"خ ي ط ال ر و ح" رواية مغامرة تخلخل السائد والراكد

إسماعيل البويحياوي يولد حكاياته ويرحل بنا بين بادية المغرب ومدنه.
الأربعاء 2024/12/25
رحلة بين الطقوس والحكايات (لوحة للفنان فريد بلكاهية)

عرف الكاتب والباحث المغربي في الأدب الرقمي إسماعيل البويحياوي بكتابته للقصة القصيرة، وبأسلوبه الذي ينفتح على العوالم الرقمية والتكنولوجيا والتجريب، وقد أفاد الكاتب من كل ذلك في بنائه لروايته الأولى “خ ي ط ال ر و ح”، التي تأتي استكمالا لتجربته المغامرة في الكتابة دون انفصال عن القراء.

قدم القاص المغربي إسماعيل البويحياوي روايته الورقية الأولى الموسومة بـ”خ ي ط ال ر و ح”، مؤخرا. وقد شدني خيط الروح لأتسلقه بلهفة وبنهم من أجل اكتشاف ما وقر في روح المؤلف المسكونة بالسرد والحكي، وما ترسب في روح القارئ من رحيق المعنى.

إنه خيط الروح الموصول حينا والمقطوع حينا، في اتصال وانفصال، في حضور وغياب، في ذهاب وإياب، في رسو وإبحار، تتداخل وتتراسل عبره كل المفارقات وفقا لأزمنة السرد وأمكنته وملابساته.

خيوط الرواية

حين يتأمل القارئ ويتمثل المشهد السردي، يجد نفسه ضمن جلسات الحكي المتعددة والمتنوعة والغنية بالطرائف وبتثبيت القيم كذلك (حكايات الجدات، والحكايا الشعبية في فن “الحلقة” المغربي). حكاية ضمن حكاية ضمن حكاية، هذا التوليد المتواصل للسرد الذي يعكس طريقة اشتغال المؤلف، كما هو معروف عليه، في تناص واضح، على مستوى شكل السرد وبنائه، مع قصصه الترابطية، الورقية منها والرقمية، حيث يعتمد تقنية الترابط النصي، فما إن تستمتع بقراءة مشهد سردي بديع حتى تجد خيطا آخر يجرك لمشهد سردي في حكاية أخرى، وهكذا تَتَتَبَّعُ الخيوط المتشابكة كأنك في متاهة حكي لا تنتهي.

ومن الخيط تُنسجُ خيوط، تتوازى مرة وتتشابك مرارا. ومن قراءتنا المتواضعة نفرد قراءة لعدد من الخيوط التي غزلها الكاتب في روايته.

t

الخيط الأول هو خيط الأمومة (الحبل السري) ذاك الرابط الأصيل والمتين بين الوالدة والمولود، الذي يُقطع ساعة الطلق والقذف من جنة الرحم، إلا أنه يستمر في الارتباط عبر صدر الأم وحجرها، ثم ينقطع مرة أخرى من خلال الفطام. وبعد كل تلك المراحل، يستمر اتصال الفرع بالأصل إلى ما لا نهاية.

ونجد خيط السفر (الطريق من البادية إلى المدينة) الذي يربط السارد/ السُرَّاد بالأصل، يُقطع أحيانا ثم يُوصل بمجرد الرجوع فعليا إلى الأرض (السفر مع الوالدة إلى الموطن الأصلي)، أما على المستوى الرمزي والروحي فهو دائم الوصل، كون البادية شقا أصيلا ساكنا في وجدان المؤلف/ السارد لا تفارقه (البادية التي في قلبي).

كما نذكر خيط السرد (خط أريان) الذي يمسك، من خلاله، المؤلف زمام السرد ويحرك الخيوط بحبكة عالية كأني بها لوحة رقص بهيجة للدمى الخيطية في انسجام واتساق تامين. يجعلك السارد، عبره، تسافر في الزمن عبر خط رجعة رفيع بين التخييل السردي والمعيش الحقيقي، والذات الساردة في تناغم منقطع النظير بكل السلاسة والخفة الممكنتين.

هذا الذهاب والإياب بين الهنا والآن وبين الهناك والأمس، حيث يجعلك الحكي تنفصل عما تعيشه اليوم؛ لا تلفاز، لا هاتف ذكي، لا موضة، لا مواقع تواصل اجتماعي، وإن كان قد انطلق السارد منها (الهاتف المحمول واللوحات الإشهارية الكبرى التي تعج بها المدن..) ليرجعك ويضعك في بؤرة المحكي اليومي وتفاصيله، لزمن ولّى، بدءا بالروائح والأطعمة إلى اللباس وكل الأعمال الفلاحية إلى قيم الشهامة والرجولة والإخلاص، ولكل ما يؤثث المتخيل الشعبي/ البدوي الأصيل.

هناك أيضا خيط اللغة، حيث تميز العمل بلغة فصيحة بسيطة، لم يعتمد كثرة الاستعارات والترصيف والتزويق، مع الاعتماد على عبارات لا بأس بها من اللغة الدارجة “لهجة المنطقة” لتعزيز الخصوصية وتثبيت الهوية. كما ركز المؤلف في كتابته على جمل قصيرة، كعادته، تسيطر عليها الكثافة الشديدة، وقد تميزت بـ”تقطير الحكي”، كما سماه الناقد المغربي نجيب العوفي، وهي ضاجَّة بالإيحاءات وحبلى بالدلالات والمعاني المتعددة والمتنوعة.

كذلك نجد خيط الأدبية، إذ يتعاقد معنا المؤلف كقراء، بشكل صريح ويخبرنا من خلال غلاف مؤلفه أننا بصدد رواية، ثم يقول لنا في صفحة سرده الأولى إنه سيحكي لنا عن ذاته وعن تفاصيل رحلته صحبة والديه من البادية إلى المدينة، ويدعونا إلى السفر معه على متن هذه الحكاية. يظل سؤال التجنيس يطرح نفسه باستمرار في السردية العربية، وإن كان يرى أغلب النقاد الجدد أن الكتابة الحديثة تتجاوز مسألة التجنيس وتؤمن بتداخل الأجناس حتى يتحرر المؤلفون من قيود وقوانين الكتابة ويطلقون القريحة لإبداعاتهم.

معالجة القضايا

Thumbnail

هل نحن هنا أمام رواية أم سيرة ذاتية؟ أم هما معا؟ فكيف نميز بين النوع الذي وسم به المؤلف عمله، وبين ما سرده داخل دفتي المؤَلَّف؟

يقال عن الرواية إنها النوع الأدبي المتسم بالكرم، كونه، تتداخل فيه الأنواع، ويحتويها جميعها. وتبقى للقارئ الأحقية في تحديد ما يقرأ، ووضع المؤشر أنَّى شاء، سواء جهة الرواية أو جهة السيرة الذاتية، أو التخييل الذاتي، وفي هذا السياق يرى الناقد محمد الداهي أنه يمكننا تجنيس “أي مشروع ضمن السيرة الذاتية إن توافرت فيه الشروط المتوخاة. لكن ليست هذه الشروط ثوابت متعالية ومطلقة ومانعة (وَهْمُ أبدية الجنس الأدبي)، وإنما هي ‘معايير القراءة’ التي تؤطرها الظروف المتغيرة، والأنساق الثقافية المتجددة.” إن القراءة تصنع هوية للكتابة عبر التحول الذي تعرفه العلاقة الجديدة بين الكاتب والقارئ.

قد يمكننا أن نصنف هذا المؤلف ضمن “التخييل الذاتي” الذي يمكن أن يقول فيه المؤلف ما شاء عن ذاته، وتفاصيل حياته مستندا إلى سراد كثر. وقد تعددت الأصوات السردية في “خيط الروح” وتداخل السراد مع السارد الأصلي لتنشيط جلسات الحكي تلك (الخال، صديق السيد الفقير، الوالدة، ابن الخال، الشيخ، الوالد…). كما تعددت فضاءات السرد (الشاحنة، العشة، السوق، بيت الخال في البادية، المحكمة، ساحة الفنون في الجوطية…).

إن تفاصيل الرحلة وحدها محكي قائم بذاته، كأنها رواية أخرى، ضمن خيط الروح، تأخذك إلى طفولة السارد (محكي الطفولة)، ويجعلك ترى العالم بعين طفل يُصوِّرُ المشهد بكل الروعة الممكنة من خلال سرد تفاصيل كثيرة تنم عن الارتباط الروحي العميق بالأم الحنون والأب المسؤول.

قارئ الرواية حين يتأمل ويتمثل المشهد السردي، يجد نفسه ضمن جلسات الحكي المتعددة والمتنوعة والغنية بالطرائف

 تفاصيل الطريق، الألوان، تصرفات الموجودين في الشاحنة بكل الدقة الممكنة (وإن كان من السندات التي اعتمدها السارد/ الطفل الرضيع، رواية الوالد والوالدة والخال لاستحالة تذكر أحداث بعيدة كتلك)، بالإضافة إلى التفاصيل الدقيقة في تصوير المشهد الذي كان يعاينه ويستمتع به في طريق العودة من المدرسة، من خلال الفرجة المسائية الممتعة في ساحة “الجوطية” (فن الحلقة، والأهازيج الشعبية، ورقصات “احماد وموسى” وغيرها من التراث الشعبي المغربي العريق)، كل ذلك ينم عن ذكاء الطفل/ السارد الذي سيجعل منه فيما بعد كاتبا.

تتناص رواية “خيط الروح”  بشكل صريح وضمني كذلك، مع المجموعة القصصية للمؤلف نفسه “ندف الروح”، قد أجمعت أغلب الدراسات النقدية التي تناولت المجموعة على كون تلك القصص القصيرة جدا، كانت سيرة ذاتية بشكل حديث وفريد شديد الاختزال والكثافة. وهما معا يسيران في نفس خط السرد سواء على مستوى شكل الكتابة الترابطية وبنياتها أو منهج الحكي عن (الروح/ الذات) وما يرتبط بها ويشغلها ويؤلمها ويسعدها، إلا أن الثانية تميزت بطول النَّفَس والاسترسال، كأن القصص أنجبت الرواية.

وفي خيط الموضوع تعالج الرواية قضايا أساسية شغلت المغاربة، وتشغلهم إلى اليوم. حين نقرأ تفاصيلها، نصادف تقاطعات كثيرة مع ما عشناه أيضا، فهناك خيط متين ينظم ذاكرتنا الجمعية المشتركة (جيل سبعينات وثمانينات القرن الماضي تحديدا).

من بين القضايا المحورية للرواية قضية الهجرة من البادية إلى المدينة، التي كثرت حينها بسبب توالي السنوات العجاف التي قلصت ما تنتجه الأرض من خيرات يعيش بها الفلاحون. وفي حالة السارد، هناك، سبب وجيه أيضا، هو رغبة الأم الملحة في التحاق ابنها بالمدرسة، قد كانت ترى فيه رجلا مميزا ومختلفا مذ كان صغيرا، فأبت إلا أن تناضل من أجل تحقيق ذلك رفقة والده.

المؤلف يمسك زمام السرد ويحرك الخيوط بحبكة عالية كأنها لوحة رقص للدمى الخيطية في انسجام واتساق تامين

بعد الهجرة مباشرة، تتولد صعوبات وعقبات البحث عن المسكن والعمل. لم يكن الأمر سهلا أبدا على الأسرة المهاجرة، الوافدة من دكالة إلى الرباط، فلكي تجد لنفسها مكانا وتحقق ذاتها في وسط جديد، مع الحفاظ على رباطة الجأش وأخلاق أهل البادية الطيبين، والتشبث بقيم الدين التي يؤمن بها الوالد (السيد الفقير)، كان لزاما عليها الصبر والتحمل الشديدين على ما عانته من قِبل بعض الناس ومن أعوان السلطة تحديدا. (ثورة السوق التحتي الشعبية ضد الظلم والرشوة والشطط في استعمال السلطة) حيث كانت الأسرة تبيع الملابس كأغلب باعة الحي، من أجل كسب القوت الحلال.

ثم قضية امتداد النضال من مقاومة السلطة الأجنبية (الاستعمار الفرنسي) في البادية إلى مقاومة السلطة المحلية في المدينة، ومن الصراع مع “الخونة” إلى الصراع مع “المرتشين”. وقد مثل المؤلف لذلك في صفحات متعددة، وجعلها خاتمة الرواية، عبر محاكمة رمزية يأمل، السارد، من خلالها تحقيق الحق والعدالة والانتصار لعزة المواطنين وكرامتهم.

“خ ي ط ال ر و ح” رواية متوسطة الحجم بأبعاد شاسعة شَسَاعَة اليَمِّ ومُخلخلةً السائد والراكد. تعيش الرواية الحديثة في حالة مستمرة من التجريب، كثورة على طريقة الكتابة التقليدية المتمحورة حول البطل الرئيس والشخصيات الثانوية، وأحادية الصوت والسرد. وهذا نص جديد أيضا، متميز بترابطاته الكثيرة المُحكمة والمحبوكة كالضفيرة بمنتهى الاعتدال والتوازن، تتداخل فيه السجلات والحقول الدلالية، لكن ذلك لا يجعل القارئ يشعر بغرابة في المبنى ولا نشاز في المعنى، بل يجعله السارد يغرق في “الإمتاع والمؤانسة” والتشوق لمعرفة القادم من الأحداث.

ونختم بقول المؤلف “تمسكوا بخيط الروح”.

ويذكر أن رواية “خ ي ط ال ر و ح” صدرت عن جامعة المبدعين المغاربة للثقافة والفن وصناعة الكتب، مطلع شهر نوفمبر 2024، وقد قدم لها الناقد والمبدع المغربي محمد معتصم، وجاءت لوحة الغلاف للفنان التشكيلي المغربي محمد سعود.

12