"حياة الصورة وموتها" كتاب يحلل هيمنة الصورة

لم يعد الإنسان المعاصر اليوم يقبل بما هو لامرئي، إذ يسعى لاقتحام كل المجاهل والأشياء المادية وحتى غير المادية، وهو ما خلق نوعا من خفوت الخيال وتراجع القيم والأخلاق، في مقابل هيمنة مبدأ النفع المادي والتشابه وغياب الخصوصية.
مباحث الصورة في العالم العربي ما زالت تعاني من الضعف والوهن، نظرا إلى هيمنة اللغوي على البصري في حقل الثقافة العربية المعاصرة، وللتعقيد المنهجي الذي تفترضه مقاربات الصورة بمختلف أنواعها وأنماطها.
كما أن فعل المقاومة اللاواعي تجاه العولمة أو الانحشار المتسرع في آلياتها يجعل من كتاب “حياة الصورة وموتها” للمفكر الفرنسي ريجيس دوبري الذي يترأس حاليا “دفاتر الوسائطية الرائدة في مجال تحليل الوسائط وآلياتها الثقافية”، والذي ترجمه المغربي د. فريد الزاهي الأستاذ بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط، كتابا مرجعيا.
الصور ورد الفعل
كشف الزاهي في مقدمته للكتاب، الصادر عن دار أفريقيا الشرق، أن سبب اختياره ترجمة هذا الكتاب يعود بالأساس إلى طابعه النظري التحليلي من جهة، وإلى كونه يعتبر في نظره من أهم المصنفات الفكرية في مجال الصورة، من جهة ثانية. صحيح أن كتاب دوبري “دروس في الوسائط العامة” سابق على هذا المؤلف، غير أن كتاب “حياة الصورة وموتها” أقل تنظيرا وأكثر تحليلا. إنه لا يبني نظرية بقدر ما يمنح القارئ العناصر الكفيلة بتمثيلها. فقيمته تكمن بالأساس في منظوره الفلسفي، وفي غناه الفكري وفي طابعه التساؤلي والنظري.
ولفت الزاهي إلى أن الوسائطية (وهو الاسم الذي خص به دوبري نظريته) ليست كما قد يوحي به عنوان هذا الكتاب بحثا عن الصورة حصرا، ولا في السمعي البصري أو الوسائط الجماهيرية الإعلامية فحسب، إنها بحث في الوساطات التي تتكفل بإرسال وتناقل وتواتر المعلومات والكائنات والحالات المادية والذهنية. وهي بهذا المعنى ليست تصورا فكريا في التواصل لغويا كان أم غير لغوي، ذلك أن التواصل حلة قارة (سانكرونية بلغة اللسانيين)، في حين أن الرسالات والتناقلات والتواترات قد تأخذ البعدين معا: الزمني والتاريخي. لهذا يلح دوبري على هذا المنحى، معتبرا أن الوسائطية ليست نظرية ولا مبحثا علميا ولا منهجا للدراسة. إنها في الحقيقة حقل للتفكير تتقاطع فيه المناهج وتتواشج فيه المعطيات.
ورأى دوبري أنه سواء كانت الصورة موحشة أو مخففة عن النفس، أو كانت مدهشة أو فاتنة، أو كانت يدوية أو آلية، ثابتة أو متحركة، بالأبيض والأسود أو بالألوان، صامتة أو ناطقة، فإنها تمارس الفعل وتحث على رد الفعل، هو الشيء الأكيد منذ آلاف السنين. إن بعض الصور التي ننعتها “بالآثار الفنية” تمنح نفسها باطمئنان للتأمل، بيد أن هذا التأمل لا يُعتق أبدا من “مأساة الإرادة” كما كان يرغب في ذلك شوبنهاور، ذلك أن آثار الصور عادة ما تكون مأساوية.
لكن إذا كانت صورنا تتغلب علينا، وإذا كانت بطبيعتها تحمل في طياتها شيئا آخر بالقوة غير الإدراك، فإن قدراتها ـ سواء تعلق بهالة قداسة أو بحظوة أو إشعاع ما - تتغير مع الزمن. ونحن نرغب في مساءلة هذه السلطة واستكشاف تحولاتها. وعلى تاريخ الفن هنا أن ينسحب أمام التاريخ الذي منحه إمكانية الوجود، أي أمام النظرة التي نلقيها على الأشياء التي تمثل لأشياء أخرى. إنه تاريخ مليء بالضجيج والفوران، وغالبا ما حكي من قبل أناس بلهاء، غير أنه مع ذلك مثقل بالمعنى. لا شيء قد حُسم مسبقا فيه، ذلك أن السطوة التي تمارسها علينا صورنا تتغير مع حقل الجاذبية الذي تضعه فيه عيننا الجماعية، ذلك اللاوعي المشترك الذي يبدل إسقاطاته تبعا لتقنيات تشخيصاتنا.
وانطلاقا من ذلك لفت دوبري إلى أن موضوع كتابه هذا هو “السنن codes اللامرئية للمرئي، التي تحدد ببساطة شديدة وفي كل عصر حالة معينة للعالم أي ثقافة معينة. أو بصيغة أخرى الطريقة التي بها يمنح العالم نفسه لنظر أولئك الذين من غير أن يفكروا فيه. وإذا كان من المستحيل علينا رؤية بصرنا رؤية تامة، بما أن كل نور يفترض من العتمة نصفا كئيبا، فإننا على الأقل نرغب في استكشاف بعض مُسقبات العين العربية (…) أعني المفارقات بين وضعيات معتقدنا البصري، والتي ستعتبر أقربها إلينا أن الحكيم أحمق وأن ألبرتي غبي. ربما سنتمكن أيضا من تخمين الضحكة المحرجة التي ستبعث في أنا القرن أو القرنين المقبلين النظرة الوثوقية الساذجة التي يلقيها زمننا، الذي يعتبر نفسه غير وثوقي، على شاشاته”.
وأوضح أن حديثه عن الصورة ينطلق من اعتبارها دواما يقبل التعرف ولا يقبل الإنكار، لا من الفن لأنه ينبني على قرار ظرفي قابل للنقض. إن دراسة تحولات المرئي تفترض نقطة ثابتة في الأعلى. فما كان صورة سيظل كذلك على امتداد القرون (إلا في حالة التدمير المادي) وفي كل بقاع العالم. أما الأثر المعتبر فنيا اليوم فإنه لم يكن يعتبر كذلك البارحة، وسوف تنتفي عنه تلك الصفة غدا. ففي الصياغة، مثلا، الذي كان الفن الرئيسي للشعب السيتي وللمتروفنجيين وأيضا لسكان مدينة مينيسا اليونانية في بداية القرون الوسط، لم يعد يدخل في التحديد القانوني للشيء الفني في فرنسا (كما هو حال الحلية والأثاث المنزلي).
غير أن الصورة الشمسية وفن السجاد (المحدود النسخ) أصبح يعتبر شيئا فنيا. هل يتعلق الأمر بخطأ لا يتجاوز قرنا ومحيطا أم بحقيقة تتجاوزهما؟ حين يصل إلى باريس سجاد إيراني أو آنية خزفية صينية أو دبوس أقيانوسي أو قناع دوغرني فهل نوجهها لمتحف اللوفر أم إلى متحف الإنسان أم إلى متحف الفنون والتقاليد الشعبية؟ كل عصر كان له جوابه (كما كانت له تراتبية فنونه الكبرى والشعبية) لكن لا عصر استطاع الاستغناء عن الأشياء التشخيصية.
ويضيف “ليس للنظرة طريقة كشف أكيدة للزمن الطويل سوى الصورة المصنوعة، أي الصورة ذات البعدين أو الأبعاد الثلاثة. وكل من يتحدث بصفة عامة عن الفن، هذا المنتوج الجهوي لتاريخ الأفكار، هو أيديولوجي غير واع بذلك. ونحن نتفادى دائما شراك اللغة هذه، ذلك أنه ليس بإمكاننا تنظيف كلماتها كلها ولا تفكيك لغتنا في مجموعها”.
ويتابع “بيد أن حدودنا لن تكون ذهنية أو طبيعية، ولن تكون صور أحلام أو انعكاسات على صفحة الماء، وإنما كل الصور التي أنتجت ماديا بالنشاط الإنساني اليدوي أو الآلي، وذلك من الصور الأندر إلى الصور الأتفه، ومن المغارة البدائية إلى الأنبوب الكاثودي (باعتباره المصدر الأول لصور عصرنا). من دون شك ليس ثمة سوى علاقة جناس بين الصورة المقدسة المخلصة والصورة الترفيهية، كما بين الجامد الذي يشرب والسائل الذي يزدرد، بالنظر إلى معانيها ووظائفها. لكن بالرغم من أنهما من طبيعة واحدة فإنهما يحافظان على هذه الخاصية المشتركة المتمثلة في أنهما يصعقان النظر من الخارج”.
أشياء لامرئية
لاحظ دوبري أن كل عصر يطرح بصرا للرؤية بشكل لا يمكن إنكاره. ففي نظام “الأصنام” الذي يتطابق مع الثيوقراطية كان بإمكان المرء أن ينكر المظاهر المحسوسة، لكنه لم يكن قادرا على إنكار وجود ما وراء المرئي وضرورة توجيه البصيرة إليه. أما في نظام الفن الذي أعلن عن ولادة الأيديوقراطيات غدا بإمكان المرء الشك في الآلهة والأصنام، لكنه لم يكن قادرا على الشك في الحقيقة وفي ضرورة الكشف عنها في كتاب العالم المفتوح، وذلك بإرجاع الظواهر المحسوسة للقوانين الغيبية.
وفي النظام البصري أو الفيديوقراطية صار بإمكان المرء تجاهل خطابات الحقيقة والخلاص وإنكار الكليات والمثل ولكن لم يعد بإمكانه إنكار قيمة الصور، ففرضيته الثابتة غدت المجال المشترك لعصر بكامله. وكل نظام سلطة يقوم نفسه على أنه بديهي. فما يرينا العالم هو أيضا ما يعمينا عن النظر إليه: إنه “أيديولوجيتنا”. فهذه الأخيرة التي لا تبدي حدتها إلا في التخلص من الأفكار التي تسكن “بؤبؤ عيوننا”. وهي لا تذهلنا بقدر ما تجعل منا ميدوزات تحول كل ما نراه إلى أماكن عمومية.
وأكد أن الصور، على عكس الكلمات، في متناول الجميع، بجميع اللغات وبدون حاجة إلى أي تعليم. فالبرمجة المعلوماتية توحد طبقات برج بابل بكاملها من بكين إلى نيويورك، مرورا برأس الرجاء الصالح. لكن بمجرد ما تطفأ الشاشة ينبغي الوصول إلى البصائر التي تنظم كل عالم مرئي. وهذا المدخل لا تفتحه سوى اللغة والترجمات الرمزية. والحال أن التداول الشائع دوليا والتكريس العالمي للعين الناتج عنه ليس فألا حسنا للتواصل العالمي للعقول كما نعتقد.
يمكننا نعت كل الثقافات بهذا الحد أو ذاك من الظلامية بما أنها لا تستطيع استكشاف مدى منظوريتها. كيف يمكننا رؤية ما يعمينا؟ لكنها كلها ثقافات تدعو إلى الفضيلة المادية والمعنوية للتبصر، ذلك أن مثالها يكمن في رؤية ما هو موجود عبر ما هو ظاهر (حتى ولو تطلب ذلك إنكار هذه الملكة لعيوننا الجسمية). فمن السهل تجاور الفلسفات والأفواه بالمقارنة مع الأنوار والعيون. والعقول قادرة على التخاطب من هذا الطرف إلى ذاك من الأرض بواسطة المترجمين، لكن ليس ثمة معجم للمرئي. و”العين تنصت” لكنها لا تسمع عين الآخر.
ورأى دوبري أنه حين يغدو كل شيء مرئيا، فلا شيء يغدو ذا قيمة. فتجاهل الاختلافات يتقوى مع اختزال الصالح في المرئي، والمظهر، باعتباره مثالا، يحمل في طياته جرثومة فتاكة تتمثل في التشابه. كل المثل المتميزة تحظى بعيانية اجتماعية قوية. وما ينتج عن ذلك هو أن لغة الأغنى تصبح لغة كل الناس، وقانون الأقوى القاعدة المثلى.
إن عصر الشاشة حين يغدو مسيطرا أينما كنا ستكون فضيلته الفساد، ومنطقه الامتثالية، وأفقه عدمية مكتملة. لذا فإن غريزة البقاء لدى الجنس البشري مثلها مثل الرغبة البسيطة في تقصي اللذة لدى الفرد أو الأمم. ولكي يتم إيقاف الاختناق واليأس، سوف يتم إيلاء الأهمية للفضاءات الباطنية اللامرئية، وذلك عبر الشعر والمخاطرة، والقراءة والكتابة والافتراض أو الحلم.
وتابع أن التصاوير الرقمية الجديدة تقوم بإنتاج معرفة وسلطة لا حد لإغرائها. فبعد المسبار والميكروسكوب والتصوير بالأشعة، جاءت المعالجات المعلومية لتوسع بشكل هائل من تحكمنا في المسافات وفي الأعضاء وأمراضها، ومن أبنيتنا عبر التصاميم والرسوم، ومن فرضياتنا الفكرية نفسها، وذلك بتمكيننا من الترجمة البصرية للنماذج النظرية المجردة. فأجهزة الرؤية الجديدة تمكننا عبر مضاعفة معلوماتنا، من مضاعفة قدراتنا على التدخل في محيطنا ومساحة تواصلنا مع الكون.
ولأننا غدونا من الآن فصاعدا مجهزين برؤية متكاملة omniscope فقد غدا بإمكاننا اكتشاف ما يتجاوز مدانا من دون أن نرتاده، وبرمجة المستقبل قبل الوصول إليه. يصل الميكروسكوب الآن إلى 10000/1 من المليمتر، كما أن المسابر الكبرى قد ربحت الكثير من العوامل عبر أقمار الرصد الاصطناعية.
وختم دوبري الكتاب بطرح سؤال على الألفية الحالية “كيف ستنظرون جيدا حواليكم من دون أن تقبلوا بوجود ‘أشياء لا مرئية’ فوقكم أو تحتكم أو بجانبكم؟ وأنا لا أعني هنا فقط الملائكة أو الأجسام الكوكبية، وإنما أيضا الوقائع المثالية، والأساطير أو المفاهيم، أو العموميات والكليات، الروحانيات أو الرموز التي لن تكون لها من ترجمات ممكنة، سواء كانت افتراضية أو في فضاء تحكمي. كيف يمكن وجود الهنا من غير الهناك، والآن من غير الأمس وغدا ودائما من غير أبدا؟”.