خذوا أموالكم وأرجعوا الباقي

المؤسسات والنخب الجزائرية، بما فيها الحزب السياسي الذي ينتسب إلى جبهة التحرير التاريخية، مدعوة إلى الدفع بالمناوشات مع الفرنسيين إلى خطوات أكثر جدية بتثبيت تجريم الاستعمار وكتابة التاريخ بمنطق المنتصر.
الجمعة 2025/01/17
براغماتية تغليب المصالح

كان من الجدير بوكالة الأنباء الجزائرية، بدل أن تفصّل في حجم وتوزيع المساعدات الفرنسية للجزائر التي يطالب اليمين المتطرف بوقفها، من أجل الضغط على النظام الجزائري في إطار التصعيد القائم بين البلدين منذ عدة أشهر، أن تفصّل في حجم كميات القمح التي لم تدفع فرنسا ثمنها للجزائريين قبل العام 1830، وفي حمولات الذهب والفضة التي أخذتها من قصور وخزائن العاصمة عندما احتلتها في العام المذكور.

وحينها فقط بدل أن تخلص إلى أن الجزائر ليست مستفيدة وليست في حاجة إلى تلك المساعدات، تقول لليمينيين خذوا أموالكم وأرْجِعُوا الباقي، وتجري عملية حسابية لتعلن للرأي العام في البلدين كم في رقبة فرنسا من ديون، يتوجب أداؤها للجزائر وأن الدين لا يسقط بالتقادم، إلا إذا استفتُي الجزائريون حول ما إذا كان لديهم الاستعداد للتنازل عنه أم لا.

كرامة الشعوب لا تقدر بثمن، والعلاقات الدولية لا تقوم على المن، خاصة إذا كانت فرنسا تدرك أنها إلى وقت قريب كانت تستخلص نحو 400 مليار دولار سنويا من هيمنتها على القارة الأفريقية، فأضواء باريس كانت تنار من يورانيوم النيجر، وبنوكها تتضخم من إيداعات الأنظمة السياسية الحاكمة والداعمة لها في عموم أفريقيا.

◄ ما الذي جناه الجزائريون من فرنسا مقابل طيّ صفحة الماضي والذاكرة المشتركة، إلا المزايدات والإهانات، والتي وصلت إلى حد المن والتضييق على الحقوق الاجتماعية

بضعة ملايين من الدولارات كانت تسدّدها سنويا تذهب في الغالب في تمويل وتسيير مصالحها بالجزائر، صارت اليوم توصف بـ”المساعدات” التي يستوجب توقيفها، دون تقدير لكرامة شعب، وفي خلط متعمد بين مؤسسات رسمية في البلدين، تخاصمت اليوم ويمكن أن تتصالح غدا.

العلاقات الجزائرية – الفرنسية دخلت في نفق مسدود، وبقدر ما هي تتجه إلى طلاق بائن، فإنها تنذر بأزمة ستلقي بظلالها على عموم المنطقة كاملة، كون النخب المهيمنة على القرار السياسي في باريس استعادت مفردات الماضي التي تنكأ جراحا لم تندمل بعد، وإذ هي تصف تعامل الجزائريين بالمتشنج والانفعالي، فإنها تأتي بمثله أو أكثر عندما تمنّ على الجزائريين ببضع ملايين من الدولارات وتصدح به أمام الملأ.

وهنا فقط تبرز أهمية جرد الحساب، وإطلاع الأجيال على الأرقام المتراكمة، لأن السيادة تبدأ من قول الحقيقة للشعب، وليس من أجل علاقات هادئة يتم إغفال الثروة التي كونتها فرنسا من جيوب الأفارقة والجزائر على رأسهم.

إذا كان الغرض إعادة الحساب من الصفر من أجل بناء مستقبل متوازن بين البلدين، فلا بد من نزع فرنسا التي لا تتوانى في إهانة الجزائريين، من أذهان وقلوب وألسنة النخب التي تحوّل أموالها إلى باريس، وتشتري العقارات في مدنها، وترسل أبناءها للدراسة في جامعاتها، ونساءها للتسوق في جادة الشانزيليزيه، لأن الإهانة لم تأت إلا من ولاء معنوي يحافظ على مصالح فرنسا في الجزائر أكثر من الفرنسيين أنفسهم.

خلال سنوات مضت تحرك نواب برلمانيون في الجزائر، من أجل إصدار قانون لتجريم الاستعمار، ردا على خطوة الرئيس نيكولا ساركوزي، القاضي بتثمين وتمجيد حضور الجيش الفرنسي خارج حدوده، ودوره في بناء حضارة المستعمرات القديمة، إلا أن الولاء المعنوي في دواليب السلطة، هو الذي أجهض كل تلك المحاولات.

◄ العلاقات الجزائرية – الفرنسية دخلت في نفق مسدود، وبقدر ما هي تتجه إلى طلاق بائن، فإنها تنذر بأزمة ستلقي بظلالها على عموم المنطقة كاملة

والآن المؤسسات والنخب الجزائرية نفسها، بما فيها الحزب السياسي الذي ينتسب إلى جبهة التحرير التاريخية، مدعوة إلى الدفع بالمناوشات مع الفرنسيين إلى خطوات أكثر جدية بتثبيت تجريم الاستعمار، وكتابة التاريخ بمنطق المنتصر بدل الاحتكام إلى لجان مشتركة دورها خلق دور ناعم للمستعمِر ودور شرير للمستعمَر، إذا كانوا يريدون إقناع الجزائريين حقيقة بجدية التمرد.

كل يوم يخرج مسؤول فرنسي سام، بتصريح يخنق أنفاس الجزائريين، فمرة يهدد بوقف التأشيرة النخبوية، ومرة بوقف المساعدات، ومرة بغلق المؤسسات الاجتماعية.. وغيرها، وكل ذلك لا يعني الجزائريين تماما، إلا مَن يستفيدون من ريع بُني في وضعية تواطؤ مريب بين الطرفين على مر العقود الماضية.

قد يرفع البعض براغماتية تغليب المصالح عن تجاذبات الماضي والحاضر، لكن ما الذي جناه الجزائريون من فرنسا مقابل طيّ صفحة الماضي والذاكرة المشتركة، إلا المزايدات والإهانات، والتي وصلت إلى حد المن والتضييق على الحقوق الاجتماعية للذين ساهموا في تشييد مجد فرنسا (تحويلات المتقاعدين)، وتلك المصالح لن تتحقق ما دامت فرنسا الرسمية تريد بناء علاقاتها مع النخب الموالية وليس مع الشعب الجزائري، الذي لا مصلحة له لا في تأشيرة نخبوية ولا في مساعدات ولا في مؤسسات أو جمعيات.

منذ سنوات الكل في فرنسا يعلم دور ونشاط أولئك الذين تلاحقهم الآن، تحت مسمّى ممارسة الإرهاب والعنف وخطاب الكراهية، لكنها لم تكن تحرك ساكنا، لأنها كانت متواطئة معهم في إجهاض أصوات التغيير السياسي والديمقراطي في الجزائر، وهي لا تريد أن يتحقق ذلك، لأنه لو كان ذلك لكانت مصالحها هي المتضرر الأول منه، والآن تتحرك ضدهم ليس لأنهم يهددون النظام العام على أراضيها بل لاعتقاد لديها أنها تمارس ضغطا على النخب التي تمردت عليها.

9