خريف جديد للمتفائلين بالديمقراطية العربية

مقدمات الانعكاسات السياسية لكورونا بدأت تظهر في نواحِِ شتى، وستكون بصماتها واضحة في فضاء الديمقراطية وشواغلها حول العالم.
السبت 2020/04/18
كورونا تقمع أصوات المطالبين بالديقراطية

يبدو مكتوبا على عدد كبير من الدول العربية البقاء دوما على هامش الديمقراطية أو بعيدا عن مضمونها تماما. ففي كل مرة تلوح في الأفق ملامح إصلاحات سياسية واعدة وجذابة تأتي نكبة أو نكبات تعيد الأمر إلى خانة التشاؤم، كأنه مكتوب على البعض أن لا يذوقوا طعهما، مرا أم حلوا، وتظل الشعوب تدفع ضرائب عالية لغيابها.

مرت المنطقة العربية بإرهاصات عديدة توحي باقتراب الحلم من خلال تبشير بفوضى خلاقة تقود إلى تحولات سياسية حاسمة وبناءة في العراق، أو عبر ثورات وانتفاضات شعبية تؤدي إلى التخلص من أنظمة عسكرية خشنة، وتفتح الطريق لأخرى مدنية ناعمة، ومن قبلهما لم تفلح تحركات القوى اليسارية والليبرالية العربية في الضغط على حكامها لفتح الفضاء العام.

جاء كورونا ومعه حزمة مطالب صحية واقتصادية واجتماعية ليؤثر سلبا في الحالمين والموعودين بالديمقراطية، منهم نبلاء دفعوا ثمنا باهظا، ومنهم متشدقون كل ما يعنيهم تعظيم مكاسبهم، ومنهم مخادعون يدغدغون مشاعر الناس بها ولا يفكرون في تطبيقها على أنفسهم.

في اللحظة التي كسر فيها سودانيون وعراقيون ولبنانيون وجزائريون سلسلة كبيرة من القيود والمحرمات وأصبحوا قريبين من تعديل المصفوفة الحاكمة لتميل ناحية الإصلاحات، ظهر فايروس كورونا فأخمد الرغبة العارمة في تصويب المسارات، وقتل أحلاما وطموحات في دول أخرى، ومنح فرصة للمناوئين للتغيير لاسترداد عافيتهم الأمنية وتفعيل مناوراتهم السياسية، ووضع العصي في العجلات من خلال التلميح بالاختيار بين الصحة والديمقراطية.

خفضت الجائحة صوت المنادين بالثانية في صفوف المعارضة والمؤمنين بها داخل بعض الأنظمة، وقمعت إرادتهم في العمل وسط الجماهير لتحريكها وممارسة ضغوط مستمرة للحصول على نصيب وافر في مجال التعددية السياسية، ووأدت محاولات جادة كانت تعتقد أن الوصول إلى مرحلة الديمقراطية قدر محتوم، طالما هناك استعداد لتقديم تضحيات.

لم تصل دولة ما إلى النضج السياسي دون دفع أثمان مادية ومعنوية باهظة. فالنضال الصادق والعمل المستمر والخطوات السليمة والوعي العام من المكونات المهمة لتشكيل بيئة تستطيع استيعاب التغيير بفهم، بالتالي تحصيل نصيب وافر من الديمقراطية، وهي أبجديات نظرية أساسية لا غنى عنها في تمهيد الطريق إليها.

تأتي المرحلة التالية التي تتعلق بتنزيل الخطاب النظري إلى أرض الواقع العربي، فيصطدم بممانعات قوية في دول معينة، وتنتهي المحاولة أو يخفت بريقها حتى تتوافر ظروف أفضل لتكرارها لاحقا، بينما يجد الخطاب الشعبي الدؤوب نوافذ يتسرب منها في دول أخرى تصعد وتهبط فيها القوى الداعمة له إلى أن تستقر على حال إيجابي أو سلبي.

تظل نسبة النجاح أو الفشل مرتبطة بقدرة القوى الداخلية الراغبة في الديمقراطية على التمسك بمفرداتها السياسية عمليا، بصرف النظر عن الأيديولوجيا التي تتبناها، لأن المبدأ العام الظاهر يميل إلى الإصلاح، كل حسب منهجه، في حين يكون للتطبيق تبعات أو رواسب أخرى.

يكمن الفرق في تعامل الطرف المقابل مع المنخرطين في اللعبة، أي النظام الحاكم وطبيعته مدنية أم عسكرية وطريقة تعاطيه بالشدة أو اللين، الأمر الذي يسهم في تحديد النتيجة النهائية أمام جميع اللاعبين. وتلك واحدة من القواعد الثابتة في مسألة التحول الديمقراطي ولها تأثيرات سياسية على الشكل الذي يمكن الوصول إليه في المنحنى التصاعدي أو العكس.

تنتعش الرغبة في تحقيق الديمقراطية مع توافر بيئة داخلية مستعدة وداعمة لها، وفي غالبية الدول العربية يبدو هذا البعد متذبذبا أو قصيا، فالنوايا الحسنة تصنع حالة معنوية، لكنها لن تفضي إلى تطور سياسي قوي، لأنه يحتاج إلى بذل جهود وطنية دون انتظار مزايا شخصية، ولدينا قيادات وكوادر في أحزاب بدول عربية كثيرة معروفة بالانتهازية، في مقدمتها جماعة الإخوان ومن على شاكلتها، حتى لو رفعت شعار احترام التعددية.

راجت موضة الديمقراطية في المنطقة العربية بالتوازي مع رواجها في الوجدان العالمي. وحققت دول مختلفة تقدما ملحوظا في هذا المجال، غير أن معظمها تحايلوا عليها وبقيت الحريات في منأى عنها، والحالات القليلة التي نجحت في تقديم صورة جيدة واعتمدت على المحاصصة عادت لتواجه انتكاسة، لأن ديمقراطيتها هشة وجرى اللجوء إليها لحل أزمة طائفية، وتبقى تونس استثناء يواجه تحديات الاستمرار أو تأكيد القاعدة العربية في الخمول.

انتعش حديث الإصلاحات أيضا مع اتساع الدور الذي تقوم به منظمات حقوق الإنسان، والهيئات الدولية الداعمة لعمليات التحول، علاوة على وضع دول غربية مقياس الديمقراطية كبوصلة للحكم على صلاحيات بعض الأنظمة، يتم تجاوزه أو اختراقه وفقا لدرجة المصالح المتشابكة، فكم من الأنظمة الدكتاتورية والعسكرية كانت قريبة من الولايات المتحدة ودول أوروبية، وكم منها عقد صفقات سرية وعلنية؟

أخذ هذا المعيار يتراجع في الخطاب الغربي مع تنامي دور تيار الشعبوية في دول كثيرة، ووصول شخصيات عدة محسوبة عليه إلى سدة الحكم بسبب تبني أفكار داعمة لهذا التيار الذي يتضخم التابعون له يوما بعد يوم، وقد يجد ملاذه في كورونا الذي زادت ملامحه الأولية انعزال الدول ووضع فواصل بينها، ومن ثم التخلي الواضح عن مساندة الشعوب الأخرى في سعيها نحو الحصول على نصيب من الديمقراطية.

اتسع فضاء التخلّي مع التحديات المتعاظمة التي تواجه بعض الدول في مجال مكافحة الإرهاب، والتهديدات التي تتعرض لها الجيوش للحفاظ على وحدة الدول، ما وضع فكرة الدفاع العلني عن الحكم المدني في ثلاجة سياسية خلال العامين الماضيين، ولم تعد ضمن أولويات القوى المدافعة تقليديا عنها، وحدث أن أصبح بعض ما يسمى بقلاع الديمقراطية في العالم من أبرز الدول المتحالفة مع المؤسسات العسكرية الحاكمة في بعض الدول العربية.

أكمل كورونا العدة وفرضت نواميسه على دول كثيرة ضرورة ترتيب أوضاعها بطرق متباينة، ليس من بينها المساندة السياسية للدول الراغبة في التحول الديمقراطي، ولم تعد هناك رفاهية للدفاع عنه داخليا أو خارجيا، ورفع التصدي للجائحة سقف طموحات الأنظمة العسكرية والمعادية لفكرة الإصلاحات السياسية.

اختفت التظاهرات من الشوارع العربية التي انتعشت فيها قبيل أزمة كورونا، وحتى التي خرجت بالمئات في السودان، الخميس، كانت لها دوافع إسلاموية لم تستطع تصديرها في الواجهة، واستعملت مفردات اقتصادية كحصان طروادة لتقيها من شرور المواطنين، وعندما تصدت لها قوات الأمن في الخرطوم لم تلق انتقادات شعبية وحزبية محلية، أو إدانة خارجية كتلك التي تعرضت لها مرات من قبل.

بدأت مقدمات الانعكاسات السياسية لكورونا تظهر في نواحِِ شتى، وستكون بصماتها واضحة في فضاء الديمقراطية وشواغلها حول العالم، ولن تجد الشعوب التي اعتمدت في جرأتها على صياغة مطالبها على رفاهية الدعم العابر للحدود، وما لم تكن هناك بنية سياسية قوية سيجد المتفائلون العرب أنفسهم أمام واقع يوقف تعلق الأمل بربيعها ويعزز خريفها الفترة المقبلة.

9