خمسون رأسا ومرثية واحدة

يتحدث كثيرون عن مصير هذا التنظيم الدموي وهم يتتبعون بوجل، الخطوات التي تأخذ مقاتليه وعائلاتهم، رجال ونساء وأطفال، إلى مصير مجهول بعد أن نبذتهم وتنبذهم دولهم.
السبت 2019/03/02
المعركة الأخيرة مع الموت

انتهت فصول المهمة القذرة!

هكذا تقول الأخبار.. وهكذا يراها محللون عسكريون وسياسيون وجيوسياسيون، يطلقون تكهناتهم من خلف منابر مكاتبهم الفخمة وهم يرتدون بدلاتهم الأنيقة ويضعون عطورهم الباذخة.

هناك، عند أقصى الحدود السورية العراقية، هوجمت آخر معاقل “داعش” في سوريا، وحوصرت بقايا خطواتهم على الأرض؛ فمن فرّ منهم ومن تلاشى ومن غيّر جلده. لكن لرحيلهم مثل وجودهم.. ثمن باهظ. كان أفراد لقوات التحالف الدولي قد عثروا أثناء هجومهم على آخر المعاقل المحاصرة، على 50 رأسا مقطوعة لفتيات وسيدات إيزيديات في مكب نفايات بالقرب من باغوز، بعد أن قضين السنوات الماضية (سبايا) لأفراد من تنظيم داعش الذي مارس بحقهم أبشع أساليب الاستعباد والاضطهاد والاعتداء الجنسي.

يقرّ أحد المصادر في وصفه لـ”مقبرة الرؤوس” لصحيفة بريطانية، بأن المشهد كان عصيّا على الفهم “كانت قسوة المتطرفين لا تعرف أي حدود، لقد قاموا بذبح هؤلاء النساء البائسات بكل جبن وتركوا رؤوسهن المقطوعة وراءهم لكي نجدها نحن، لا يمكن لأي إنسان طبيعي فهم الدافع لمثل هذا الفعل المقزز”!

قبل رحيلهن الموجع، اختلطت الصور في رؤوس الأسيرات اللاتي متن قبل ذلك التاريخ مئات المرات؛ كان القتال دائرا في رؤوسهن، وقصف طيران التحالف الدولي، المناورات، الهدنة والمعركة الأخيرة، المقاتلون الأجانب، تعنت قادة التنظيم ورأس الدولة- الأفعى الذي يوشك أن يقطع، الدولة التي انبنت على رؤوس الأبرياء.

يتحدث كثيرون عن مصير هذا التنظيم الدموي وهم يتتبعون بوجل، الخطوات التي تأخذ مقاتليه وعائلاتهم، رجال ونساء وأطفال، إلى مصير مجهول بعد أن نبذتهم وتنبذهم دولهم، المحاكمات التي تنتظرهم والهم الكبير الجاثم فوق صدور المصلحين في العالم، في محاولة لتأهيل العائدين منهم وتهيئتهم لحياة طبيعية. لكن، لا أحد يسأل عن الراحلين والراحلات، القرابين البشرية التي داستها أقدام الأحداث، الشبان والشابات والأطفال، الأمهات والآباء والعائلات التي تشتتت وتغربت وفجعت في أحبائها.

لا أحد يهمه السؤال عن مصير المزيد من الإيزيديات اللاتي ينتظرن المعركة الأخيرة معركتهن مع الموت؛ كيف ستكون النهاية والعطر الأخير الذي سيشمه الرأس الرقيق قبل أن يتدحرج على تراب المدن الغريبة، بأيدي غرباء في عالم غريب لا يبالي.

طوال الساعات الأولى التي أعقبت قراءتي للخبر، قفزت بعض الأسئلة الغبية وعلامات تعجب في وجهي وسببت لي صداعا فاترا وجلبة كبيرة في المشاعر، أسئلة لا تعبأ بطموحات وكالات الأنباء الرصينة التي تبحث عن الحدث والرقم والفعل ورد الفعل والدليل وشريط الفيديو، الموثق بالحشرجات الأخيرة للضحايا.. والتي نفى بعضها خبر “الرؤوس” جملة وتفصيلا.

وكالات الأنباء التي تقيس الحدث بأبعاده الجغرافية والسياسية لتفصل منه قماشة باردة ومحايدة صالحة للحياكة الخبرية ويمكنها أن تسد ثغرة على مقاسها في أي صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية مناسبة.

أما أسئلتي فكانت تشبه علامة الاستفهام التي أطلقها مازن؛ الطفل السنجاري الإيزيدي، بعد سنوات من اختطافه. الطفل الذي خرج مصادفة من جحيم وكلاء الله على الأرض حين أجال ببصره في الأفق الممتد إلى ما لا نهاية، ثم قال ببساطة “هل حدث مكروه لسنجار؟”.

أسئلتي تشبه كثيرا ما كتبه الشاعر العراقي “ميثم راضي”، ردا على هزائمنا الإنسانية ومشاركتنا الصامتة في الجريمة، كانت هذه السطور هي التي جمعت أكثر عدد من الرؤوس في مرثية واحدة.

“للآن لم نتقن الحزن كما يجب

فها هي: خمسون رأسا…

تطير في نشرات الأخبار: كأنها حجارة منجنيق

يمتد خلفها شعر الإيزيديات الطويل مثل اللهب

وتسقط على هذا العالم: ثم لا يتهدم شيء!”.

21