حياة الليل

في الليل، هناك حياة معكوسة تنقصها الروح تشبه كثيرا بدايات متلكئة أو يوميات غير كاملة يغمرها حرمان متواصل من النوم.
السبت 2018/11/03
حياة الليل بديل عن الحياة الأخرى التي يمارس فيها الناس العاديون طقوسهم اليومية

كل يوم، وفي ساعة محددة حيث ينزل الظلام ستارته الداكنة على مسرح الحياة، تصمت الطبيعة فتكف كائناتها عن الدوران في فضاء الحركة، يتراجع الصخب ويخفت إيقاع الأشياء حتى يسود الصمت. تقفل أبواب المنازل وتطفئ المباني أضواءها وتودع الشوارع خطوات المارة إيذانا بنهاية يوم آخر، ثم يحل وقت السكون والهدوء فيحضر سلطان النوم ليمارس طقوس إمارته على الحجر قبل البشر.

على الرغم من ذلك، فإن في هدئة هذا الليل هناك عجلة أخرى بوسعها أن تدور مجددا وعوالم ضاجة بوسعها أن تستأنف حياتها اليومية في نهار يرسم ملامحه بلا عيون، وباستثناء بعض مدن العالم التي تغمر لياليها مظاهر الصخب والمرح ويتسابق سكانها وزائروها في بحث دؤوب عن المتعة والنزهة، حيث الشوارع التي تتقن طقوس المرح والمدن التي تخاطب الغرباء بالدهشة والأنوار، فإن حياة الليل لا تخلو من يقظة ونشاط وحيوية في عرف البعض؛ هؤلاء هم أصحاب المهن الساهرة والعيون التي لا تخضع لحكم سلطان النوم.

دائما، هناك أنوار خافتة تنبض بالحياة في مكان ما وسط عتمة الليل في بقعة بعيدة أو قريبة. أناس يتحركون، يسابقون خطواتهم، يسرعون، يتحدثون، يلهثون ويعملون بجهد كبير من دون أن يدركوا حجم المسافة الفاصلة بين عتمة وضوء أو يقظة ونوم، ثم إنهم لا يترددون حين يباغتهم الوقت وتتحداهم عقارب الساعات العنيدة، ليصلوا ساعات الليل والنهار من دون فاصل يستردون فيه أنفاسهم، أو يزيحون  فيه ستارة الليل حيث يتسنى لهم أن يطفئوا أضواءهم الاصطناعية ويسمحوا لضوء النهار بالدخول. لكن، ماذا إن قصّر طول السهر من أعمار هذه الكائنات الليلية؟

وهل يصدق ما ينسب لعمر الخيام من قول “فما أطال النوم عمرا..  ولا قصّر في الأعمار طول السهر”؟

تشكك نتائج أبحاث أقسام النوم في مراكز بحوث كليات الطب بهذه الفرضية الشعرية، حيث تؤكد على أن الحرمان من النوم من شأنه أن يؤثر سلبا في وظائف الجسد خاصة تلك المتعلقة بالعمليات العقلية العليا، إضافة إلى التوتر وانخفاض الإنتاجية مع قائمة مخيفة من أمراض الجسد. ولعل أحدث التقارير في هذا الإطار يشير إلى أن النوم لأقل من 6 ساعات في الليل وبصورة متكررة، يعرّض صاحبه لخطر الموت قبل الأوان بنسبة 12 بالمئة مقارنة بالأشخاص الذين يأخذون كفايتهم من النوم في ساعات الليل العادية.

بالطبع، فإن المشكلة تتفاقم أكثر إذا ما كان هذا الأمر اعتيادا وليس طارئا؛ أي أن يكون السهر المتواصل أسلوبا للحياة وربما لدواعي العمل حيث تتطلب بعض المهن الالتزام بساعات عمل ليلية من شأنها أن تكون ثابتة أو متغيرة بحسب متطلبات العمل.

من ضمن الأشخاص المنضوين تحت هذه القائمة؛ العاملون في مجال الطيران، الموانئ، وسائل النقل العامة، العاملون في المجال الطبي، البريد، الفنادق كذلك أمهات الأطفال حديثي الولادة والقائمة تطول.

تبدو حياة الليل وكأنها بديل عن الحياة الأخرى التي يمارس فيها الناس العاديون طقوسهم اليومية في حمى الضوء وسطوع أشعة الشمس. في الليل، هناك حياة معكوسة تنقصها الروح تشبه كثيرا بدايات متلكئة أو يوميات غير كاملة يغمرها حرمان متواصل من النوم.

فكيف إذا كانت حياة المرء ليالي متصلة ولا من صباح؟

21