خرافة التفوق الأوروبي في رواية "عصافير داروين" لتيسير خلف

تلعب عتبة العنوان في رواية “عصافير داروين” للروائي تيسير خلف دورا مهما في عملية التلقي وأفق التوقع عند القارئ، وذلك من خلال استدعاء اسم صاحب نظرية التطور والارتقاء التي شكّلت أحد أعمدة الفكر الغربي في القرن التاسع عشر. وتأتي جملة الاستهلال التي يظهر فيها البروفيسور بوتنام وهو يحاول ترتيب موقع المشاركين في شارع الترفيه، في المعرض الكولمبي في مدينة شيكاغو، حيث تجري أغلب أحداث الرواية وفقا لدرجة تطور كل بلد من البلدان المشاركة، في هذا المعرض الدولي الكبير.
تؤسس جملة الاستهلال أو العتبة المكانية التي يجري فيها تصوير مشهد البروفيسور وهو يتأمل مناقير عصافير داروين التي ألهمته نظريته لمفتتح السرد في الرواية. تكمن أهميه هذه العتبة في أنها تعرفنا إلى شخصية مدير المعرض الدولي البروفيسور وولعه الشديد بنظرية داروين ومحاولة تطبيقها على ترتيب الدول المشاركة فيه وفقا لسلم تطورها. ويتزامن هذا المشهد الافتتاحي مع مشهد آخر تصل فيه دعوة الرئيس الأميركي للسلطان عبدالحميد خان إلى المشاركة في المعرض العالمي، وطلب السلطان قبول الدعوة والمشاركة.
بين هذين المشهدين تتحرك أحداث الرواية، ومعها تبرز شخصياتها الكثيرة التي تبدأ بالظهور مع تطور أحداث الرواية، حيث تظهر العلاقة الجدلية بينها وبين بنية السرد من خلال دورها في تطور أحداث الرواية، التي تعتمد على السرد الخطي الصاعد والمتعاقب.
تخييل التاريخ
تظهر أهمية الرواية في قدرة الكاتب تيسير خلف على تخييل التاريخ وإعادة بناء وقائعه سرديا، من خلال اعتماده على الوثائق التاريخية والخبر والمصادر العديدة، التي احتاجها لاستقصاء جوانب هذه الحكاية، التي شكلت أول رحلة عربية جماعية إلى الولايات المتحدة الأميركية في أواخر القرن التاسع عشر.
لكن استدعاء الكاتب لاسم صاحب نظرية النشوء والارتقاء في العنوان الرئيس للرواية وفي جملة الاستهلال التي تؤسس للسرد، ينطوي على دلالات مهمة تعبّر عن خلفية الفكر الذي كان يحكم وعي ورؤية النخب الأميركية في تلك المرحلة، وبالتالي دورها في توجيه أحداث الرواية ووقائعها. تقابل شخصية البروفيسور بوتنام في هذه الرواية شخصية أخرى، هي شخصية الشاب بلوم التي تمثّل العقل التجاري والمادي الأميركي، ولذلك يظهر التباين في رؤية الشخصيتين حول توزيع مواقع المشاركين في تظاهرة المعرض العالمي للترفيه، بناء على خلفية كل منهما، كما يظهر ذلك في اللقاء الأول الذي يتم بينهما في مكتب البروفيسور(هل تشرح لي سيدي البروفيسور ما الذي تقصده بسلم التطوّر الإنساني؟ نحن هنا نتحدث عن شارع للتسلية يفترض أن يشكل مكان جذب وإنفاق).
تشكل مواقف البروفيسور خلفية أحداث الرواية، نظرا إلى كونها تعكس طبيعة نزعة التفوق عند النخب العلمية الأميركية، كما شرحها لبلوم من خلال نظرية صناعة الجبنة، بوصفها دليلا على تطور وارتقاء المجتمعات الإنسانية أو تخلفها. وعلى الرغم من التباين الكبير في كيفية توزيع أجنحة الدول المشاركة بين الشخصيتين الأميركيتين، فإن دهاء العقل المالي والتجاري لبلوم ينتصر عندما يحلّ عقدة الخلاف بينهما بجعل منطقة الشرق الأوسط تتوسط القرية، ما يدل على تقاطع النموذجين في طريقة إدارة هذا المشروع.
مرمح الخيل
بعد تخبط القائمين على اختيار نوع المشاركة في هذا المعرض العالمي تنجح فكرة إقامة مرمح للخيول العربية الأصيلة، اقترحها راجي أفندي صيقلي من مدينة عكا واستحوذت على إعجاب السلطان العثماني. فور موافقة السلطان انطلق راجي بين مزارع الخيول في فلسطين وجنوب سوريا بحثا عن الخيول الأصيلة حتى يدرك مبتغاه. تتحرك أحداث السرد بين دمشق وبيروت وشيكاغو مع تصاعد الخط السردي لحكاية المرمح وظهور شخصيات جديدة يتصاعد الصراع في ما بينها بسبب رغبة كل طرف، في الاستحواذ على رئاسة شركة المرمح، قبل أن تنطلق السفينة بالمشاركين وخيولهم باتجاه أميركا.
يهتم الكاتب بالتعريف بأنواع الخيول العربية الأصيلة وذكر تفاصيل الرحلة والمشاركين فيها من الرجال والنساء، إضافة إلى استعادة بعض المعارك التي كانت تدور آنذاك حول المساواة بين الرجل والمرأة، وصراعات الزعامة التي كانت تجري على أساس طائفي بين الموارنة والأرثوذكس اللبنانيين داخل إدارة الشركة، ما انعكس سلبا على كيفية إدارة شؤون المرمح ووقوعهم ضحية للنصب والاحتيال من قبل المدير الأميركي، على الرغم من العروض المثيرة التي قدّمها فرسان المرمح.
السرد الحكائي
يعمل الكاتب على توظيف الوثيقة بنجاح في السرد الحكائي لتأكيد واقعية الأحداث، ما يحافظ على نموّ السرد وتطوّره. وتلعب لغة السرد الرشيقة من خلال الجمل القصيرة، في تعزيز هذا الجانب. ويظهر توظيف المتخيّل الغرائبي في حكاية راجي مع صديقه البهائي عباس أفندي البهائي الذي يظهر له فجأة على ظهر السفينة، ثم يختفي بالطريقة الغريبة والسريعة التي ظهر فيها.
تتميز الرواية بأنها رواية شخصيات، تغيب عنها البطولة، حيث يظهر مع نموّ الخط السردي لها شخصيات جديدة تنضاف إلى شخصياتها، وتسهم في تطور السرد ونمو أحداثه، في حين تغيب شخصيات أخرى، لعبت دورا مهما في صنع أحداثها. وتتبدّى العلاقة الوثيقة بين جملة الاستهلال والخاتمة من خلال مشهد البروفيسور وهو يتأمل عصفوره المرتجف داخل قفصه، في حين أنه يظهر في مشهد البداية وهو يتأمل بدهشة وإعجاب مناقير عصافيره الخمسة التي أرسلها له صديقه البروفيسور جورج باور.
تؤكد هذه العلاقة بين عتبة السرد وخواتيمها على وحدة البنية السردية للرواية، إضافة إلى ما تنطوي عليه من دلالة تؤكد على النزعة الداروينية الطاغية في منظور ومفاهيم الطبقة العلمية للحياة. وتتخذ هذه الرؤية أبعادها من خلال مشهد النهاية، الذي يسبقه مشهد استخراج جثث المشردين الذين دفنوا تحت طبقات الثلج لليلة العاصفة دون أن يثير ذلك مشاعر أو انتباه البروفيسور، الذي يظل مشغولا بمراقبة عصفوره، بوصفه تجسيدا لانتصار الأقوى.
ويبدو انشغال الكاتب بتاريخ الآثار القديمة في المنطقة واضحا، من خلال التركيز على تفاصيل مشهد الدير القديم الذي يعود لزمن الغساسنة، عندما يكتشفه راجي أثناء تجواله في قرى الجنوب السوري بحثا عن الخيول العربية الأصيلة. وتلعب هوامش الرواية دورها في توثيق العديد من وقائع الرواية وأحداثها، بصورة تغطي فيه جوانب مهمة من عوالم الرواية وأحداثها.