خانة الديانة في هوية المصريين طقس مجتمعي يعكس التشدد

تكريس الحرية الدينية يحتاج شجاعة فردية استثنائية مقترنة بإرادة سياسية.
السبت 2018/12/22
المواطنة هي الحل

فرض الهوية الدينية في مصر بسياسة الأمر الواقع والارتكان إلى رأي الأزهر في قضايا يفترض أنها تخص التعاملات الشخصية بين الناس، انعكاس للتشدد المجتمعي في مصر الذي تغذيه قرارات حكومية.

القاهرة - جاءت الردود على استطلاع رأي لفئة من الناس في الشارع حول مشروع القانون المقدم إلى مجلس النواب المصري لحذف خانة الديانة من بطاقة الهوية، صادمة، لأن أصحاب هذا الفكر يعتبرون أن الاقتراب من هذه النقطة، مقدمة لإلغاء هويتهم الدينية. هكذا يعتقد أغلب المواطنين في المجتمع، مسلمين وأقباط، وبعضهم رأى في الخطوة تكريسا لتدهور المجتمع.

ومهما استمرت محاولات إقناع هؤلاء أن هناك دولا عربية نجحت في تحقيق تقدم ملموس نحو ترسيخ المواطنة والقضاء على التمييز الديني، بإلغاء الديانة من بطاقات الهوية، فإنهم يتمسكون بآرائهم، بذريعة أن خانة الديانة تمثل لدى الكثير من مواطني المجتمع المصري رمزا للتفاخر والاعتزاز المرتبط بالعقيدة. وقد يكون التباهي شعورا شخصيا من الفرد، وفي أحيان كثيرة يكون الأمر مفروضا عليه من جانب عائلته، وإلا أصبح منبوذا.

ألغت السعودية خانة الديانة من بطاقات المواطنين، وفعلت الأردن الأمر نفسه عام 2007، لكنها جعلت الديانة وفصيلة الدم على شريحة ذكية ملحقة بالبطاقة، وكانت تونس من أوائل الدول التي حذفت خانة الديانة رغبة منها في تطبيق قوانين الزواج من مختلفي الديانات، حتى أن لبنان الذي تتعدد فيه الديانات والمذاهب، قام بذلك، فضلا عن المغرب وفلسطين، وسوريا التي تعيش صراعا طائفيا حادا.

رفض مجتمعي

لا يقبل الكثير من المصريين استنساخ التجربة العربية في مسألة إلغاء خانة الديانة، وهؤلاء تجدهم بين المسلمين والمسيحيين، يتشددون غاية التشدّد تجاه هوياتهم الدينية، بغض النظر عن كونهم ملتزمين دينيا أم لا، وتعكس هذه الفئة حقيقة راسخة عن هذا المجتمع، بأن التدين الظاهر أصبح طاغيا بقوة، لا يقبل أحد أن يُسأل عن علاقته بربه، لأنها حرية شخصية، لكنه أيضا يرفض أي محاولة لجعل هذه الحرية إطارا عاما.

يقول محمد سعيد، شاب مصري يعيش في القاهرة، “خانة الديانة في بطاقة الهوية الشخصية جزء أساسي من هوية الشخص.. الناس في مصر تربوا وتعلموا أن الانتماء العقائدي يحدد علاقاتهم بالمجتمع ومؤسسات الحكومة، بالسلب أو الإيجاب، ومسؤولية هذا الواقع القبيح مشتركة بين العائلات الرجعية والحكومة.. الناس جميعهم ينشدون الحداثة ويحلمون بها، وفي نفس الوقت يعتبرونها وصمة عار”.

ويضيف لـ”العرب”، أن “تمرد الفرد داخل المجتمع على التشدد العائلي تجاه الانتماء الديني، يحتاج إلى شجاعة استثنائية، بحيث يكون مستعدا لخسارة كل شيء في آن واحد، ليكسب حريته ويؤسس لنفسه حياة مستقلة، كأن يتزوج المسلم من مسيحية، والعكس.. نعم إنه مسموح شرعا في الحالة الأولى، لكنه مرفوض مجتمعيا ويصعب قبوله، وهنا تكون الهجرة بعيدا والاختفاء في مجتمع آخر، وهو السبيل الوحيد للنجاة من الاستهداف”.

ما يسوقه الشاب نسخة مصغّرة من واقع المجتمع المصري، لأن الجميع ورثوا ديانتهم وثقافتهم من العائلة، وغير مقبول، لدى الأسرة أو الحكومة، أن يتمرد أحد على هذا الإرث، فالشخص وُلد وتربى وتعلم وفق إطاره وقوانينه وطقوسه.

والمؤكد أن الانتماء الديني يولد مع الطفل، ويكبر معه، بحكم ديانة والديه، ويكتب في بطاقة هويته (مسلم أو مسيحي) عندما يصل إلى سن السادسة عشرة، ولا يتم ذلك بإرادته، إنما بشكل إجباري وفقا لطقوس المجتمع.

ثمة إشكالية أكثر تعقيدا، تكمن في أن التفكير الطائفي راسخ عند بعض العائلات المسلمة والمسيحية، بإصرارهم على إطلاق أسماء دينية على المواليد، ونادرا ما تجد في أبنائهم من يحمل اسما عاما لا يُعرف منه على وجه التحديد الهوية الدينية لصاحبه، وأصبحت الأسماء كاشفة للعقيدة دون حاجة إلى ذكر بند الديانة فى بطاقة الرقم القومي، وصار التفكير الطائفي حاكما في أشياء كثيرة تبعا لاسم الشخص لا أوراقه الرسمية.

صانع القرار في مصر، لا يمتلك سلطة تفتيت القاعدة المجتمعية التي تتشبث بتعصبها الديني

يرى معارضون لفرض الهوية الدينية بسياسة الأمر الواقع، أنه انعكاس واضح للتشدد المجتمعي الذي تغذيه قوانين حكومية، لأن إكراه المواطن على الانتماء إلى ديانة بعينها بحكم التنشئة والبيئة يعني إرغامه على إعلان حقائق كاذبة بشأن اعتقاده الديني.

ويرى إسماعيل نصرالدين عضو مجلس النواب، وصاحب مشروع قانون حذف خانة الديانة، إنه لا مواطنة أو مساواة في المجتمع دون إخفاء الهوية الدينية، لأن استمرارها يعني تكريس الطائفية وترسيخ التعصب بين الناس بالتفتيش في عقائدهم دون اعتراف بأن الشخص حرّ في علاقته بربه.

ويشير في تصريحه لـ”العرب”، إلى أن “التحرك نحو تعزيز المواطنة والمساواة وإرساء قيم التسامح وقبول الآخر في المجتمع، يحتاج إلى عقلية تنويرية، بعيدا عن أصحاب الآراء الدينية المنغلقة الذين يغذون التعصب والتطرف لأن هذا الأمر إداري وليس قرارا دينيا”.

كما ترفض مصلحة الأحوال المدنية، المعنية بإصدار الوثائق الشخصية للمواطنين، تغيير خانة الديانة، وتنظر أولا إلى عقيدة الأسرة، لتدوّنها مباشرة أمام اسم الابن، والمولود لأب مسلم أو مسيحي ويسجل في شهادة الميلاد كذلك، ولا يمكنه تغيير خانة الدين أبدا، حتى ولو تحول إلى ديانة أخرى، أو رفض التصاق اسمه بهذا الدين.

مشكلة المجتمع المصري، أنه يرفض التخلي عن أن يكون الانتماء الديني المتحكم في مسار حياة الناس، وعلاقاتهم مع بعضهم. حتى بعض الموظفين الحكوميين المتعصبين لديانتهم، يميزون خدماتهم للناس وفق عقائدهم، وتكون الكارثة الكبرى، إذا قرر شاب وفتاة من ديانتين مختلفتين أن تكون بينهما علاقة عاطفية ويريدان الزواج، فإن ذلك مقدمة للفتنة الطائفية، التي تخمد نيرانها في مهدها، عندما يقرران الهجرة بعيدا عن المجتمع.

مع كل طرح لقضية حذف الديانة من بطاقة الهوية، تظهر حقيقة التعصب المجتمعي، ودائما تكون الغلبة للمتشددين، ما يعكس أن التطرف الفكري والثقافي والديني داخل المجتمع لم يعد مقتصرا على فئة بعينها من رجال الدين أو المنتمين إلى التيارات الإسلامية، بل أضحت حالة عامة.

تشي هذه الحالة بأن المجتمع المصري يتمسك بالعيش في كنف الماضي ويرفض العصرنة والحداثة، ويعتبرهما مدخلا للعبث بهويته ويصر على إحاطة نفسه بهالة دينية، غير مسموح لأحد بأن يتجاوزها أو يخرج عنها، وبإمكان الشخص أن يتمرد على الطقوس الدينية، لكن لا يخفي انتماءه العقائدي.

يظهر ذلك في نظرة السواد الأعظم من المصريين، لكل ملامح التحضر وتحطيم التابوهات القديمة، في ارتداء الملابس أو استيراد الموضة وإقامة علاقات عاطفية بين شباب وفتيات وحرية المرأة في اختيار زوجها، خط أحمر، فيعرقل وجود حرية وتعددية دينية عند الأفراد.

Thumbnail

أمام التشدد المجتمعي تجاه التظاهر بالانتماء عبر خانة الديانة، تقف الحكومة عاجزة عن اختراق هذا الحاجز، وتحمل النظرة المجتمعية لأصحاب الفكر والحداثة والمثقفين والمبدعين الداعمين لخطوة حذف الديانة من بطاقات الهوية، قدرا من العنصرية والاستهداف، إلى درجة أن هناك من يعتبرهم أصحاب أجندات غربية لنشر التحرر الديني في المجتمع.

حتى أن صانع القرار في مصر، لا يمتلك سلطة تفتيت القاعدة المجتمعية التي تتشبث بتعصبها الديني وتعتبر انتماءها العقائدي مصدر قوة وسلطة. صحيح أن الرئيس عبدالفتاح السيسي قال قبل أسابيع في منتدى شباب العالم بمدينة شرم الشيخ “إن قمة التعايش المجتمعي أن تكون للشخص حرية الدين والعبادة.. يعبد أو لا يعبد”، لكن طرحه لم يلق قبولا سوى من فئة قليلة، تصنّف من جانب الأكثرية، بأنهم “ملحدون وخارجون عن الدين”.

أوحت تصريحات سابقة لتواضروس الثاني، بابا الكنيسة المصرية، حول خانة الديانة، أن الطائفة المسيحية ممتعضة من تخاذل السلطة في تكريس الحرية الدينية داخل المجتمع، وقال أكثر من مرة خلال أحاديث تلفزيونية وصحافية، إن إجبار أفراد المجتمع على الإفصاح عن عقائدهم دعوة إلى التمييز والعنصرية وتخدم أصحاب الأفكار غير السوية، والمؤسسات التي أقدمت على خطوة الطمس، تمتلك شجاعة استثنائية للمساواة بين الأفراد، في إشارة إلى جامعة القاهرة ونقابات المهندسين والمحامين والصحافيين التي حذفت الهوية الدينية من هويات أعضائها.

لا يقتنع أكثر المتظاهرين بالتمسك بالدين في مصر، بأن استمرار خانة الديانة تكريس للعنصرية والفرقة بين مواطني البلد الواحد وفق انتماءاتهم الدينية، لأن الكشف عن العقيدة يظل أحد منغصات فئات بعينها من بعض حقوقها خاصة، إذا كان مقدّم الخدمة يعتنق فكرا متطرفا.

يتذكر سامح عيد، الذي يعمل مصففا للشعر بمنطقة قريبة من قصر القبة الرئاسي، شمال القاهرة، أنه عندما ذهب إلى مكتب التموين التابع لمقر سكنه، لإضافة طفله على بطاقة صرف السلع التموينية المدعومة من الحكومة، رفض الموظف أكثر من مرة بذريعة أن الأوراق ليست سليمة، وفي الأخير قال له (أي الموظف)، “اذهب واشتك للكنيسة أو رئيسكم السيسي”، في إشارة إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي تربطه علاقة خاصة بالمسيحيين.

ويروي سامح لـ”العرب”، أن “الموظف كان ملتحيا، ويبدو أنه ينتمي إلى التيار السلفي، ولم يكتشف انتمائي الديني سوى من بطاقة الهوية، لأن الاسم (يقصد اسمه) لا يشير إلى أني مسيحي الديانة، فمثلا، ليس به كلمة جرجس، أو بولس، أو جورج، بل سامح.

صحيح أن بعض الموظفين الحكوميين يستهويهم تكدير المواطنين عند إنهاء خدماتهم، حتى دون أن يكون الأمر مرتبطا بانتماء ديني، ولكن لزيادة السخط على الحكومة بدافع سياسي، لكن الموقف الذي تعرض له عيد، يعكس أن خانة الديانة في بطاقة الهوية، ما زالت تشكل عقبة أمام نشر مفهوم المواطنة وقبول الآخر والتقارب بين المواطنين، لا سيما عند الفئات التي تحمل أفكارا متطرفة ورجعية وتعامل أصحاب الديانات الأخرى باعتبارهم كفارا.

يشكل الأزهر، عقبة كبرى في سبيل القضاء على التمييز بين أفراد المجتمع على أساس الدين، لأنه يتمسك بموقف متحجر من طمس خانة الديانة، ويعتبر أن ذلك تشجيع على المصاهرة بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، وهو الرأي الذي أرسلته هيئة كبار العلماء إلى مجلس النواب، عندما طُرح الأمر للنقاش قبل عامين، وآنذاك تقدم نائب بالبرلمان بمشروع قانون لذات الغرض.

زوايا ضيقة

مجلس النواب، باعتباره السلطة التشريعية التي من شأنها إصدار قوانين ترسخ لمدنية الدولة، يصر على الارتكان إلى الفتاوى
مجلس النواب، باعتباره السلطة التشريعية التي من شأنها إصدار قوانين ترسخ لمدنية الدولة، يصر على الارتكان إلى الفتاوى

أزمة الأزهر هي أنه يتعامل مع خانة الديانة، من زاوية ضيقة للغاية تتقارب مع وجهة نظر السلفيين المتشددين بشكل يوحي بأن الأمر لديهم يقلّص من حقوق ونفوذ المسلمين، فهو يتذرع بفكرة المصاهرة بين الديانات المختلفة، برغم أن التصدي لذلك، يمكن أن يكون عبر الاستعانة بشهادات الميلاد لاكتشاف ديانة الشاب أو الفتاة.

ويسوق بعض مشايخ وأئمة السلفية، الحجة نفسها، وزادوا أن “استمرار خانة الديانة مطلوب لاكتشاف الإرهابيين الذين يحاولون دخول الكنائس لتفجيرها”، دون اكتراث لكونهم إحدى الركائز التي تغذي التطرف والتشدد والإرهاب ضد المسيحيين بالفتاوى العنصرية، التي تحض على الكراهية والتمييز، إلى درجة أن البعض منهم يصف الأقباط بأنهم كافرون.

ثمة معضلة ترتبط بتشدد الأزهر في هذه القضية، فمجلس النواب، باعتباره السلطة التشريعية التي من شأنها إصدار قوانين ترسخ لمدنية الدولة، وفق نصوص الدستور، يصر على الارتكان إلى رأي الأزهر في قضايا يفترض أنها تخص التعاملات الشخصية بين الناس، وغير مقبول أن يكون الدين الحاكم هو الناهي لها، وهو ما منح المؤسسة الدينية نفوذا وسلطة، حتى أصبحت عائقا أمام تحضر المجتمع.

ويقول مراقبون، إن إلغاء خانة الديانة يتطلب إرادة سياسية لفرضها على المجتمع، لأن تغيير النظرة للانتماء الديني لن يكون بمبادرات فردية. ويتطلب قبل كل ذلك، أن تكون دوائر السلطة نفسها على قناعة بالمساواة بين أفراد المجتمع دون تمييز أو انتقائية وفق العقيدة، فهناك جهات ومؤسسات ترفض أن ينتسب إليها غير المسلمين. ولأن هناك من يتباهى من المسلمين والمسيحيين بدياناتهم بشكل علني كنوع من التفاخر، فإن مسؤولية القضاء على التطرف المجتمعي مشتركة، وطالما أن التعصب موجودة بشكل رسمي أحيانا، فإن مواجهته تتطلب ثورة شاملة ضد الفكر الانتقائي لدى السلطة والأفراد.

20