"حمى البحر المتوسط" طرح وجودي فلسفي لمعاناة الإنسان الفلسطيني

جاء فيلم "حمى البحر المتوسط" ليكون بمثابة طرح فلسفي سينمائي لما يعانيه الفلسطينيون الذين يعيشون داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة إسرائيل، ويهتم بتحليل ثنائيتي الموت والحياة انطلاقا من الواقع الفلسطيني.
شاهدت فيلم “حمى البحر المتوسط” على متن الطائرة القطرية المتجهة من تونس إلى الدوحة ضمن سلسلة أفلام مختارة يمكن للمسافر أن يقصر الوقت بمشاهدة أحدها، كان بطلا الفيلم معي في الرحلة وكنت معهما في يومياتهم التي تعكس ما يعيشانه من ضغوط حياتية ووجودية.
يدور العمل حول وليد البالغ من العمر أربعين عامًا، والذي يعيش في اكتئاب مزمن رفقة عائلته في حيفا ويحلم بأن يصبح كاتبًا، تنشأ صداقة بينه وبين جاره الجديد تأخذهما إلى الكثير من الأماكن والأحداث المظلمة.
هذا الفيلم هو من ﺇﺧﺮاﺝ وتأليف وسناريو مها الحاج أبوالعسل، وشارك ضمن طاقم العمل الممثلون عامر حليحل، أشرف فرح، عنات حديد، سمير إلياس، سينثيا سليم، وشادن كانبورا.
وكان الفيلم قد قدم في الدورة الخامسة والسبعين لمهرجان “كان” السينمائي الدولي ضمن مسابقة “نظرة ما ” وقد فازت المخرجة الفلسطينية مها الحاج بجائزة أفضل سيناريو.
نادر وجلال بطلا الحكاية يرتبطان بعلاقة معقدة وغريبة، يختلفان في الرؤى ويجتمعان في الشعور بالاكتئاب واليأس، وكل حسب رؤيته للحياة وطريقة تعاطيه معها. شخصيتان متناقضتان ولكن يجمعهما الخوف، فالأول يخاف الموت والثاني يخاف الحياة.
حكاية هذا الفيلم هي حكاية الاغتراب الذي تعيشه العائلة الفلسطينية داخل الخط الأخضر والذي ينعكس على يوميات البطلين من خلال تعاملهما مع الواقع المفروض عليهما والازدواجية في الانتماء، حيث تدور أحداثه في مدينة حيفا التي هجر أهلها عام النكبة 1948.
تظل أحداث الفيلم تدور حول شخصيتين محوريتين: الشخصية الأولى لرجل يبحث عن ذاته كروائي فاشل وعاجز عن الكتابة ويعاني من ضغط الواقع اليومي خاصة وأنه يبحث عن هوية لذاته الممزقة بين ما تقوله الأوراق الثبوتية والحقيقة الواقعية، ويبحث عن إجابة لسؤاله الدائم عن الانتماء، أما الشخصية الثانية فتتعامل مع الحياة بالاستهتار والضياع وكلاهما يعتمد على زوجته في تسيير شؤون البيت المادية والتربوية.
كتب الفيلم بحنكة وذكاء وتروّ وأحاط بتفاصيل الشخصيات التي وظفت بشكل سلس وجميل لإيصال فكرة العمل بدقة تجعل المشاهد رهينة لمآل هاتين الشخصيتين، ويتضامن معهما ويتفاعل.
وليد شكل للوحدة وجلال شكل آخر من الوحدة نستطيع أن نسميها الوحدة الصاخبة. وليد كاتب فاشل يعاني من اكتئاب حاد رغم خضوعه للعلاج النفسي وهو أيضا أب مسؤول، تعرف على جاره جلال المليء بحيوية محتالة على الحياة.
حياة ممزقة بين الدفاع عن قيم المقاومة وبين الاستسلام للأمر الواقع واستيعاب أنماط حياة خاصة بدولة دخيلة على المنطقة، بما في ذلك اعتماد اللغة العبرية.
الفيلم يناقش ثنائية الموت والحياة بين قبول الواقع أو رفضه من خلال الحفاظ على ما تبقى من الهوية الفلسطينية لدى فلسطيني 48 داخل الخط الأخضر والتمزق بين حمل الجنسية الإسرائيلية وبين لغتهم وانتمائهم العربي لفلسطين.
المواجهة بينهما أرادتها المخرجة وكاتبة السيناريو مها الحاج مواجهة مع الحقيقة، حقيقة التأقلم أو الرفض، ولا بد من ثمن لكلا الأمرين، قد يكون الثمن هو الحياة نفسها بتفاصيلها أو التغاضي عن التفاصيل للاستمرار.
لكن حمى ابن وليد مدعي المرض دائما في حصة الجغرافيا التي يتهرب منها ما هي إلا حمى الوعي بأن القدس هي عاصمة فلسطين وليست عاصمة لإسرائيل وبالتالي التمرد على المعلمة التي ترفض ذلك وتعاقب الطفل لأنه يصر على ذلك، فحين لا يجد مع المعلمة حلا يصاب بحمى تجعل من اسم الفيلم حمى المتوسط واقعا يصيبنا نحن المشاهدين بعدوى هذه الحمى ونبحث مع المخرجة عن علاج.
الفيلم كتب بحنكة وتروّ وأحاط بتفاصيل الشخصيات التي وظفت بشكل سلس لإيصال فكرة العمل
نهاية الفيلم جعلتها المخرجة نهاية مفتوحة تترك في المشاهد شرخا يجعله يبحث مع الأبطال عن حلول يعجز الواقع تحقيقها.
فيلم “حمى المتوسط ” فيلم وجودي فلسفي يطرح معاناة الإنسان أينما كان بطريقة تصبو إلى العالمية وتطرح سؤالا محوريا وهو أكون أو لا أكون ؟
ويذكر أن مها الحاج أبوالعسل ولدت عام 1970، وهي كاتبة ومخرجة فلسطينية من مواليد مدينة الناصرة. لديها عدد من الأفلام منها فيلم “أمور شخصية” الذي عرض ضمن تظاهرة “سينما فلسطين” في مدينة تولوز الفرنسية، وذلك في “ما قبل العرض الأول” إذ بدأت عروضه في فرنسا في الأول من مارس عام 2017.
وتدور أحداث الفيلم (90 دقيقة) حول العلاقات الزوجية المركبة لأزواج شباب من خلال قصص شخصية مرتبطة أحداثها بأشخاص من الجيل الأول والثالث للنكبة. وهو من تمثيل ميساء عبدالهادي ودريد لداوي وعامر حليحل وحنان حلو وزياد بكري وسناء شواهدة ومحمود شواهدة. وفاز فيلمها القصير “برتقال” بجائزة الفيلم القصير المفضل لدى الجمهور في مهرجان مونبلييه بفرنسا عام 2012.