خالد بن صالح شاعر ينحاز إلى الهامشي والمُبتذل واليومي

شاعر جزائري يستمد قصيدته من كوكتيل الحياة اليومية، ويشبه نصوصه الشعرية بساحات العراك والثورة.
الأحد 2019/12/15
خالد بن صالح: انحيازي لليومي لم يعد انشغالي الشعري الوحيد

تفاصيٌل عابرة وأحداث هامشية قد تُشكِّل في عاديتها أهمية تفوق كل ما يُكرس له على المستوى الرسمي، من هنا يأتي خيارٌ شعري ينحاز للهامشي في مقابل المتن السائد تحقيقًا لحرية الشاعر ورفضًا لكل ما يعترضها. ومن ثم يصير الشعر في مغامرة تأبى التسليم بكل ما هو سائد. “العرب” حاورت الشاعر الجزائري خالد بن صالح حول مغامراته الشعريّة.

خالد بن صالح، شاعر من الجزائر صدر له “سعال ملائكة متعبين” 2010، “مئة وعشرون متراً عن البيت” 2012، و”الرقص بأطراف مستعارة” 2016، ومؤخرًا صدرت له عن دار المتوسط نصٌوص شعريّة بعنوان “يوميات رجل أفريقي يرتدي قميصًا مزهرًا ويدخن LM في زمن الثورة” وعنها يقول “يومياتُ رجلٍ أفريقي هي أولاً، استمرارٌ لمشروعي الشّعري، أو بالأحرى مغامرتي التي لا تخلو من المطبّات، منذ ديواني الأول في كتابةِ قصيدة النثر، بعيداً عن أيِّة أرضيةٍ يمكنُ المشي عليها بخطى واثقة. وثانياً، وربّما هذا الأهمّ، هو تجربةٌ شعرية جديدة، انسلخت بذاتها من كلِّ ما كتبتُ من قبل، في مستوى الشكل والتقنية، وفي محاولةٍ واعية، سواء نجحت أو فشلت، في اكتشاف مناطق جديدة في الكتابة، باعتمادِ عملية بناءٍ تهدمُ المعتادَ والمرتاح له، لتُشيِّدَ مكانه شيئاً مختلفاً، مؤلماً ومخيفاً، لكنّه يستحق التجريب”.

سردية الحراك

ينتمي بن صالح إلى جيل في الكتابة جاء في ظل إشكاليات ثقافية واجتماعية وسياسية كبرى على مستوى عدد من الدول العربية، كان أكثرها تأثيرًا بالنسبة إليه الحرب الأهلية في الجزائر.. يتحدث الشاعر الجزائري عن ذلك قائلًا: أنا أنتمي روحيًا، لا زمنيًا إلى جيل التسعينات، كونها الفترة الحرجة التي اصطدمت فيها “أحلام الصغر” بمشاهد الدّم والقتل والمأساة الوطنية، تلك الحربُ التي يخشى الكثيرون من تسميتها بالأهلية، والتي غيَّرت وعيَ جيلٍ بأكملهِ، وأدخلتنا في أنفاقٍ مظلمة أمسى لطولها الضوءُ مُرعباً هو الآخر.

الهامشيُّ والعابرُ والمبتذل حاضرٌ دائمًا في نصوصي، لكن تراكمت معه هواجس أخرى وأسئلة رافقت انهيار الكثير من السرديات القديمة، والرموز والأسماء. كان لثورات الربيع العربي ولا يزالُ الأثر الذي يشبه رجع الصدى، وأنَّ صوت الصرخة الأولى لم يبلغ بعدُ مداه.

لم أكن شاعراً يومها، كنتُ ما قبل ذلك بكثير، كوني عشتُ العشرية كأيّ جزائري بسيطِ، بأنفاسٍ أقلّ ونومٍ مثقوبٍ بصراخِ الضحايا وطلقات الرصاص. لكن في المقابل خلقَ ذلك الجو الخانق، رغبةً أكبر في الحياة، فكانَ الرَّسم والكُتب ولقاءات الأصدقاء التي تتحدَّى حظر التجوال، والوحوش الآدمية المفترسة القادمة من حكاياتٍ واقعية، لا علاقة لها بحكايات الرّعب التي ترويها، عادةً، الجدَّات. ذاكرتي العصيّة على النسيان، ما زالت تجولُ بي في تلك الأزقة الضيّقة، ونظراتِ أمّي الخائفة، كما تُحيلني، في الوقت نفسِه، على شقاوةٍ وتمرِّدٍ رافقا خربشاتي الأولى رسماً أو كتابةً.

ويتابع: لعلَّ مقاربة “سردية الحراك” شعريًا، وربطها أنطولوجيًا بمسار الثورات في الجزائر، هو ما منحني هذهِ الجرأة على التجاوز والاشتغال بعيداً عمّا كتبتُ سابقاً. أستطيعُ القول: إنَّ نصوصي الشعرية تشبهُ ساحات الحراك والثورة، شكلاً كتعبيرٍ بصري، لكنّها تسعى، في زمنها متعدِّد الأوجه، إلى التقاطِ اللَّحظة التاريخية، ضمن سياقات تُعبِّر هي الأخرى عن حيويّة الشارع. وهنا، تصبحُ العملية الإبداعية نزولاً فعلياً إلى الميدان، تكتشفُ بعدهُ أنَّ الكلمات التي تُشكّلُ جملتكَ الشعرية، ما هي إلَّا خُطى المشاة الذين رافقتهم في شارعٍ ما، وأصواتهم الصارخة بمطلب الحرّية، هي صوتك حين تلجأ إلى عزلتك الصاخبة.

إخوة أعداء

بدأ بن صالح كفنان تشكيلي ثم تحوّل إلى كتابة الشعر، يشبّه تأثير تلك البداية على ما كتبه من شعر بأنه حرب إخوةٍ أعداء، يوضح: حتى لا أقول حربًا أهليّة، بين الرسّام الذي كنته أولًا وما أصبحتُ عليه كشاعرٍ تاليًا، أحبُّ أن أتمسَّك بهذه الكاف التي تقيني من اليقينِ المطلق، لا لشيءٍ سوى لإيماني الراسخ بأنَّ الشعر غير مكتمل، وأنَّ قوته تكمن في نقصانه، وفي أنَّه لا يفعلٌ شيئًا سوى الاستمرار في “الوجود”، ومن يعتقد أنَّ الفن سينقذ العالم من انحداره ومضيّه نحو الهاوية، فهو واهم.

لا أعرف متى وكيف أكتب القصيدة؟ هي تشبهني وتشبه مزاجي المتطرف في حبّها. قد ألتقيها صدفة في أولى ساعات الصباح، أو تدقُّ باب بيتي في ساعة متأخرة من اللَّيل، وقد أنتظرها صيفاً كاملاً ولا تأتي
لا أعرف متى وكيف أكتب القصيدة؟ هي تشبهني وتشبه مزاجي المتطرف في حبّها. قد ألتقيها صدفة في أولى ساعات الصباح، أو تدقُّ باب بيتي في ساعة متأخرة من اللَّيل، وقد أنتظرها صيفاً كاملاً ولا تأتي

جئتُ إلى الكتابةِ من أبوابها الخلفية، بعد أن قطعتُ نصف المسافةِ في ممارسة الفن التشكيلي، وأسّستُ رفقة صديقي الراحل “صالح بن شنقارة”، الذي لم تفارقني صورته يومًا، “مرسم الحرّية”؛ كورشة عمل وتكوين للعديد من المواهب الشابّة التي أصبحت محترفة الآن. أنجزتُ الكثير من اللوحات ونلتُ جوائز وكنتُ أحفرُ بضرباتِ الريشة طريقي الخاص، بقلقٍ لونيّ وجرأة بصرية انعكست لاحقًا على نصوصي الأولى التي كتبتها بشكلٍ متواصلٍ لأوَّل مرَّة بعد حادث سيارة ألزمني البيتَ ذات شتاء ليس بعيد. كانت رسائل إلى امرأةٍ في زمن الحرب، وصارت لاحقًا بعد المراجعة والتعديل والانتظار ديواني الأول “سعال ملائكة متعبين”.

ويضيف: ما زلتُ أعتقد إلى اليوم، أنَّ الرسّام جالسٌ في مكان ما بداخلي، يترقّب ويستمتع باللوحات التي لم أرسمها وتحوّلت إلى قصائد، ثمَّ صارت كتباً ومشاريع صغيرة أستطيع القول إنَّها وجهتي الأخيرة في دربٍ أمضي فيه الآن، ولو بخطى مُتعثّرة، ولكن دون رجعة.

القضايا الكبرى

لا تشغل بن صالح الأسئلة الكبرى في الشعر، ولم تعد تشكل هاجسًا له في الكتابة، فالشعر أمسى، كما يعتقد، في مناطق شائكة، في مجازفةٍ واقعية يقتطعُ منها الخيالُ ذاته، وتمضي باللًّغة نحوَ حقولٍ ملغَّمة، حيثُ الشكُّ والخوف والمقاومة وعدم الاستسلام لكلِّ المقولات الجاهزة، شكلًا ومعنى. القضايا الكبرى هي كذلك قضايا إنسانية، تماماً كما التفاصيل الحميمة، والهوامش المُهملة. لعلَّ السؤال الأهمّ، في هذا السياق، هو كيفية التناول؟ كيف نكتبُ “ثوراتنا” و”حروبنا” و”مآسينا” و”هجراتنا” ويكون ذلك، بالشكل الذي نريده، وبالطريقة التي تصل بها الصورة التي تشبهنا في الكتابة.

الهاجس هو كيف نخرجُ بالشعر إلى الشارع، إلى الحياة، إلى الأمكنة التي لم يتعوَّد عليها وقد حبسناه في المنابر والقواعد والقواميس، الشعر الحقيقي لا اسم له، ولا ملامح تعكسها مرايا العالم، حتّى في القضايا الكبرى ستختلف الرؤية حين تختلف الطريقة ونكتشف تلك القطعة الضائعة منّا، لتُرمَّم بالكتابة.

صيحةٌ متأخّرة لرجل ينتمي جغرافيًا إلى القارة الإفريقية، مخزن الأسرار والثروات المستغلّة
استمرا لمشروع شعري ومغامرة لا تخلو من المطبات

ويضيف: أعتبرُ أنَّ انحيازي لليوميّ، لم يعد هوَ الاشتغال الوحيد في الكتابة الشعرية، بعد أن كان أساسَ كلِّ كتابةٍ عندي. الهامشيُّ والعابرُ والمبتذل حاضرٌ دائمًا في نصوصي، لكن تراكمت معه هواجس أخرى وأسئلة رافقت انهيار الكثير من السرديات القديمة، والرموز والأسماء. كان لثورات الربيع العربي وما يزالُ الأثر الذي يشبه رجع الصدى، وأنَّ صوت الصرخة الأولى لم يبلغ بعدُ مداه.

كذلك باتت المقارنة عندي بالبدايات والآن، أشبه بمسار عدّاء مسافات طويلة لا يهمّه من يلاحقه أو من يسبقه، بقدر ما يهمُّه أن يصل، ولعلّه أثناء ذلك يُفكر في كيفية ادخار الجهد والأنفاس والقدرة على الحلم، حتى يحقق مراده. بهذا المعنى سأظل أركضُ وتلك متعتي حتى وإن لم أفز، وإن لم يكن هناك أصلاً خطُّ نهاية.

كتبتُ عن مقبرةٍ تبعد مئة وعشرين مترًا عن البيت، في مواجهةٍ مباشرة مع الموت، كتبتُ عن العشرية الدمويّة في جزائر تسعينات القرن الماضي وكيفَ كان الطفل الذي كبُر وسط رعبٍ أسود يرى العالم من حوله، ثمَّ كتبتُ عن “الحراك” اليوم في علاقةٍ وطيدة بمشاغل أخرى كتغيّر الوعي وانتفاء سلطة الأبوة المزيّفة واسترجاع الشارع.

انشغالاتٌ خاصة

يقول بن صالح: أنا أنتمي شعرياً إلى جيل الإحباط واليأس. نكتبُ لأنَّنا أُصبنا بأعطاب كثيرة، ولأنَّنا نريد فعل ذلك وحسب. ليس بهاجس مراكمة الكتب ولا الحصول على امتيازات المتن المكرَّس؛ إنَّما لنقول، بشكلٍ ما، أنَّنا نحبُّ ما نفعل ونعتبره قطعةً منَّا، قطعة حميمة جداً وحسّاسة وغاضبة لو نرميها في الشارع ستلتهم، كوحشٍ أسطوري، كلّ شيءٍ غير حقيقي ولا موقف له.

ما تغيّر هو هذا الوعي والحسّ القاسي تجاه قصيدتي، تلك القدرة على الحذف وشطب مئات الأسطر (غير اللائقة)، ما تغيّر هو عدم اهتمامي أين تتموضع قصديتي في مسار قصيدة النثر الجزائرية، ذلك ليس عملي، والأسئلة والانشغالات أمست مرتبطة بما يحدث بداخلي وله علاقة بالواقع، بتلك المنعطفات الحاسمة في حياتي، وكيف أستطيع أن أمنح صوتي وكلماتي لما أعتبره يمثلني وأنتصر له إنسانيًّا وشعريًّا.

قصيدة تشبهني

وفي ما يخص اختيار عناوين أعماله، يقول الشاعر: إنَّهُ لأمرٌ جللٌ! اختيار العنوان هو خوفٌ آخر يُضاف لخوفِ الكتابة وما يصيبني خلالها من قلق، بل هو كتابةُ أخرى، تستغرق زمناً لا يستهان به، وأحياناً يتأخر صدور العمل، بسبب بحثي عن العنوان الذي يعكس التيمة الأساسية للكتاب. أستعين بآراء الأصدقاء ونتناقش وقد أُتلف أوراقًا كثيرة بحثًا عن تلك الجملة التي تُسمّى عنوانًا.

العنوان كأسمائنا، أحياناً هو من يختار صاحبه، ولكن الأهمَّ أنه حينَ يُذكر من حوله، سيلتفت كما لو أنَّ أحداً ناداه باسمه.

ويستطرد: لعلَّ أكثر ما يؤرّقني، لا أعرف متى وكيف أكتب القصيدة؟ هي تشبهني وتشبه مزاجي المتطرف في حبّها. قد ألتقيها صدفة في أولى ساعات الصباح، أو تدقُّ باب بيتي في ساعة متأخرة من اللَّيل، وقد أنتظرها صيفاً كاملاً ولا تأتي، أحياناً تسرقُ وسادتي وتسحب من بين أصابعي السيجارة التي أشعلتها للتوّ، وهناك أمورٌ أخرى يصعبُ ذكرها هنا.

أحبُّ أن أتمسَّك بهذه الكاف التي تقيني من اليقينِ المطلق، لا لشيءٍ سوى لإيماني الراسخ بأنَّ الشعر غير مكتمل، وأنَّ قوته تكمن في نقصانه

ألسنا في الأخير نتحدَّث عن القصيدة؟

يُبين بن صالح أن انحيازه إلى الهامشيّ والعابر واليومي الغارقِ في اعتياديته موقفٌ إبداعي، له علاقةٌ وطيدة بمواجهةِ المتن الذي أتى على كلٍّ ما ينبض بالحيوية والحرّية، بإيعاز المؤسسة الرسمية التي كرّست الرّداءة على مدى عقود. معتبرًا أن “الصّعلكة” هي تعبيرٌ رافضٌ لكلِّ ما يكبحُ بذور الثورة، في مختلف أشكالها، ومن هنا يأتي انتماؤه إلى الهامش، كموقفٍ معارضٍ للمكرَّس والسائد.

ويتابع: استمد قصيدتي من كلُّ شيءٍ ولا شيء، كوكتيل الحياة اليومية، الأساطير والأفلام والأغاني، الكتب المنسية، وتلك التي لم أقرأها بعد، الشارع، القصص الهامشية والحكايات التي أعيشها ويرويها الناس بطريقتهم الخاصة، ما أعيشه جملةً وتفصيلاً وما أعيشه في الخيالِ أيضاً، على حدِّ قول بيسوا “هذه الحلقة من الخيال التي نُسمّيها واقعًا”، القصائد وحياة القصائد عبر التاريخ، الحبّ وقصة الحبّ، ثمَّ هذا العدمُ المتماوجُ كحقلِ سنابل أمضي فيه جريحاً كما راسل كرو في فيلم غلاديايتر، هناك في أعلى التلّ زوجتي وابني في الانتظار وموسيقى عظيمة ترافق خطاي المتعثِّرة.

11