حي مصر الجديدة.. مدينة الشمس تحلم ببارون جديد

القاهرة - في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد سنوات من افتتاح قناة السويس، رست على شاطئ القناة سفينة كبيرة قادمة من الهند، على متنها مليونير بلجيكي يدعى إدوارد إمبان، وكان يحمل لقب "بارون" منحه له ملك فرنسا تقديرا لجهوده في إنشاء مترو باريس. كان إمبان رجل صناعة ومهندسا معماريا، وكان يبحث عن موطن يستقر فيه حتى نهاية حياته.
اختار البارون منطقة صحراوية في قلب القاهرة لإنشاء مدينة تحمل اسم هيليوبلس (كما سُميت في العصر اليوناني) وعرفت أيضا بمدينة الشمس، واشترى 6 آلاف فدان لهذا الغرض عام 1905، واستعان بالآلاف من العمال لإنشاء مبان على طراز أوروبي، ممزوج بجمال العمارة الإسلامية. وفي عام 1923 شرع في بناء ميناء جوي للطائرات (مطار القاهرة حاليا) بالقرب من هيليوبلس، ليلفت العالم إلى مدينة الشمس التي كان يحلم بها طول حياته، وأطلق عليها "مصر الجديدة".
لكن كما تغير كل شيء في مصر، طرأت تغيرات على حي مصر الجديدة، فلم تعد المدينة الهادئة أو المتفردة عن غيرها من مدن القاهرة، حتى من كانوا يسكنونها من الأثرياء والأعيان، رحلوا إلى مدن أكثر حداثة وهدوءا، بعدما غزتها الضوضاء والعشوائية. وبدأ طابع الكثير من المباني الأثرية يتغير.
لم تعد مصر الجديدة مدينة التراث كما تمناها “البارون”، وأصبحت مهددة بالغرق وسط طوفان التحديث الذي تتبناه مؤسسات حكومية لصالح بعض رجال الأعمال، كلاهما لا يعرف قيمة الحي أو تاريخه.
فندق “هيليوبلس بلس” كان أول مبنى بالمدينة، وأصبح مقر رئاسة الجمهورية المصرية المعروف حاليا باسم قصر الاتحادية، فمع اعتزامه العيش في المنطقة شيد المليونير البلجيكي قصره “البارون”، وحتى يربط بين القاهرة وهيليوبلس قام بإنشاء 3 خطوط من الترام ما يسر الوصول إلى قلب القاهرة.
جذب الطابع الأوروبي للمكان ورقي خدماته، مواطني الطبقات الغنية في مصر، حيث كانت الحياة تعني السكن في مدينة أوروبية ساحرة من مبان فخمة ونواد عالمية ومتنزهات ومضامير لسباق الخيول.
في ذلك الوقت شهدت “مصر الجديدة” إنشاء أول مدينة ملاه في مصر والشرق الأوسط عام 1910، سميت “لونا بارك” أو “وادي القمر”، لكن تم هدمها في أواخر الأربعينات، وحلت مكانها محطة بنزين وسينما. بدأ بعدها الرجل إنشاء مساجد وكنائس ومدارس ومتاجر حتى يعمر المدينة.
التطوير أخذ شكل التدمير، وأصبح سكان مصر الجديدة يعيشون على ذكريات أيام "البارون البلجيكي"
وأصبح حي مصر الجديدة قبلة لصفوة المجتمع المصري، وخرجت من بين أحضان مبانيه الفخمة وعائلاته الراقية، شخصيات سياسية واجتماعية وفنية وإعلامية بارزة، أثرت في شكل وملامح الحياة المصرية، وأمسكت (تقريبا) بزمام الأمور داخل الدولة للعشرات من السنين، من بينها رؤساء جمهورية وحكومات ووزراء داخلية ودفاع ومسؤولو استخبارات، وبات حلم الكثير من الأسر المصرية أن تعيش في مكان جمع قادة مصر على مدار عصور مختلفة.
ما يميز الكثير من المدارس والفنادق والمستشفيات في حي مصر الجديدة، أنها كانت عبارة عن قصور وتحولت إلى مبانٍ خدمية، فتجد قصر السلطانة “ملك” زوجة السلطان الراحل حسين كامل الذي أسسه البارون (1912) وأهداه لها، قد تحول إلى مدرسة مصر الجديدة الثانوية للفتيات. وظل الشكل الحضاري لمصر الجديدة يحظى باهتمام خاص من جانب حكومات كثيرة، لا سيما أنه يمثل واجهة القاهرة من الجهة الشرقية، وأول من يستقبل القادمين من أنحاء العالم لوجود مطار القاهرة الدولي، وأحد مداخل العاصمة للقادمين من بورسعيد والإسماعيلية والسويس.
آخر ضحايا الحي الذي كان أوروبيا، حديقة الميرلاند التي أطلق عليها “أرض السعادة”، فما إن تطأ قدم الزائر أرضها حتى ينفصل عن العالم من شدة البهجة. كانت الميرلاند مكانا ترفيهيا على الطراز العالمي، وعلى مدار أجيال ظلت حديقة الأسرة ومتنزه الكبار والصغار إلى أن قاربت للتحول إلى مدينة للأشباح بعد مذبحة الأشجار التي جرت فيها.
ما حصل للميرلاند يمكن اعتباره صورة مصغرة لما يتعرض له حي مصر الجديدة، لكن لا يزال للمنطقة عشاق يرفضون مغادرتها ولا تزال هناك شوارع محافظة على طابعها، ومبان متمسكة بملامحها، ومقاه قديمة تقاتل كل يوم من أجل البقاء، ويمكن أن يكون ذلك بفضل طبيعة سكان الحي أنفسهم. سكان لهم طبيعة خاصة، وتحديدا القدامى في الحي، يعتبرون أنفسهم أصحاب الممتلكات العامة، من شوارع وميادين وكنائس ومساجد وقصور، وينتفضون ضد محاولات تغيير نمط الحياة أو حتى إدخال تعديلات ومحو الأماكن والمباني التاريخية بالمنطقة، فيقومون بحملات مناهضة للحكومة، إذا استشعروا خطرا يحدق بالحي، ويقدمون أنفسهم في صدارة الصفوف المدافعة عن التراث.
في المقابل يظل بعض موظفي الحي إحدى أدوات التدمير، بعدما أسندت إليهم مهام التطوير وهم على غير دراية بقيمة التراث، ما تسبب في تشويه ملامح المباني والقصور ببناء الأبراج السكنية الشاهقة، بعدما كان الارتفاع المسموح به للمباني لا يتجاوز أربعة طوابق، فضلا عن انتشار المحال والمقاهي في الشوارع التاريخية. لذلك فإن التطوير الذي يتحدث عنه المسؤولون في محافظة القاهرة، أكثر ما تتألم منه “مصر الجديدة”، فالترام الذي أنشأه البارون لم يعد موجودا، وحديقة الميرلاند تحولت إلى تلال من الرمال.