"خذ وطالب".. إستراتيجية اتحاد الشغل للضغط على الحكومة التونسية

التصعيد مع الحكومة أو التهدئة التامة مساران مكلفان لقيادة الاتحاد.
الأحد 2022/10/09
الاتحاد يمارس ضغوطا على الحكومة لتحصيل المزيد من المكاسب

الاتفاق بين اتحاد الشغل والحكومة أوحى بأن الأمور تسير نحو التهدئة، وأن البلاد مرشحة لهدنة اجتماعية بثلاث سنوات تتفرغ فيها للقيام بالإصلاحات العاجلة لإنقاذ الاقتصاد، لكن الاتحاد عاد إلى التصعيد بتصريحات قوية قد لا تعني رغبة في المواجهة، ولكن الحفاظ على الحد الأدنى من التأثير السياسي.

لم تمض أسابيع قليلة على اتفاق زيادة الرواتب الذي أبرمته حكومة نجلاء بودن مع اتحاد الشغل والذي أوحى بأن البلاد ستدخل هدنة اجتماعية من أجل مواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها حتى عاد الاتحاد ليقول إن تلك الزيادات هي خطوة أولى وليست خطوة أخيرة، وإنه ما يزال لديه سجل من المطالب إذا ما قررت الحكومة المضي في مسار الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي.

ونقلت مواقع إخبارية تونسية أن الاتحاد التزم بعد اتفاق الزيادة في الرواتب بعدم المطالبة بأيّ زيادات في السنوات الثلاث القادمة. لكن الاتحاد تنصل من هذا التعهد، وأطلق على لسان أمينه العام نورالدين الطبوبي وأمينه العام المساعد سامي الطاهري تصريحات قوية بشأن “التجند لإنقاذ البلاد”، في إيحاء وكأن البلاد تعيش حالة حرب، وأن الاتحاد هو من سيحرّرها.

ومن الواضح أن التصعيد مرتبط بجدية التقارب بين تونس وصندوق النقد، وأن الاتفاق بشأن الإصلاحات لم يعد ثمة ما يمنعه، وهذا أمر ربما لم يكن الاتحاد يتوقعه وبهذه السرعة.

ومن الواضح أن قيادة المنظمة النقابية الأكثر تمثيلية في تونس كانت تعتقد أن حبال التفاوض مع صندوق النقد طويلة، وأنها لن تصل قريبا إلى نتائج، وأن أيّ تفاوض لا بد أن يمر عبر قبوله هو أولا. لكن الصندوق الذي يعرف أن جزءا من التعطيلات التي حالت دون توقيع الاتفاق خلال السنوات العشر السابقة كان اتحاد الشغل هو الطرف المعرقل، فقرر اختصار المسافة خاصة أنه يتعامل مع سلطة قوية ورئيس ماسك بالملفات وقادر على إلزام الجميع بتنفيذ الاتفاقيات.

وارتبطت تصريحات الطبوبي والطاهري بالحديث عن زيارة جدية لوفد تونس إلى واشنطن، ولقاءاته المقررة بداية الأسبوع القادم مع صندوق النقد الدولي. هكذا من دون استشارة أو مشاورات مع الاتحاد ولو من باب الأخذ بالخاطر.

تصريحات الطبوبي والطاهري وصلت إلى مستوى مرتفع من التهديدات لا يتناسب مع عمق الأزمة الاقتصادية

وقال الطبوبي “عندما تكون هناك خيارات مؤلمة (يقصد الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد) سنكون مع شعبنا في الصفوف الأمامية في الشارع وكل أشكال النضال”.
وأكد الطاهري أنه يجب التجنّد لإنقاذ البلاد من الوضع الخطير الذي تعيشه حاليا، وأن “دورنا كمنظمة هو أن نكون حاضرين وجاهزين دائما لإنقاذ بلادنا في الظرف المناسب وألا نتركها تنهار”.

وتقول أوساط سياسية تونسية إن تصريحات الطبوبي والطاهري وصلت إلى مستوى مرتفع من التهديدات لا يتناسب مع إدراك يفترض أنه موجود من قيادة الاتحاد لعمق الأزمة الاقتصادية في البلاد وضرورة الإصلاح .

ويعتقد المراقبون أن هذه التصريحات القوية لا تعكس فعلا الرغبة في التصعيد، ولكنها أسلوب لدى قيادة الاتحاد للضغط بهدف تحصيل المزيد من المكاسب، وفي الوقت نفسه جعل الاتحاد وقيادته في الواجهة سياسيا، وخاصة لفت اهتمام الرئيس قيس سعيد الذي لم يحصل معه الطبوبي على الحظوة التي كان يحصل عليها مع حكومات سابقة كانت تشركه في كل التفاصيل بما في ذلك صلاحيات حكومة خاصة لا شأن للاتحاد بها.

لكن الحقيقة أن الاتحاد استشعر أن الإصلاحات التي يمكن أن تقدم عليها الحكومة بتوصيات من صندوق النقد قد تضعه في الزاوية. فهي من ناحية ستسحب من يده ورقة الإصلاحات وحديثه المستمر عن امتلاك “خارطة طريق” جاهزة يمكن أن يقدمها لأيّ حكومة لتعمل بها.

إستراتيجية التصعيد ستخرج الاتحاد من الوضع المريح الذي هو فيه منذ ثورة 2011، فهو يحصل على الزيادات والعلاوات وكل ما يريد بمجرد التلويح بالإضرابات، ما مكنه من أن يصبح صاحب القرار الفعلي في الكثير من الملفات، خاصة في ظل حكومات كانت تعتقد أن بقاءها يكمن في شراء ود الاتحاد وترضيته بالزيادات لتكتشف لاحقا أن الاتحاد لا يشبع، وأنه يعتمد إستراتيجية “خذ وطالب” بشكل مستمر.

وجود سلطة قوية لا شك أنه سيوقف هذه الإستراتيجية المريحة، ويجعل الاتحاد يفكر ألف مرة قبل أن يختار إستراتيجيته الجديدة التي ستكون إما التصعيد التام كما جاء في كلام كبار مسؤوليه، أو القبول بالتهدئة وتجنب الصدام مع الدولة إلى حين بروز ظروف جديدة يستطيع من خلالها أن يعاود لعب دور “الاتحاد أكبر قوة في البلاد” التي أخافت الحكومات السابقة وطوعتها لخدمته.

رغبة جامحة في المواجهة
رغبة جامحة في المواجهة

ولكل إستراتيجية محاذيرها، فالتصعيد غير مضمون وربما يؤدي إلى نتائج عكسية بخلاف ما جرى في 2013 حين قرر الاتحاد خوض إضرابات عامة انتهت بإسقاط حكومة الإسلاميين في مناخ سيطرت عليه الاغتيالات السياسية والصراعات الحزبية وخاصة عجز حكومة الترويكا عن إدارة الدولة وفهم آليات الأزمة والخروج منها.

قيس سعيد غير راشد الغنوشي، والمناخ العام المحلي والدولي الذي ساعد على إسقاط الإسلاميين وشجع على “الحوار الوطني” ومكّن الاتحاد من الحصول على جائزة نوبل مختلف تماما الآن، وسط توجه لمساعدة تونس على الخروج من أزمتها ودعم الاستقرار فيها للعب دورها في مواجهة الهجرة السرية. العالم الآن يريد تطويق مخلفات ثورات “الربيع العربي” التي أنتجت زيادة كبيرة في أنشطة التيارات الجهادية وكسرت الحدود وجعلت أوروبا ترزح تحت وقع أزمة لاجئين غير مسبوقة.

وبالنتيجة، فإن المناخ العام لا يقبل بالتصعيد، ولا يقبل أيضا أن يعرقل الاتحاد الإصلاحات الاقتصادية مهما كانت تقييماته لها، فإما الإصلاحات وإما أن تغرق البلاد في أزمة شبيهة بما يجري في لبنان حاليا، وقد تتحول إلى دولة فاشلة خاصة إذا رفع صندوق النقد يده عنها.

لكن التهدئة في المقابل ستكون نتائجها ثقيلة على الاتحاد، فهي تعني تسليما منه بالأمر الواقع واهتزاز صورته أمام منتسبيه وهم بالآلاف، وهذه التصريحات التصعيدية هدفها تأكيد أن الاتحاد ما يزال قادرا ومناورا ولا أحد يضعه في الجيب.

لكل إستراتيجية محاذيرها، فالتصعيد غير مضمون وربما يؤدي إلى نتائج عكسية بخلاف ما جرى في 2013 حين قرر الاتحاد خوض إضرابات عامة انتهت بإسقاط حكومة الإسلاميين

وحتى لو كانت القيادة النقابية قابلة بالتهدئة، فإنها ستجد مقاومة كبيرة داخل الاتحاد من أحزاب صغيرة تسيطر على النقابات المحلية والجهوية والجامعات ولديها حضور قوي في الهيئة الإدارية، وهذه الأحزاب لن تقبل بالتهدئة وقد تثير أزمات للطبوبي وجماعته بتحريك موضوع الخروقات القانونية في المؤتمر الاستثنائي وتعديل الفصل الخاص بالسماح له ولعدد من أعضاء المكتب التنفيذي بمواصلة القيادة بالرغم من انتهاء مهامه بالقانون القديم.

المشكلة الثانية التي تعترض الاتحاد هي أن قبوله بالإصلاحات سيعني التسليم بأن تخرج الشركات الحكومية الكبرى من تحت هيمنته، وهي هيمنة لا تقف فقد عند تأكيد قوته من خلال إضرابات تهز البلاد هزا مثل إضراب وسائل النقل أو مؤسسات حيوية مثل شركة الكهرباء وموزعي المحروقات، بل تتعداها لما هو أهم، فهذه الشركات تدرّ أموالا كثيرة على الاتحاد من خلال الانخراطات فأعداد العاملين فيها كبيرة والعائدات ثابتة بما يسمح به بالاستمرار في الوضع المالي المريح الذي يتيح له عقد اجتماعاته في الفنادق.

هذه المزايا مهددة في الحالتين، مسار التصعيد أو مسار التهدئة، وهذا ما يفسّر انزعاج الاتحاد المتزامن مع الحديث عن اللقاء بين الوفد الحكومي وصندوق النقد، وهو ما يعني أن الأمور صارت عملية، وأن محاولة العرقلة والتعطيل تصبح صعبة، خاصة أن الصندوق يريد ربح الوقت ودفع الاتحاد للحاق بالإصلاحات وليس بالضرورة الموافقة عليها مسبقا.

ويتخوّف صندوق النقد من ألّا يقبل الاتحاد بالإصلاحات الاقتصادية، وسط إشارات وتصريحات متناقضة من قادة المنظمة بخصوص القبول بالإصلاحات أو رفضها، وهو ما أوحى بأن الاتحاد ليس جهة موثوقة يمكن الرهان عليها لبدء هذه الإصلاحات، خاصة أن الأمر لا يهم الحكومة وحدها؛ ذلك أن صندوق النقد وجميع المتدخلين يطلبون توافقا تونسيا قبل إعطاء ضوء أخضر لرعاية هذه الإصلاحات وتمكين تونس من التمويل اللازم.

6