المرأة في إعلان.. لا يليق الأسود إلا بالمخلصات

نشر معهد “غالوب” Gallup في نيويورك إحصاء جاء فيه “إن النساء ذوات الشعر الأسود هن أكثر بنات حواء إخلاصا”، وعلى إثر نشر هذه الإحصائية زادت نسبة ذوات الشعر الأسود زيادة كبيرة، كما زادت أيضا أرباح شركات إنتاج صبغة الشعر الأسود.
وتتفاعل أنساق العلامات اللسانية والأيقونية لإنتاج الخطاب الإعلاني الذي يمثل أنماطا خطابية عديدة، ويركز غالبا على عنصر جدلية اللغة والصورة كنسقين أساسيين تعتمدهما الإعلانات في توجيه المستهلك بغرض التأثير على اختياراته إلى أبعد الحدود، بل استعباده.
إننا أمام نص/خطاب إخباري يحمل معلومات وإحصاءات، مبطن بخطاب إعلاني صريح وصارخ. يعتمد هذا النص أسلوبا حجاجيا منذ البداية من أجل إقناع الناس باستهلاك منتج الصبغة السوداء، وذلك لاعتماد مروجه على قيمة ومكانة معهد “غالوب” الأميركي المختص في الإحصائيات والمشهود له بالمصداقية والدقة المتناهية.
كل ما يصدر عن المعهد حقيقي! إنه تسويق للوهم وتقديم له في قالب حقيقي يضج بالصدقية المزيفة، يخاطب استيهامات المستهلكين ولاشعورهم المسكون بالرغبات الدفينة والمسكوت عنها. نص قصير على المستوى القرائي، مكثف جدا ضاج بالكثير من الإيحاءات والرموز، ويلوذ بالدراسات المتنوعة والتيارات اللسانية والسيميائية والسيكولوجية والأنثربولوجية، والتواصلية من أجل تفكيكه واستكناه دلالاته.
إنه نص سردي، يعتمد الكثير من تقنيات وعناصر السرد، يقوم على الشخوص، والعقدة والحل كباقي المحكيات التي تشد المتلقين وتسافر بأخيلتهم وتستجيب، غالبا، إلى أفق انتظاراتهم.
الإعلانات لا تصرح بكل شيء ولا تقول لنا اشتروا منتجا، وإن كان هذا هو هدفها الأول، فكل ما تسكت عنه يصب في استدراجنا إلى خانة الشراء
يركز النص على كلمات مفاتيح فيه، وهي: النساء/المرأة، اللون الأسود والتساؤل عن علاقته بالإخلاص في مقابل إقصاء باقي الألوان/الخائنة، ثم ثنائية إخلاص – خيانة، ثم كلمة زيادة التي تكررت أكثر من مرة، وكلمة أرباح.
منذ البدء، واستعمال المرأة في التسويق والاستهلاك طاغ، لقد اعتبرت دوما مادة لعرض المنتجات، سواء كانت تستعملها أو يستعملها الآخرون، فهي تُقحم فيها قهرا وحيفا.
والولايات المتحدة المدافعة عن قضية مقاربة النوع لا تتوانى عن خرق هذه القيمة وهذا المبدأ، وتساهم باستمرار في تبضيع النساء وتعليبهن، إنها مفارقة مقبولة بمنطق السوق الذي يسخر كل شيء لتحقيق الربح.
يعمل هذا الإعلان على تثبيت تَمَثُّلٍ في وجدان الناس والنساء أنفسهن، يهدف إلى إلصاق تهمة الخيانة بكل نساء الأرض باستثناء ذوات الشعر الأسود المخلصات العفيفات، من أجل تكريس نمطية عند الأميركيين ومن خلالهم عند كل العالم، فهو يخاطب كل بنات حواء، بل حتى حواء نفسها التي عُرفت بشعرها الأصفر.
عرف الأسود، بحسب الكثير من السياقات، برمزيته إلى دلالات متنوعة، فهو لون الفخامة والترف والأناقة، وقد يرمز إلى القوة والسلطة، والرقابة، والغموض والسيطرة، والسر كما يحيل على الحداد والحزن والليل والظلام والجنس والسكون والجمال، لقد جعل الإعلان في هذا النص للأسود بعدا آخر جديدا انطلاقا من رمزية الجمال والفخامة، وحصره في نمط محدد صنعه للمستهلكين سواء كانوا من النساء اللواتي يشترين الصبغة السوداء ويستهلكنها أو من الرجال الذين قد يقتنونها لنسائهم من أجل أن يُصنفن في لائحة المخلصات العفيفات.
يستعمل الإعلان هنا كل الأفعال الشرطية المنعكسة بغاية إخضاع المستهلك بكل إذعان دون رد فعل من جهته، سوى الشراء ولا شيء غير الشراء.
إن عملية التواصل هذه بمنطق الخطاب الإعلاني فعالة وناجحة بامتياز لكون الإعلان لا ينتظر ردا أو تعليقا أو انتقادا أو تعقيبا على ما يتلقاه المستهلك من رسائل، إنه يسلبه هذا الحق، فهو يريده مغمض العينين مبلل الذهن.
تخوض الإعلانات هذه المناورة على المتلقي/المستهلك من خلال آليات جمالية للتسويق يعتمد فيها على ممارسته لسلطتين: الأولى سلطة عنيفة حيث تتسلل إليه من خلال عنصر القيم التي تعتبر أساس المجتمعات، والثانية سلطة ناعمة جدا تداعب من خلالها مخيال المتلقي كأنه يخدره تخديرا ويأخذه من مرحلة اندهاشه واكتشافه للمنتج إلى مرحلة استهلاكه له.
والقيمة هنا، هي الإخلاص، إخلاص النساء لرجالهن كأنهن الوحيدات المعنيات به دون الرجال.
وبالنظر إلى أهمية هذه القيمة، فقد تزايد عدد المستهلكات للصبغة السوداء، إرضاء لرغباتهن الدفينة في الصفاء وفي التميز، بل حتى دخولهن ضمن لائحة إحصاءات النساء المخلصات ليُعترف بإخلاصهن. هذا الإخلاص قد يكون مفتقدا وتتوق إليه المرأة “الخائنة” مما يجعلها تنخرط في الشراء تحقيقا لرغبتها في اللحاق والتصنيف في ركب المخلصات واستمتاعها بلحظات “التطهير الشرائي” كما سماه السيميائي المغربي سعيد بن كراد.
إن الإعلانات قد قامت بعزلها كذات، وخلقت لها أوضاعا وحالات تنافسية جعلتها تتدافع مع الأخريات لتظفر بالتميز، ويتحدد مستوى انتمائها، وبذلك يكون الإعلان قد نجح في بيع وعود بالإخلاص لكل النساء، حتى الخائنات منهن، وليس ببيع منتج الصبغة السوداء فقط. وفي باب القيم أيضا، يعمل الإعلان على تغيير الذوق العام من خلال منطق زحزحة العلاقات وتبديل الوقائع بل حتى المواقع، ثم محو النماذج الثقافية العالمية الأخرى والرغبة في تعميم الأنموذج الثقافي كما تروج له “ماما أميركا”.
أما الجانب الناعم في هذا الخطاب الذي يلج منه الإعلان إلى وجدان المتلقي، فينفذ إليه من خلال استعمال حواء كرمز للإغواء واستدراج الرجل كما الخطيئة الأولى إلى اللذة المرتجاة.
بالنظر إلى أهمية هذه القيمة، فقد تزايد عدد المستهلكات للصبغة السوداء .هذا الإخلاص قد يكون مفتقدا وتتوق إليه المرأة “الخائنة” مما يجعلها تنخرط في الشراء تحقيقا لرغبتها في اللحاق والتصنيف في ركب المخلصات واستمتاعها بلحظات “التطهير الشرائي”
وثمن شراء المنتج هو بالضرورة ثمن شراء اللذة التي وعد بها الإعلان حين فكر مكاننا واختار لنا الطريق وتعرف على رغباتنا الدفينة. إنه استدراج للمرأة ذاتها لاقتناء الصبغة السوداء لتجعلها وسيلة استدراج للرجل كما فعلت حواء في حكاية الخلق الأولى. والإعلان يضمر باستمرار، اقتران اللذة بجسد المرأة وحصر كل وظائفها واختزالها في ما يمكنه أن يحقق الراحة والرضا لدى الرجل.
تكررت في هذا الخطاب كلمة زيادة ثلاث مرات، ونعرف أن التكرار عنصر أساسي وفعال في الإعلانات، يروم الحفر والترسيخ في أذهان المتلقين/المستهلكين عموما.
إنه خطاب يقوم على عنصري “التقرير والإيحاء” كما سماهما رولان بارت، المباشر وغير المباشر، الظاهر والخفي. لا يصرح الإعلان بكل شيء ولا يقول لنا اشتروا منتجا، وإن كان هذا هو هدفه الأول، فكل ما يسكت عنه يصب في استدراجنا إلى خانة الشراء، إنه الصمت الضاج بالدلالات والذي يلامس كل ساكن في ذوات المتلقين، بل هو الذي يفجره ويجعله يتخيل ويتلذذ وهو يترقب المنتج الذي سوف يستهلكه، وكيف ستكون حاله وهو يستهلكه.
تلخص هذه الفقرة لرولان بارت ما تضمره الإعلانات وما تعلنه لترمينا في هوة التطويع والتطبيع “الرسالة التقريرية هي التي تتحمل المسؤولية الإنسانية عن الإعلان: إن كانت جيدة نجح، وإن كانت رديئة فشل. ولكن ما معنى أن تكون رسالة إعلانية ما جيدة أو رديئة؟ إن القول بفعالية شعار ما، ليس معناه تقديم جواب، لأن سبل هذه الفعالية تبقى غير أكيدة: يمكن لشعار ما أن يغري دون أن يقنع، لكن يمكنه مع ذلك أن يدفع إلى الشراء عن طريق هذا الإغراء وحده. ويمكننا القول، مستندين إلى الصعيد اللغوي للرسالة، الموضوعات الحلمية الكبرى للبشرية، محدثة ذلك التوسيع الكبير للصور الذي يميز الشعر نفسه، وبعبارة أخرى، تكون معايير الشعر: صور بلاغية، واستعارات، وتلاعب بالكلمات. كل هذه الأدلة المذكورة، وهي مدلولات مستترة، بل إنها لتمنح، بذلك الإنسان الذي يتلقاها، القدرة على خوض تجربة كلية. وبكلمة واحدة، بقدر ما تكون العبارة الإعلانية مزدوجة بقدر ما تكون متعددة، فإنها تنجز وظيفتها بصورة أفضل كرسالة إيحائية”.
إذا كانت الإعلانات توظف كل العلامات اللفظية منها والصورية، والأيقونية، والإيمائية، وتطور تقنياتها التواصلية كل يوم من أجل استدراج المستهلكين وتطبيعهم بغية إنتاج وصنع شكل معين ومجتمع مطيع يُتحكم فيه ويُطوع بكل مرونة، فإن السيميائي متمكن من كشف ألاعيبها المضمرة، وسر خدعها المسترسلة من خلال اعتماده على الدرس والتحليل لكل العلامات المشكلة للإعلانات ولفضائها.
يعتمد السيميائي على الكثير من مدارس التواصل، باعتبارها المدخل الأساس لدراسة الظواهر الإنسانية، عامة، ومنها الإعلانات.