"خمس عشرة جولة".. مونولوغ باطني لملاكم على الحلبة

الملاكمون ضحايا تكفّر بهم الجماهير عن غرائزها المرَضيّة.
السبت 2021/12/18
غوص في وعي الملاكم على الحلبة (لوحة للفنان رافي سركي)

الذين لم يمارسوا الرياضة في أعلى مستوى لا يدركون حقيقة ما يكابده الرياضيون البارزون، فهم لا يكادون يعرفون عنهم إلا كونهم أبطالا يحققون النصر تلو النصر، ويمنحون أنصارهم الفرحة، وأقطارهم المجد والفخر؛ وينسون أنّ أولئك الرياضيين لم يبلغوا ما بلغوه إلا بالجهد والمشقة والصبر والتضحية، وأن وراء التألق والنجومية والشهرة معاناة طويلة من عرق ودم ودمع لا تزول في الغالب إلا باعتزالهم الرياضة.

لقد حظيت الرياضة، بوصفها نشاطا اجتماعيا شهد انتشارا واسعا منذ مطلع القرن العشرين، باهتمام بعض الكتاب فاتخذوها ثيمة رئيسية في أعمالهم السردية، أمثال جان إشنوز في “عَدْو” عن البطل العالمي التشيكي إيميل زاتوبيك، وفرنسوا بيغودو في “اللعب بهوادة” عن مدرب فريق كرة قدم يوصي لاعبيه بالخطّة الواجب توخّيها، وجون كينغ في “مصنع كرة قدم” عن الطبقة العمّالية في إنجلترا من خلال أنصار فريق تشيلسي، وأوليفيي آدم “الوزن الخفيف” عن ملاكم هاوٍ يواجه مصاعب الحياة.

 ألف الكثير من الكتاب سرودا عن رياضيين ينظر إليهم الراوي من الخارج، مهما أوغل في سبر أعماقهم وتصوير أحاسيسهم، ولكن من النادر أن نجد رواية عن الرياضة على لسان البطل نفسه، وهو في صميم مباراة حاسمة لا يُعرف مآلها، كما في رواية الفرنسيّ هنري دوكوان “خمس عشرة جولة”، التي صدرت عام 1930 وأعيد نشرها مؤخّرا.

السّمندل الممسوس

الفيلم المأخوذ عن الرواية يغوص في عالم الملاكمة ويسرد آخر مباراة خاضها السارد وهو بطل ملاكمة فرنسي

كاتب رواية “خمس عشرة جولة” هنري دوكوان (1890 – 1969) هو والد ديديي دوكوان الحاصل على جائزة غونكور عام 1977، ولكنه بخلاف ابنه لم يكن أديبا، ولم ينشأ نشأته، إذ عرف التهميش والخصاصة منذ طفولته، وقد بلغ به الفقر أنه كان يأكل الحشرات المقلية لسدّ رمقه.

منذ سن الثامنة بدأ يسعى لكسب قوته، فعمل ساعيا لتوزيع اللبن، ثم مساعدَ فرّاء، ثم سبّاحا يعرض مهاراته تحت جسر أوسترليتز بباريس ويقطع نهر السين سباحة حتى في أعياد نهاية السنة مقابل بعض النقود يجود بها عليه المتفرجون، وكان يطلي جسده بدهن زفر يلتقطه عند بعض الدبّاغين كي يحمي نفسه من برودة الماء.

وذاع صيته فأُطلِقت عليه كنية “ريتون لو تريتون” أي السّمندل الممسوس، وكانت الشرطة قد أدرجته في ملفاتها كفرد يشتبه في اختلال مداركه العقلية، غير مسلح ولكنه يمثل خطرا على سلامة حركة النقل في السين. بيد أنه ما لبث أن صار بطلا في السباحة على النطاق المحلي، ثمّ الوطني؛ إذ فاز بسبعة ألقاب في السباحة الحرة، وصار قائدا للمنتخب الفرنسي في كرة الماء. ثمّ عُيّن ضابطا في عسكر زواوة (فرقة المشاة الاستعمارية التي أنشأتها فرنسا عام 1830 عقب احتلالها الجزائر)، ثم قائد فرقة طيران خلال الحرب الكبرى، حيث أصيب في رجله وكتفه إصابات بالغة، وتمّ توسيمه كبطل من أبطال الحرب.

انتقل بعد ذلك إلى الكتابة، ولكن دون أن يهجر الرياضة؛ إذ عمل ناقدا في مجال الملاكمة بجرائد “لوتو” و”لانْترانزيجان” و”باري سوار” ثمّ خلَف ليون سي في إدارة تحرير مجلة “الملاكمة والملاكمون”، مثلما خلف تيودور فيين في الإشراف على قاعة “وندرلاند” للملاكمة، وكذلك نادي “سليكت بوكسينغ”.

غاص هنري دوكوان في عالم الملاكمة حتّى خطر بباله أن يؤلف عنها رواية، ولكن من الداخل، فكانت “خمس عشرة جولة” التي تروي مباراة في الملاكمة بين بطلين من وجهة نظر أحدهما وهو أمام خصمه على الحلبة. فكانت منطلقا لتأليف أعمال مسرحية كللت بالنجاح. وكان قد اكتشف قبلها السينما وأخرج شريطه الأول “توبوغان”.

وسرعان ما لمع اسمه في عالم الفن السابع، لاسيما بعد أن زار هوليوود برفقة زوجته الأولى، وخبر تقنيات شركة “يونيفرسال بيكتشر” السينمائية، فلما عاد إلى فرنسا عانق مسيرة جديدة اتسمت بتنوع الأجناس: أفلام مقتبسة من روايات، أفلام بوليسية، أفلام تاريخية، أفلام جوسسة، دراما سيكولوجية… فكانت الحصيلة خمسة وأربعين شريطا، بعضها يعتبر من كلاسيكيات الأفلام الفرنسية والعالمية أمثال “أحبّ كلّ النساء”، “الدومينو الأخضر”، “عودة عند الفجر”، “حقيقة بيبي دونج”، “الغرباء في البيت”…

من بين الأفلام الأولى التي أخرجها دوكوان فيلم “توبوغان” أو “باتلينغ جو”، وقد عهد بالدور الأول فيه لبطل الملاكمة في الوزن نصف الثقيل جورج كاربنتيي (1894 – 1975) وكان قد اعتزل الملاكمة وقتها. الفيلم عبارة عن ميلودراما، ولكن قيمته تكمن في مقاربته التوثيقية عن عالم الملاكمة، حيث أدمج دوكوان في إخراجه صورا واقعية عن مباريات خاضها كاربنتيي نفسه، وصوّر عن قرب الأجساد المرضوضة، والنظرات المخبولة تقريبا تحت وقع اللكمات المتكررة، والمتفرجين الذين يهتفون انتصارا لهذا أو ذاك، ومظاهر الفرح التي تكسو وجوههم عند فوز منظورهم.

وكانت الفكرة التي أراد دوكوان تمريرها هي أي أن الملاكمة في النهاية هي عرض فرجوي تطهيري cathartique، وهي التي دفعته إلى تأليف روايته هذه، التي جعل لها عنوانا فرعيا “حكاية مباراة في الملاكمة”.

مونولوغ على الحلبة

غوص في وعي الملاكم على الحلبة (لوحة للفنان سليمان جوني)

تسرد الرواية لحظة بلحظة آخر مباراة خاضها السارد، وهو بطل ملاكمة فرنسي يواجه بطلا ألمانيا يدعى جيغر، وقيل إن الكاتب استوحى ملامحه من الألماني ماكس شميلينغ (1905 – 2005) أول أوروبيّ يفوز ببطولة العالم في الوزن الثقيل. ولكن خلافا للصحافي والناقد الرياضي دومينيك براغا (1892 – 1975) في قصة “5000” التي ينقل فيها تيارَ وعي باطني لعدّاء خلال مسابقته، يركز دوكوان على ما يعيشه بطله في داخله دون أن يقطع عليه سارد خارجي انسياب وعيه، وإذا بالحلبة تتحول إلى مسرح تدور على خشبته تراجيديا رياضيّة لا مجال فيها للتصنّع والخداع، فيما يقوم المتفرجون مقام الجوقة في المسرح الإغريقي.

 هي دقائق رهيبة تمر بذلك الملاكم، فيسرد أطوار مباراة يعيشها بينه وبين نفسه، لأن الرواية هنا تتلبس بوعيه، وترصد مناجاته، لتنقل من الداخل واقع الملاكمة، بفوضاها وتناقضاتها، أي أنها تكتب اللحظة مع ما يتخللها من تقلبات الأنا، وتستكشف حالات الوعي المتناقضة لدى البطل، حيث تتناوب بين النشوة والمرارة، الغبطة والإحباط، الملاء والفراغ. ويتوقف السارد عند كل جزئية، فتبدو الرواية أشبه بشريط سيكولوجي بطيء ومديد، وفي ذلك تأكيد على نسبية الزمن، فهو سريع لدى المشاهد، شديد البطء بالنسبة إلى من يعاني آلاما مبرّحة، لا يدري بالضبط متى تنتهي.

وما يلفت الانتباه في الرواية، بصرف النظر عن بعدها التحليلي، هو مضمونها الفينومينولوجي؛ ذلك أن قسوة مهنة الملاكم تجد حضورها بين الواقع المعيش لجسد ينهار أمام العنف المسترسل، ووعي الملاكم بأنه ممثل في عرض ترفيهي، خاضع لنزوات جمهور يفضل دائما عودة أضعف المتنافسَين.

 المفارقة أن الملاكم يرضى عن طواعية بأن يلبي نزعة البصبصة لدى المتفرج، وأن يسفح لأجله أول قطرة دم، ولكنه سرعان ما يبدو ضحية تكفّر بها الجماهير عن غرائزها المرَضيّة. يقول السارد “ها نحن وسط الحلبة. وجيغر يضحك. وجهه مضمّخ بالدم. يضحك وسط الدم. إنه شيء مرعب. الدم له رائحة خاصة منفرة. وهذا يبعث فيّ نشوة. أنا بصدد قتل إنسان. جيغر يبصق. يبصق دما أسود تماما. مأساة وشيكة. القاعة تصمت. أقتل رجلا وسط الصّمت”.

أي أنّ الرّياضي، في النهاية، يتعذّب ويعرّض نفسه أحيانا للموت كي يُسعد الآخرين، فيرفّه عن الجماهير ويثري رجال الأعمال. وكم من رياضي لقي حتفه أثناء ممارسة رياضته: الهادي بالرّخيصة في كرة القدم، فران كريبن في السباحة، فرانك هايس في سباق الخيل، فلوديمير سميرنوف في المبارزة بالسيف، تيمور فايزوتدينوف في الهوكي على الجليد، أيرتون سينّا في سباق السيارات، كنود إينماك جينسن في سباق الدّرّاجات، فرنشيسكو لازارو في سباق الماراتون، راي شابمان في البيسبول…

رواية “خمس عشرة جولة”، الوحيدة في رصيد هنري دوكوان، هي مونولوغ باطني لملاكم على الحلبة، وغوص عميق في الوعي الجريح لرياضيّ وتقلّبات أناه. وقد عُدّت في حينها من روائع الأدب الرياضي.

13