إلى التقنية المعتادة عليها تقوم مع مرور الأزمنة بتطوير الأفكار الخاصة بها وبنيتها الداخلية الخالصة إلى نصوص ذات نفس متطاول يعيش على مدى عصور متتالية.
ويضيف سعدون أنه في الشعر العامي “علينا أن نتحقق من أن الإيقاع والتأليف مطلوبان في المقام الأول، ومن ثم طابعه الشكلي، والصيغ المصممة للتكرار. الصيغة، في نفس الوقت، هي ضمان البقاء في جميع الآداب الشفاهية. يجب أن يكون لدى مردد النصوص وحافظها ذاكرة كبيرة وإحساس بأنه مرتبط بنص معين يتكون أساسا من مجموع الصيغ المعتاد عليها” كما يذكر الباحث الإسباني سرافين فانخول في مقدمته عن الأغنية الشعبية العربية.
لهذا السبب يرى أن دراسة الأغنية الشعبية للمرأة في عموم العراق، أي تحديدا قصيدة الدارمي الغنائية الخاصة بالمرأة العراقية أو ما يسمى أغلب الأحيان بـ “شعر البنات أو غزل البنات”، تعد ضرورة تامة لفهم واقعها وظرفها وأسباب ظهورها. وعلى الرغم من أهميتها لم نجد دراسات تفصيلية حول هذا النوع الشعري إلا ما ندر وأغلبها لباحثين عراقيين، مع اختفاء واضح له في الدراسات العربية، ناهيك عنها في اللغات الأوروبية أو الغربية عموما.
دراسة الأغنية الشعبية للمرأة في عموم العراق تعد ضرورة تامة لفهم واقعها وظرفها وأسباب ظهورها
ويشدد على أن هناك القليل من التذكير والدراسات في العالم الغربي التي تناولت ظاهرة الشعر الشعبي العراقي بشكل عام وشعر المرأة العراقية بشكل خاص. وبالكاد نجد دراسات علمية محكمة في اللغة العربية، بل أغلبها مقالات مطولة أو دراسة ضمنية تكاد لا تمس جوهر هذا النوع الشعري المتجدد، أو في أحسن الظروف تقوم بترديد وتكرار ما قيل سابقا مع زيادة أو نقصان في النماذج الشعرية المدروسة.
ويتابع “خلّد الناس حياتهم في أشعارهم المنشدة أو في أغانيهم، وبالتالي فإننا لا نواجه مجرد إبداعات فنية فحسب، بل لوحات حقيقية لوجوه الحياة المختلفة، كونها تعبيرا مشتركا عمّا تكنه وتعبر عنه قلوب البشر وأفكارهم وما يمرّون به من أحداث مؤثرة في حياتهم. لم ينشأ الإبداع والخلق الشعبي بدعوى التمتع أو لسد الفراغ، بل ظهر كحاجة اجتماعية ملحة، والمشاركة في تكوين علاقات العمل والإنتاج والحاجة الروحية والنفسية للإنسان”.
فتعابير الشعر الشعبي هي بمثابة أغنية جماعية، بمعنى أن نصه، رغم أنه يشير إلى فئة بعينها، يتعرض دائما للتغييرات والتصحيحات والإضافات. ويغنى الشعر أيضا، بمعنى أنه كذلك في الأساس، إذ يعالج الموضوعات بطرق جديدة وفق فئات وطبقات متنوعة. والعديد من هذه الأغاني الشعبية تشبه إلى حد كبير قطعا ميلودرامية مصغرة تصلح كمكوّن كلّي لنص أو نصوص أخرى مطولة. أغلبها يردد صدى قسوة ومرارة الحياة، إن لم يكن مآسيها المتكررة مع مر العصور. وفوق كل شيء، فهي عاطفية للغاية، على الرغم من أن هذه الخاصية واضحة من بساطتها، وخلوّها من التعقيدات ومباشرتها في الطرح والتعبير وتوثيق الحالة بكليتها.
يمكننا أن نتفق إذن مع القول إن هذه الأغنية الشعبية الملتصقة بجلد ولسان امرأة عراقية (أي الدارمي) تعود لمؤلف(ة) ومردد (ة) مجهول(ة)، والذي لا يمنعها من أن تكون لحنا لمطرب ومؤلف معروف هو بالتحديد طابعها الشعبي، وهو الأمر الذي تم تخفيفه وفهمه بسبب من إرثها الشعبي العام.
قصيدة الدارمي
يرى سعدون أن شعر النساء العراقيات المجهولات وغير المجهولات اليوم لعب دورا مؤثرا للغاية في الشعر العراقي الشعبي والأمثلة التي تمّت دراستها خلال التحليل الطويل لهذه الأنماط الشعرية تقربنا أكثر فأكثر من المجتمع الذي نشأ فيه وتطور وازدهر، وترسم لنا مشاهد كاملة من المشاعر والعواطف والتجليات النفسية المؤثرة. إنما هي في الواقع شهادات حيوية عن بنية المجتمع العراقي وشعبه وعاداته وتقاليده وممارساته العقائدية والفكرية، وبالتالي شهادة حية لفهم واقع جزئه المهم والمؤثر، أي المرأة، وعلاقتها الخفية والظاهرة بمحيطها تأثيرا وتأثرا.
لكن قبل كل شيء، لا بد من التركيز، وفق رأيه، على عرف متجذر في تقاليد الأغنية الشعبية العراقية، ألا هي ظاهرة نمط أغنية المرأة أو الفتيات والبنات وهو ما نعنيه بالقصيدة القصيرة التي اشتهرت بتسمية “الدارمي”. إن قصيدة “الدارمي” نوع شعري ينتمي إلى الأغنية الشعبية، وإن كانت تنسب وتقيد باسم شاعر مجهول الاسم، إلا أنه غير مجهول الهوية إذ أنها مرتبطة دائما بالمرأة العراقية نظما وظرفا وصناعة. لا أحد يهتم بمعرفة من هو المؤلف، أو منْ هو وراء قولها وتأليفها، لأنه يكفي بالنسبة إلى الباحثين بل وحتى المستمعين العاديين التعرف على الصوت الحقيقي للمرأة المنشدة لها والمتخفية خلف أبياتها بغلالة تحجب وجهها وصورتها لكنها لا تحجب هيئتها الأنثوية ولا نبرتها الصريحة بالبوح والشكوى والترنم ضمن أبياتها الشعرية الواضحة.
ويؤكد سعدون أنه بهذه الطريقة، لا يختفي أثر الشاعرة الغنائية المجهولة، لأن كلمتها مثبتة في ذاكرة وأصوات العديد من العشاق والشعراء والمغنين الذين رددوا قصائدها القصار على مر الأجيال حتى أيامنا هذه. من هنا ينتشر الشعر الشعبي المغنّى والمنشد بين الناس في المناسبات الخاصة والعامة أيضا، وقصيدة الدارمي النسوية منها، ولا يقتصر على فترة زمنية أو مناسباتية أو ظرفية محددة. كما أن بث الأغنية الشعبية شفاهيا يديمها في الذاكرة ولا يقطع جذورها عن كيان الأدب الشعبي عموما. ومن هنا جاء بقاؤها وخلودها لتصبح من ضمن المجاميع الشعبية الخاصة بكل واحد منا لتصل مرحلتها الجديدة بالتدوين والتوثيق والحفظ، ناهيك عن الكتابة على منوالها من قبل العديد من الناس المعروفين أو المجهولين.
ويوضّح أن موضوعات قصيدة الدارمي النسوية تتنوع حسب ظروف الحياة وطبيعتها، لكنها لا تتخلى عن موضوع الحب والمعاناة الناجمة عنه، بحيث يكون في الأغلب الأعم إطارا محددا للقصيدة في كل تشكيلاتها وتنويعاتها. تتميز بشكل عام بكونها قصيدة مباشرة قصيرة وبسيطة الطرح دون أن تتخلى عن عمق طرحها، كما ويفهمها الجميع على الرغم من اختلاف مستوياتهم الثقافية وأصولهم الاجتماعية. وهي بلا شك قصيدة ميلودرامية مؤثرة، أقرب ما تكون إلى أغنية حزينة صادمة ومثيرة للمشاعر. وهي على ذلك قصيدة موروثة عبر الأجيال وتنتقل شفاهيا.
وعلى الرغم من عدم وجود اسم أنثوي واضح ومثبت وراء قصيدة الدارمي، فنحن على يقين من أننا نواجه المئات من الأسماء المجهولة ذات الجودة العالية والابتكار في هذا النوع من الأغاني أو القصائد المغناة. لذا فالدارمي هو الاسم الشائع لهذا النوع من الشعر الشعبي، وهي أغنية من تأليف وتلاوة النساء العراقيات بشكل أساسي.
الحب هو المرشد الأساسي لكل الأغاني، مترافقا هنا مع نقاط اشتراك تجمع الجوانب الاجتماعية المهيمنة على ذهنية وحياة البشر
وعلى الرغم من أن هذا لا يعني أن الكثير من هذه الأغاني قد تم تأليفها من قبلهن، إذ في مناسبات عديدة تم ترديدها وغنائها وتأليفها خفية من شعراء ذكور مجهولي الهوية أيضا حسب التقليد المتبع، إلا أنها لا تزال ملتصقة سمة وموضوعا وظرفا بالمرأة بسبب موضوعاتها الخاصة ونغمة طربها وظروفها الحيوية.
فالمرأة وإن لم تكن حاضرة بالاسم كشاعرة ومؤلف حقيقي لهذا النمط من الشعر الشعبي، لكنها غير بعيدة عنه في كل النتاج الشعري لقصيدة “الدارمي” المدون منه في الكتب الحديثة أو ذاك الذي ما زال متنقلا في متون الأغاني والذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي على اختلاف طبقاته.
سميت بهذا الاسم لبنيتها الداخلية الخاصة كأغنية تتم في ظرف من السرية والخفاء. مع ذلك لا يمنع إطلاقا من تسميتها بمسميات أخرى تبعا لصفات هذه القصيدة أو لعلاقتها بأمكنة ومقاطعات ومدن معينة في البلاد، لهذا حملت مسميات أخرى بعضها قريب الإيحاء ولصيق بالمعنى المتعارف عليه، وأخرى بعيدة المعنى عن أصل الدارمي كقصيدة كما عليه في هذه التعريفات التي يوردها العديد من الباحثين مثل: شعر البنات، غزل البنات، نظم البنات، الموشح أو التوشيح أو الهايكو العراقي وأخرى غيرها.
ويشير إلى أن الحب هو المرشد الأساسي لكل الأغاني، مترافقا هنا مع نقاط اشتراك تجمع الجوانب الاجتماعية المهيمنة على ذهنية وحياة البشر. الحب دائما هو نقطة الضعف في تلك الروح القوية التي هي المرأة. الحب وسياقاته تتبعها أينما مضت في بيت الأهل أو بيت الزوجية وفي الحقل أو السوق أو الجلسات النسائية، وهروبها الوحيد في كل هذه الأحوال المذكورة سابقا وغيرها لا يتم إلا من خلال الغناء والترنم وإنشاد هذه القصائد سواء في وحدتها الطويلة أو في رفقتها الخاصة. بالإضافة إلى ذلك لا بد من معرفة أن حب النساء ومعاناتهن هو الموضوع الرئيسي للدارمي، وكل ما يجر إلى قضايا ذات وقع قريب منها ومن وضعها في المجالات الاجتماعية واليومية العامة. إن قصيدة الدارمي تعتبر أفضل مثال لمرثيات الحب ومعاناته لدى النساء والفتيات، وهو الشكل الأكثر طبيعية من أشكال التعبير الغنائي العاطفي اللصيق بشجون القلب وأحواله.