حين تفقد الفلسفة قيمتها

نرجو أن تتم مراجعة جدية لطرق تقييم الاختبارات وإسناد العلامات، فمثل هذه النتائج تفقد الاختبار الوطني جديته وتفقد الفلسفة قيمتها.
الأربعاء 2024/06/26
بحاجة إلى المراجعة

تعني الفلسفة باختصار “حب الحكمة”، كما يمكن تعريفها على أنها الاعتبار العقلاني والتجريدي والمنهجي للواقع ككل أو للأبعاد الأساسية للوجود البشري والخبرة، ومن الجدي بالذكر أنّ البحث الفلسفي يعد عنصرًا أساسيًا في التاريخ الفكري للعديد من الحضارات، وبالإضافة إلى ما سبق يمكن تعريف الفلسفة أيضًا على أنها النشاط الذي يقوم به الناس عندما يسعون إلى فهم الحقائق الأساسية عن أنفسهم وعن العالم الذي يعيشون فيه.

ويخاف الناس من الفلسفة، حيث تتخذ منزلة مهمة تمنح من يمارسها هيبة وحكمة لا يحظى بها غيرهم، والفلاسفة شجعان في كسر السائد وطرح مقاربات وأفكار تهدم تاريخا متوارثا من الأفكار والقناعات والحقائق السابقة. لكنها قد تتخذ أيضا منزلة مختلفة في بعض المجتمعات ومنها تونس.

في تونس تستخدم عبارة فلسفة أحيانا كثيرة للإشارة إلى شخص يفكر بطريقة غبية أو طريقة لا تعجب الغالبية، فأن يقول أحدهم عن الآخر “يتفلسف” يعني أنه يقول أو يفعل هراء لا يجدي نفعا له ولا لغيره.

وبعد أن كانت الفلسفة فعلا مخيفا وحكرا على العلماء والمفكرين ممن تشبعوا بقراءة العلوم والتاريخ الإنساني، صارت اليوم في تونس محل سخرية وتندر.

منذ أيام قليلة صدرت نتائج اختبارات الثانوية العامة (البكالوريا) في تونس، وكالعادة جاءت معدلات التلاميذ صادمة، فمنهم من تحصل على 20.15 من 20، وهي معدلات لا يستوعبها العقل البشري، فكيف لطالب يمتحن للحصول على معدل نهائي يحتسب من أصل 20 نقطة أن يتجاوز ذلك. ألهذا الحد هناك طالب بإمكانه الحصول على العلامات الكاملة في المواد حتى المواد الأدبية؟

نعرف جميعا أن المواد العلمية هي قواعد وعمليات حسابية، إنما المواد الأدبية هي تعبير وصياغة ومنهجية ولغة صحيحة وقدرة على الإقناع وتحليل مسترسل للفكرة، وهي مواد تتطلب حفظا وفهما لمنهج دراسي لعام بأكمله، إلى جانب ثقافة الطالب العامة، فما بالك لو كانت هذه المادة هي الفلسفة.

هذا العام تكررت الحادثة نفسها التي وقعت عامي 2019 و2018، حيث تحصلت طالبة على معدل 20 من 20 في مادة الفلسفة، ما أثار تهكما واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي حيث رأى البعض أن أرسطو وسقراط وتلميذه أفلاطون لو عادوا إلى الحياة كي يختبروا في الفلسفة لما تحصلوا على علامة كاملة.

أي عقل بشري يستوعب أن أستاذا أسند علامة كاملة لطالب في اختبار الفلسفة، وهي مادة صعبة ولا أحد ينكر ذلك. هل اتفق رأي الأساتذة الذين صححوا الامتحان وفهمهم وتحليلهم له مع رأي الطالبة تماما؟ ألم تمر عليهم نظرية النسبية مطلقا؟

كان أساتذتنا يخبروننا دوما أن المواد الأدبية لا يمكن أن تسند فيها العلامة كاملة للطالب، فهي إلى جانب تقييمها وفق ضوابط أكاديمية واضحة تخضع دائما للنسبية وتقييمها صعب جدا، وهم يحضروننا لتقبل الأمر حتى أننا اعتدنا أن من يحصل على 14 أو 13 من عشرين في الامتحان هو مبدع حقيقي.

وأذكر جيدا حين كنا ندرس في المعهد، كان طلبة العلوم تحديدا يأتوننا نحن طلبة الآداب لنشرح لهم دروس الفلسفة، فكل تفكيرهم منصبّ على دروس الرياضيات والعلوم والفيزياء، ونجدهم عاجزين عن فهم لماذا ندرس الفلسفة من الأساس. أغلبهم يعتبرون المواد الأدبية لا تضيف إلى حياة الإنسان شيئا.

نرجو لهذه الطالبة التوفيق وألاّ تتهور وتختار دراسة الفلسفة، لأننا في عالم لا مكان فيه للفلاسفة، فسوق الشغل صارت لها مقاييس مختلفة، وأن تتعظ من تجربة الآلاف من خريجي الآداب والإنسانيات، ممن يعانون البطالة.

لكننا نرجو أيضا أن تتم مراجعة جدية لطرق تقييم الاختبارات وإسناد العلامات، فمثل هذه النتائج غير منطقية ويسهل التشكيك فيها، وهي تفقد الاختبار الوطني جديته وتفقد الفلسفة قيمتها.

18