حين تتخير النهضة تحالفاتها وقت الأزمات

حركة النهضة نجحت بالتحالف مع حزب قلب تونس في أصعب امتحان، ما جنبها خسارة الغنوشي رئاسة البرلمان.
الاثنين 2020/08/03
ليس المهم مع من نتحالف، المهم أن نبقى

مرت حركة النهضة في 30 يوليو 2020 بامتحان صعب تجاوزته بشق الأنفس وبتحالف مع قلب تونس الذي كان إلى حدّ الأمس القريب موسوما من طرفها بالفساد، حيث وقع التصويت على لائحة سحب الثقة من راشد الغنوشي رئيس النهضة ورئيس مجلس نواب الشعب، وصوّت 97 نائبا مع سحب الثقة، ولو اكتمل النصاب 109 لغادر الغنوشي رئاسة البرلمان.

وقال رئيس البرلمان التونسي “إن تونس تحتاج لمزيد من الديمقراطية ومزيد من ثقافة الحوار”، وذلك عقب إعلان إسقاط لائحة سحب الثقة منه. ثم أضاف كلمتين على حسابه في فيسبوك “الحمد لله”.

وصرّحت عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر بالقول “18 صوتا باعوا بإلإجابة بلا ونعم في نفس الوقت… ولو كانت لديه (الغنوشي) ذرة كرامة سيستقيل” مضيفة “وكشف المستور”.

النهضة تدافع بشراسة عن تحالفاتها وخاصة مع قلب تونس ورئيسه نبيل القروي والذي مثل فعلا قشة النجاة من السقوط المدوي لرئيس النهضة، في حين خصومها يعتبرون بأن قلب تونس “حزب انتهازي” لا غير. وهذا ما سيدفعنا لقراءة لتحالفات النهضة وللتوازنات السياسية في المشهد التونسي.

في عالم السياسة ليس هناك ثابت لا يتغير وهو أمر تفرضه التوازنات وحجمها ودرجة تأثيرها في الواقع ومتطلبات المرحلة، كل هذا واضح ومفهوم ولكن الأحزاب السياسية تنقسم في مجملها إلى صنفين كبيرين دون اعتبار للتفاصيل والحسابات الصغيرة.

الصنف الأول من الأحزاب التي تتأسس على منظومة فكرية ومرجعية واضحة بحيث لا تحيد عن ثوابتها في التحالف السياسي وفي رؤيتها لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. وهذه الأحزاب بدورها تنقسم إلى راديكالية لا تسمح بالحياد عن مرجعياتها تحت أي ظرف، وأحزاب تتمتع بمرونة وحسن قراءة للمراحل وفق قانون التطور.

عموما، هذا النوع من الأحزاب بعيد عن الليبرالية المتوحشة وبعيد عن اقتصاد السوق والخصوصية، بل يتمثل في برامجها دور الدولة القيادي والاجتماعي مع مراعاة التوازنات الإقليمية والعالمية السياسية والمالية، والمثال الأوضح في تونس بعض الأحزاب كحركة الشعب التي صرّح أمينها العام زهير المغزاوي بأن الحركة “لن تتواجد في حكومة فيها النهضة” لأنه اعتبرها سبب سقوط حكومة الفخفاخ وسبب ما آلت إليه الأمور وتجلى ذلك في المناكفات والصراعات التي عطلت دور المجلس ودور الدولة. وبعض القوى اليسارية التي استطاعت التخلص من راديكاليتها ولو أنها لا تزال تعاني التشرذم نتيجة الزعاماتية.

أما الصنف الثاني من الأحزاب فهو ما يسمى بالأحزاب الوسطية وهي الأحزاب المنتمية لليبرالية والبراغماتية وتتبنى مفاهيم الدولة الحداثية كمن تبنت الفكر البورقيبي، ولذلك من السهل الالتقاء مع غيرها دون متاعب ودون موانع فكرية أو مرجعية، فمهما اختلفت التفاصيل فالجوهر واحد: التجمع سابقا، النداء، مشروع تونس، قلب تونس.. الحزب الحر الدستوري الذي بنت زعيمته عبير موسي مشروعها السياسي على مناهضة النهضة والسعي إلى إقصائها من المشهد السياسي.

أما أحزاب الإسلام السياسي وتبدو ذات مرجعية إسلامية، ولكنها من أجل التموقع في المشهد السياسي تتبنى مقولات الحداثة والدولة الوطنية كشعارات ولكنها ممارسة تهدم ذلك وتخدم أجندات آخر همّها المشاريع الوطنية البحتة والتي لا تعترف بالولاءات، والنهضة رغم نفيها المستمر لعدم ارتباطها بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين إلا أن كل أفعالها توحي بعكس ذلك، وأبرز مثال إعلانها صراحة دعم الحلف القطري التركي في سوريا ثم في ليبيا.

وفي ما يتعلق بـ”قلب تونس”، فهو حزب ليبرالي بلا مرجعية فكرية وبلا ثوابت منهجية (يوشّح خطابه دائما بشعار محاربة الفقر) هو من أنقذ راشد الغنوشي في جلسة سحب الثقة من رئاسة البرلمان.

ولسائل أن يسأل: لماذا دعم قلب تونس وأنقذ النهضة وراشد الغنوشي في مناسبتين، الأولى عند تنصيبه كرئيس لمجلس نواب الشعب والثانية بتثبيته في المنصب؟ مع العلم أن النهضة أكثر الأحزاب التي اتهمت قلب تونس ورئيسه نبيل القروي بالفساد.

وصرح في هذا الصدد أسامة الخليفي رئيس كتلة قلب تونس بالبرلمان بالقول لإحدى الإذاعات المحلية “لسنا راضين على سقوط لائحة سحب الثقة من الغنوشي ولسنا فرحين بما يحدث في البرلمان”.

والإجابة لا تتطلب كثيرا من النباهة، فعلا ملفات فساد تلاحق نبيل القروي أودع على إثرها السجن في عهدة يوسف الشاهد كرئيس للحكومة، إن قلب تونس حزب براغماتي همه الوحيد التواجد في السلطة وعلمه يقينا أن حكومة الرئيس الأولى رفضت تشريكه، كما يعلم موقف الرئيس قيس سعيّد الرافض له.

لقد استنبط قلب تونس حيلة التصويت بلا ونعم في نفس الوقت في جلسة التصويت على سحب الثقة من رئيس البرلمان، وبذلك أنقذ الغنوشي في تناقض تام مع تصريح رئيس كتلته من ناحية وترك الباب مفتوحا ربما ليكون ضمن التحالف الحكومي المرتقب. وتصريحات قيادييه كلها توحي بهذا الاتجاه.

ولا تستطيع حركة النهضة التحالف مع الأحزاب اليسارية كالجبهة الشعبية سابقا ولا الأحزاب الممثلة لها لأنهما لا يمكن أن يلتقيا في مفهوم الدولة وأدواتها وأدوارها، كما لا يمكن أن تتحالف مع حركة الشعب وبدرجة أقل مع التيار وهما يرفعان شعار اجتماعية الدولة ومقارعة الفساد والتجربة الأخيرة أثبتت أن النهضة لا تريد أحزابا تتحالف معها على برامج، بل تريد أحزابا تقودها وتأتمر بأمرها وتنفذ أجنداتها الداخلية والخارجية والدليل بدأ الخلاف بينها وبين الشعب والتيار حين رفضا تدخل الغنوشي وجهره بالتحالف مع السراج في ليبيا ودفاعه المستميت على أجندات قطر وتركيا في تونس وفي المنطقة.

إن المشهد السياسي في تونس غائم وغير واضح وكل السيناريوهات متوقعة، وربما الحقيقة الوحيدة أن الفرز الحزبي وقع ولا تستطيع النهضة أن تتحالف إلا مع ما يشبهها؛ ائتلاف الكرامة أو الأحزاب الليبرالية ذات الوزن البرلماني والذي يمثلها الآن قلب تونس كما النداء سابقا.

الحقيقة الثابتة أن قيس سعيد أثبت أنه قادر على المناورة وقادر على المفاجأة ووقع كشف الهوة بينه وبين النهضة تلميحا وتصريحا.

ويبقى السؤال، من سينتصر في هذا الصراع المحموم؟ وهل ستستطيع النهضة إعادة التموقع وفق منظور التمكين الذي تنفيه خطابا وتنفذه عملا؟ وهل سيقدر قيس سعيّد أن يعيد ترتيب المشهد مدعوما برصيده الشعبي من ناحية وبعض الأحزاب التي تلتقي معه في رؤيته للدولة ودورها كحركة الشعب والتيار؟

الخاسر الأعظم في هذا الصراع هو تونس وشعبها والسبب الرئيسي لهذا التدهور السياسي هو النظام السياسي برؤوسه الثلاثة المتناحرة دوما. النهضة وما لف لفها ترفض مناقشة هذا الأمر بدعوى الخوف من العودة إلى الممارسات الدكتاتورية في حين أن هذا النظام شبه البرلماني أجج التطاحن السياسي من أجل التموقع وأرهق التونسيين إلى درجة أنهم كرهوا الفعل السياسي بكل ما فيه.

6