خافيير بوغمارتي وأعماله الطفولية

حين جاء الفنان الأسباني خافيير بوغمارتي لأول مرة إلى مصر في بداية الثمانينات من القرن الماضي لم يفضل البقاء طويلاً في القاهرة. كان يريد حينها الابتعاد عن ضجيج المدن وصخبها المعتاد، فاتّجه إلى الجنوب حيث مدينة الفيوم الهادئة. أحب بوغمارتي تلك المدينة التي يغلب على أجوائها الطابع الريفي، فقرر أن يستقر بها ويؤسس له بيتاً هناك على أطراف إحدى القرى النائية ليعيش فيه مع زوجته الإيطالية، وبدلاً من المكوث في هذه المدينة لشهر أو شهرين كما كان ينوي لم يبارحها إلى اليوم. يرسم بوغمارتي منذ ذلك الوقت ويعرض أعماله في القاهرة ومدريد انطلاقاً من هذه القرية النائية ليؤسّس ملامح هذه التجربة الشيّقة المعلّقة بين ثقافتين.
تحوّل بيت بوغمارتي مع الوقت إلى قبلة لأطفال القرى المجاورة، يعلّمهم الرسم ويشاركهم المرح ومتعة الاكتشاف. هو فنان شديد الإيمان بوحدة الثقافة الإنسانية، لذا تعالج أعماله شديدة الاختزال العديد من القضايا المرتبطة بحرية الإنسان في التعبير والمعرفة وحقه في الانتقال. وكان من البديهي أن يتطرق الحديث معه عن تجربته في مصر إلى ما يحدث في المنطقة العربية والعالم من صراعات. من الحديث عن الدكتاتور الأسبانى فرانكو الذي عاصره طالباً في الجامعة إلى أحوال السياسة في منطقتنا، تتشابه التفاصيل، كما يقول، وتبدو قاتمة أحياناً، لكنه يظل محتفظاً بروح التفاؤل دائماً، خلافاً لأصدقائه من المصريين الذين بدا بعضهم أقل تفاؤلاً من ذي قبل.
يقول بوغمارتي “لا يحدث التحول في عامين أو ثلاثة، يحتاج الأمر إلى سنوات طويلة للتخلّص من آثار الأنظمة القمعية أحياناً. حين كنت طالباً في الجامعة كان الدكتاتور فرانكو ما يزال في سدة الحكم، وكانت الجامعة تموج وقتها بالحركات الطلابية المتطلعة إلى التخلص من قيد الاستبداد، وحين رحل فرانكو، كانت الإصلاحات الديمقراطية بطيئة ومخيّبة لآمال الملايين من الشباب، ولكن مع الوقت بدأت تلك القبضة تخف شيئاً فشيئاً، لكنّنا إلى اليوم مازلنا نعاني من آثارها، وما يزال الكفاح من أجل الحريات مستمراً. على الشعوب أن تكافح من أجل الحرية، ومهما طالت سنوات الكفاح سيتحقق ما تصبو إليه في النهاية”.
يوظف بوغمارتي في أعماله وسائط عدة، من الفيديو إلى الصورة الفوتوغرافية، كما يستخدم أيّ خامة أو أداة يستطيع العمل بها لإنشاء تكويناته التي يغلب عليها قدر كبير من العفوية. هو يرسم على القصاصات الصغيرة من الورق بنفس القدر من الاهتمام الذي يرسم به على الأحجام الكبيرة. يجمع بين أعماله في شكل عام تلك النظرة الكونية التي تميز تجربته. يتعامل دائماً مع مساحة اللوحة بقريحة طفل يريد أن يشكل العالم حسب مخيلته الطازجة والخالية من الذكريات والأنساق البصرية الجاهزة. يختلق عناصره المرسومة من رحم الأرض، ومن تهويمات الغسق. تتخلل تلك العناصر مساحات حيادية وتقاطعات من الخطوط والتهشيرات والعلامات. تبدو العلاقات المتشابكة بين كل هذه المفردات سابحة في فضاء اللوحة، في عفوية كرسوم الأطفال. بينما يتقافز “كوزميك” -وهو الشخصية الخيالية الحالمة التي ابتكرها- في رشاقة وخفة بين المساحات، أو يتوارى بين التهشيرات اللونية.
|
ابتكر بوغمارتي شخصيته الخيالية المصنوعة من الورق، والتي أطلق عليها اسم “كوزميك” أو الكوني لتعبّر عن قناعاته بوحدة الثقافة والوجود الإنساني. يتقمص بوغمارتي هذه الشخصية الخيالية محلقاً عبر الحدود والثقافات والأزمنة. يتبادلان الأدوار، يحكيان معاً قصصا لا تنتهي عن الحب والعشق والخيال. تتشكل تلك الخيالات في مجموعة الصور ومقاطع الفيديو التي يصنعها الفنان بنفسه، ويبثها بين الحين والآخر عبر حسابه على الفيسبوك.
لقد أتاح له موقع التواصل الاجتماعي كما يقول فرصة الوصول إلى كلّ بقعة من بقاع العالم من دون عناء العبور على تلك الحواجز الكريهة التي صنعها البشر من حولهم. تحوّلت هذه الشخصية الخيالية مع الوقت إلى ما يشبه الأيقونة التي لا تفارقه. يزين بها ملابسه، أو يعلقها أحياناً كتميمة داخل بيته وسيارته. يتحدث بلسانه ويوزع البهجة على الآخرين. كان كوزميك أيضاً هو الثيمة الرئيسة في معرضه الأخير، الذي أقامه في قاعة مشربية بالقاهرة تحت عنوان “سُحُب للبيع”، وهو عنوان ساخر استلهمه من تعليقات أصدقائه على الفيسبوك، فقد تعود أن يطرح أعماله للنقاش والمشاهدة على مواقع التواصل الاجتماعي التي يعتبرها بديلاً افتراضياً لقاعات العرض والمتاحف التقليدية.
طرح بوغمارتي ذات مرة بعض أعماله تلك للبيع أمام أصدقائه عبر هذا الواقع الافتراضي؛ ولطغيان اللون الأبيض على تلك الأعمال أسماها بمجموعة “السحب البيضاء”، وكتب معلقاً “لوحات السحب البيضاء هذه للبيع”. التعليقات المرحة التي استقبل بها أصدقاء بوغمارتي هذه الأعمال أيقظت في نفسه هو أيضاً حس الدعابة، فقد أنشأ من دون أن يدرى سوقاً للسحب على الإنترنت.
هذه الروح المرحة التي يتمتع بها بوغمارتي تغلّف معظم عروضه التي يقيمها في القاهرة، كما أكسبته هذه الروح كذلك العديد من الأصدقاء في مصر. أصبح بيت الفنان الأسباني اليوم أحد الوجهات المحببة للكثير من الفنانين المصريين عند زيارتهم لمدينة الفيوم الواقعة على بعد مئة كيلومتر من القاهرة.
ولا تقتصر علاقاته بالفنانين وحدهم، بل تمتد صداقاته إلى العديد من أهل القرى المجاورة، فوجوده طوال هذه الفترة خلق نوعاً من الألفة بينه وبين السكان، فبعد أن كانوا ينظرون إليه بغرابة صار الخواجة بوغمارتي واحداً منهم كما يقول، يسعد هو بمحبتهم، ويستمتعون بحكاياته التي لا تنتهي عن بلاده البعيدة التي كانت تتكلم العربية في غابر الأيام.