حنان عشراوي القيادية الصامتة وخطوتها الفارقة المتأخرة

بدت استقالة حنان عشراوي من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، حدثا لافتا له أصداؤه ودلالاته العديدة، بحكم كون السياسية المستقيلة شخصية مقدّرة على المستوى الدولي وقد تنوعت اهتماماتها مع تنوع أسباب ظهورها وحضورها في المحافل العالمية.
وكان واضحا من خلال ما رشحَ عن موضوع الاستقالة؛ أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس كان قد حاول احتواء الاستقالة ـ الموقف، متحسّسا خطورة الإشارات التي صدرت عنها، وبخاصة إلى الأوروبيين، الذين تنامت تحفظاتهم على خواء بُنية السلطة من المؤسسات، ومعهم إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن وطريقة تعاطيها مع الأنظمة الحاكمة حسب ما عبّرت عن نفسها مبكرا.
ويبدو أن عباس، قد تطيّر من موقف عشراوي، بالصيغة التي سُمعت، إذ أعلن قبولها بعد ساعات، وتلك استجابة غير معتادة إلا في حالات الغضب من الطرف المستقيل.
غير أن هذا الطرف ليس شخصية اعتيادية ولم تكن أسبابه في المغادرة هيّنة أو يمكن غض الطرف عنها. فمن الناحية الاعتبارية، كان صعبا على عشراوي أن تتقبّل تعيين أمين سر للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير من بين خيارات عباس المحتملة. فهو ممن يعوّلون دائما على من يُفترض أنهم موالون ومن أهل الثقة، وليس أهل الخبرة. ومعلوم أن أهل ثقته ليسوا مؤهلين لشغل مناصب مهمة تحتاج إلى مهارات نوعية.
وقد كان صائب عريقات، الذي رحل مؤخرا، مقبولا بحكم اختصاصه وأطروحته للدكتوراه في العلوم السياسية وموضوعها المفاوضات، وهذا الذي جعل تعيينه أمينا للسر ورئيسا لدائرة المفاوضات مقبولا بالنسبة إلى شخصية وازنة دوليا كعشراوي. ثم إن استقالتها التي نُشر نصها، وتُلي بصوتها، أثار قطعا حفيظة عباس لأن عضوا مهمّا على المستوى الدولي في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، قد جاهر بتحفظاته على النقيض من المعتاد. إذ قالت عشراوي “آن الأوان لإجراء إصلاح حقيقي لمؤسساتنا الرسمية في منظمة التحرير، وإعادة إحيائها واحترام صلاحياتها وتفويضها، لكي تكون حقيقة عنوان صنع القرار السياسي الرسمي للجميع”.
الصمت الطويل
وعلى الرغم من محاولة عشراوي تغليف موقفها في لفافة من الودّ، وإجزال الشكر لرئيس السلطة؛ إلا أن الأمور بالنسبة إلى عباس كانت مفهومة، ولعله أدرك أن السيدة ردت بقسوة على استبعادها من مركز سياسي تصلح له وسيفيد سلطته ومنظمة التحرير.
العارفون بإيقاع عمل عباس في التعيينات والإزاحات أدركوا أن إبقاء مركز عريقات شاغرا، ولو لأسبوع واحد بعد وفاته، معناه أن الرجل يبحث عن بديل يناسبه وليس بالضرورة يناسب العمل الفلسطيني والمهمة التي سيضطلع بها.
وفي الحقيقة، كانت النُخب الاجتماعية والثقافية في الأراضي الفلسطينية تأخذ على عشراوي صمتها عن الكثير من انتهاكات عباس للقانون، أو بالأحرى صمتها عن تعليق العمل بـ”القانون الأساسي” وهو الوثيقة الدستورية، وتفرده المطلق وحله للمجلس التشريعي وعشراوي عضو منتخب فيه وكذلك تعطيله عمل أطر منظمة التحرير.
وكان المعاتبون أو المنتقدون يحاكمون عشراوي بناء على ثقافتها وما تزعمه لنفسها في إطار عملها على صعيد المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية. فهي، كما هو مفترض، ناشطة وسبّاقة إلى تأسيس “الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان” في العام 1994، وشغلت منصب المفوض العام لها حتى أواسط التسعينات. كما أسست أيضا منظمة غير حكومية، أطلقت عليها اسم “مفتاح”، وهي منظمة معنية بتعزيز الحوار حول الديمقراطية وظلت رئيسة لمجلس تلك المبادرة، فكيف يستوي الأمر عندما تدير ظهرها لما تدعو إليها “مفتاح” وهي لا تزال في القيادة ويمكنها إسماع صوتها.
أسست عشرواي أيضا ما سمّته بـ”تحالف وطني للمساءلة والنزاهة ـ أمان”. ولكنها للأسف ظلت طوال سنوات عملها صامتة عن انتهاكات فظة للسلطة أطاحت بحقوق الإنسان الفلسطيني في العدالة والخبز والمساواة الوظيفية، لاسيما بخصوص قطاع غزة.
أما منظمة “مفتاح” المعنية بالديمقراطية، فلم تنطق عشراوي بكلمة واحدة ضد إطاحة المؤسسات الديمقراطية فيها، وكان بمقدورها أن تؤسس لمنحى جديد وجريء في الاجتماعات الرسمية. فلم يكن المطلوب منها ومن منظمتها غير الحكومية إصدار تقارير لأن الشعب الفلسطيني شبع من التقارير وبات يحتاج إلى مواقف حاسمة. وأصلا تلك التقارير تصدر للشريحة السياسية التي تُعدّ عشراوي في قلبها، وكان واجبها أن تقف وتُعلي الصوت، فإما أن تؤثر إيجابا أو أن تغادر.
تجربة معقدة
ولدت عشراوي في مدينة نابلس في أكتوبر عام 1946. وكان والدها، داود ميخائيل، طبيبا معروفا وواحدا من الشخصيات التي اختارها أحمد الشقيري، مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية، لعضوية برلمان المنفى “المجلس الوطني الفلسطيني”، وكانت والدتها ممرضة مختصة في طب العيون. وكأي بيت فلسطيني تأثرت أسرتها بأحداث النكبة. فقبل تلك الأحداث كانت العائلة قد انتقلت من نابلس إلى طبريا بحكم عمل الوالد. وعندما جرت الأحداث المؤلمة، فرت الأسرة إلى عمّان في شرق الأردن، ثم استقرت في رام الله، حيث واصلت عشراوي تعليمها. غير أن والدها، الذي كان منتميا إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، تعرّض للسجن بعد توتر علاقة الحزب بالحكومة الأردنية، وحين أنهت ابنته المرحلة الثانوية التحقت بالجامعة الأميركية في بيروت وحصلت على درجة البكالوريوس، وبقيت في بيروت كطالبة ولاجئة.
خلال تحضيرها لأطروحة الماجستير أصبحت الناطقة باسم الاتحاد العام للطلاب الفلسطينيين في لبنان، وسارعت إلى تنظيم الجماعات النسائية الثورية، وعملت كمرشد للصحافيين الأجانب الذين يزورون المخيمات. وبذلك تعّرفت للمرة الأولى على العمل الوطني الفلسطيني. ثم سافرت إلى الولايات المتحدة لنيل درجة الدكتوراه في الأدب القروسطي والمقارن من جامعة فيرجينيا. وفي أغسطس من العام 1975 اقترنت بإيميل عشراوي، المسيحي المقدسي، الذي منحها اسم عائلته، وكان يعمل مصورا ومخرجا مسرحيا. بعد عودتها إلى الضفة عملت في التدريس الجامعي وأسست دائرة اللغة الإنجليزية في جامعة بير زيت، ثم رقّيت إلى درجة عميد كلية الآداب.
نجمة أولبرايت
ترافق عمل عشراوي الجامعي في الضفة الفلسطينية مع نشاط سياسي نوعي، وتوسع عملها مع اندلاع الانتفاضة الطويلة الأولى، فانضمت إلى لجنتها السياسية. ومن تلك المرحلة انطلقت إلى العمل السياسي العام، بعد حرب الخليج الأولى، وانطلاق مسار مدريد للتسوية الذي جرى وقفه لصالح مسار أوسلو.
وبسبب خبرتها الطويلة، التي جعلت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية في التسعينات، تقول إنها سيدة متحدثة بارعة في الدفاع عن قضيتها؛ لن يكون انسحاب عشراوي من عضوية منظمة التحرير ومن العمل الرسمي في السلطة الفلسطينية، خبرا يمر مرور الكرام، مثلما كان عليه الحال عند إقصاء قيادات تقليدية كأحمد قريع وياسر عبدربه. فمسألة ابتعادها، محتجة ومطالبة بالدمقرطة والإصلاح، ستكون لها ارتداداتها عند الأوروبيين وغيرهم، لاسيما عندما تتفرغ عشراوي للعمل في إطار منظمات المجتمع المدني، وتنتقل إلى ضفة المعارضة، وترفع وتيرة النقد البناء الذي غاب تماما أثناء تقلّدها منصبا رسميا ظلت فيه صامتة لا تعترض على شيء.
بمغادرة عشراوي مستقيلة، سوف يُصار إلى تسليط الضوء عالميا على كون عباس ليس بجعبته منظمة تحرير مكتملة النصاب وذات لجنة تنفيذية فعالة، ولا يقود حركة فتح حقيقية وشاملة، ولا عنده حتى مجرّد اجتماع فصائلي تضبطه لائحة ونصاب ولا مجلس تشريعي ولا وثيقة دستورية سارية.