حمادي العقربي نجم يشيّد له التونسيون التماثيل ويبكون غيابه

لاعب كرة القدم حمادي العقربي ساحر الأجيال وأحد أبطال ملحمة الأرجنتين الأسطورية.
الخميس 2020/09/17
أسطورة في عالم كرة القدم

حين يصبح لاعب كرة القدم معبودا للجماهير تختفي كل الجزئيات البسيطة لتفسح المجال فقط لسماع أو مشاهدة كل ما هو جميل عن هذا النجم أو ذاك. حمادي العقربي، أو كما يحلو لأي تونسي نعته بـ”ساحر الأجيال”، الذي رحل إلى مثواه الأخير مؤخرا عن 69 عاما تاركا وراءه إرثا وازنا وذكريات لا تمّحي من مخيلة كل الذين جايلوه وعشقوه، أو أولئك الذين سمعوا عنه من أقرانهم.

رحل نجم كرة القدم وملك اللعبة الشعبية والأسطورة. تلك الموهبة الفذة التي ولدت من رحم المعاناة وقدمت الكثير لكرة القدم التونسية والعربية. ومن الصعب على التونسيين بمختلف أعمارهم أن ينسوا بطلا من أبطالهم في عالم كرة القدم اسمه العقربي. فحتى الجيل الصاعد والذي لم يواكب الملحمة الأسطورية لجيل 1978 يقرّ ضمنيا بأنه سمع الكثير عنه.

موهبة بالفطرة

تحفظ الذاكرة الشعبية للتونسيين ولمحبي كرة القدم العربية خصوصا، العديد من النجوم الذين حفروا أسماءهم في كل المدونات وظلت تتلفظ بهم ألسنة المعلّقين مع كل موعد رياضي هام. من هؤلاء جيل 1978 الذهبي الذي قاد تونس في كأس العالم بالأرجنتين وكان من أول المنتخبات التي مثلت العرب وأفريقيا في البطولة العالمية.

ربما هي روايات كتبت وقصص رويت عن المواهب الفذة التي يمتلكها العقربي. كل تفاصيل الحكايات التي تروى عن كوكبة من اللاعبين الأفذاذ الذين يقر الكثيرون بأنه يصعب أن يولد جيل مماثل لذلك الذي سجل حضوره في أعلى الدوائر الأوروبية وكان حقا سفيرا للكرة العربية والأفريقية.

من هؤلاء العقربي وطارق وعقيد والكعبي وتميم وذويب وغميض والقاسمي وعتوقة والنايلي وغيرهم الكثيرون الذين كانوا أبطالا دونوا أسماءهم بأحرف من ذهب في سماء بوينس آيرس ذات يوم. 

 القيمة الكبيرة التي يحظى بها العقربي دفعت إدارة النادي الصفاقسي إلى إطلاق اسم نجمه الراحل على المجمع الرياضي للنادي، وفقا للصفحة الرسمية للفريق على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك

ربما تختلف الأسماء ويصعب على الأجيال الحالية نطقها، لكن مدلولاتها تبقى راسخة في الأذهان ولا يمكن أن تمّحي من مخيلة أي لاعب كرة قدم في تونس. أسماء لجيل ذهبي ولد في زمن صعب ويعسر فيه العثور على فلتات (مواهب أو استثناءات) كالتي أنجبت تونس في نهاية السبعينات. جيل ذهبي بكل ما تحمله الكلمة من أوصاف وما تبلغه من معنى.

هو واحد من ذلك الجيل، لا بل إنه يعتبر أفضله على الإطلاق لما وهبه إياه الله من حسّ كروي فريد وأخلاق عالية ونشاط منقطع النظير على الميدان. كل الذين زاملوه يعترفون بدماثة الرجل وكل الذين تبلّلت قمصانهم إلى جانبه دفاعا على راية تونس لا يستنكرون عنه كل هذه الصفات تأكيدا منهم على الخصال النبيلة التي كانت تميز الراحل دون سواه.

يعرف العقربي بكونه لاعبا استثنائيا. لاعب مميز حفر اسمه عاليا في كل الملاعب التونسية والعربية التي جالتها قدماه. هو أحد أفضل لاعبي الوسط الذين أنجبتهم تونس، وهو قائد فريق الصفاقسي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

عزلة اختيارية

الذاكرة الشعبية للتونسيين ومحبي كرة القدم العربية تحفظ العديد من النجوم الذين حفروا أسماءهم في كل المدونات
الذاكرة الشعبية للتونسيين ومحبي كرة القدم العربية تحفظ العديد من النجوم الذين حفروا أسماءهم في كل المدونات

اختفى العقربي عن الأنظار بعدما قرر اعتزال اللعب نهائيا في 1989، وفضل الابتعاد عن كل الأضواء بصفة عامة رغم مسيرته الكروية المتميزة. وعلى عكس بعض زملائه في مونديال الأرجنتين، قرر عدم خوض تجربة التدريب أو حتى التحليل الفني، كما رفض أن يتقلد أي موقع في التسيير مفضلا التفرغ لعائلته بعيدا عن ضوضاء عالم الكرة.

ولد العقربي، واسمه الأصلي محمد بن رحيّم عام 1951 وبدأ ممارسة الكرة في الشوارع، ليتم اكتشافه عام 1963 من طرف مدرب الصفاقسي حينها اليوغوسلافي ميلان كريستيك، الذي تنبأ له بمستقبل كروي كبير. وبدأت رحلته مع الصفاقسي من خلال فريق الناشئين وتدرج مع كل الفئات تقريبا حتى وصل إلى الفريق الأول وأصبح أهم نجم داخل الصفاقسي.

شارك في أول مباراة مع الفريق الأول للصفاقسي مطلع السبعينات، وبدأ منذ ذلك الوقت مسيرة تألقه ليحصل على الحذاء الذهبي بعد أربع سنوات فقط، لأفضل لاعب في الدوري التونسي، كما توج مع فريق عاصمة الجنوب بثلاث بطولات دوري، وأيضا بكأس تونس.

كان يشغل خطة الوسط الهجومي ويتخطى حاجز الـ10 أهداف في كل موسم، كما أنه صاحب أول هدف تونسي في تاريخ مسابقات الكؤوس الأفريقية للأندية، عندما سجل هدف التعادل في مرمى الزمالك المصري بلقاء الإياب في صفاقس.

تألقه الكبير مع فريقه جعله يلتحق بمنتخب تونس ليصبح إحدى ركائزه الأساسية. ليسجل “ساحر الأجيال” عدة أهداف في مختلف المسابقات القارية والعالمية والودية في حوالي 40 مباراة دولية، وكان من بين العناصر التي ساهمت في تأهل منتخب تونس لأول مرة لكأس العالم.

مع النصر السعودي

لاعب متألق
لاعب متألق

لم يتوقف العقربي عند حدود تونس، بعد أن تألق في مونديال الأرجنتين، لتشيد به الصحافة العالمية، ما جعله يتجه للاحتراف في النصر السعودي، كما خاض تجربة احترافية ثانية مع العين الإماراتي وقادته للحصول على لقب دوري الإمارات.

وعن تجربته الاحترافية التي لم تعمّر طويلا تحفظ الذاكرة الصوتية للعقربي قوله “لم أكن متحمسا للاحتراف خارج تونس وفكرت طويلا في خوض تجربة بعيدا عن فريقي. لا يهمني جمع المال بقدر ما يعنيني اللعب والفرجة لذلك كانت تجربتي الاحترافية قصيرة جدا خارج تونس”.

وفي لمسة وفاء ومحاولة للتفاعل مع الجماهير التونسية قامت إدارة النصر السعودي ببث لقطات على يوتيوب من مباراة الفريق أمام الطائي والتي فاز فيها “زعيم” كرة القدم السعودية 3 – 1 وسجل خلالها العقربي هدفا غاية في الروعة.

قرر العقربي اعتزال اللعب وكان عمره 38 سنة بعد مسيرة امتدت على مدار 26 عاما من العطاء. وشيدت له بلدية صفاقس تمثالا وسط المدينة كما حجب فريقه القميص رقم 8 الذي كان يرتديه نهائيا. ويذكر التاريخ جيدا تلك المباراة التي أقيمت على شرف اعتزاله واحتضنها ملعب الطيب المهيري بصفاقس وجمعت المنتخب الوطني والنادي الصفاقسي يوم 20 مايو 1989.

يقول مدرب منتخب سوريا الحالي الكابتن نبيل معلول إن “العقربي لاعب القرن واعتزاله خسارة للجميع ولن تنجب كرة القدم التونسية لاعبا من طراز رفيع مثله”. وما يسجله التاريخ للراحل تواجده برفقة الجيل الذهبي للمنتخب التونسي في مونديال الأرجنتين عام 1978 حينما أحرزت تونس أول فوز لأفريقيا والعرب في تاريخ المونديال في الدور الأول أمام المكسيك 3 – 1 قبل أن تسقط بصعوبة ضد بولونيا 0 – 1 ثم أحرجت ألمانيا بطلة العالم بتعادل سلبي.

وكانت مشاركة تونس التي شهدت تألقا لافتا للعقربي مكنت من إضافة منتخب ثان عن قارة أفريقيا في المونديال التالي في إسبانيا عام 1982.

إدارة النصر السعودي، وفي لمسة وفاء ومحاولة للتفاعل مع الجماهير التونسية تبث لقطات على يوتيوب من مباراة الفريق أمام الطائي والتي فاز فيها {زعيم} كرة القدم السعودية 3 – 1 وسجل خلالها العقربي هدفا رائعا

يؤكد العقربي أن ملحمة المنتخب التونسي في كأس العالم بالأرجنتين جاءت تتويجا لعمل متواصل امتد حوالي أربع سنوات. وترشحت تونس كممثل وحيد عن القارة السمراء على حساب منتخبات أفريقية قوية في تلك الفترة على غرار المغرب ومصر والجزائر ونيجيريا، وشارك العقربي في جميع مباريات المنتخب في نهائيات كأس العالم.

وعنها يتحدث باعتزاز في تسجيل نادر قائلا “كانت قصة رائعة وجميلة للجميع، انطلقت منذ التحضيرات وأجواء السفر والإقامة، لم نشعر بالوقت وتتالي الأحداث وكنا نتمنى أن تتوقف عجلة الزمن عن الدوران. لقد كسبنا الخبرة والتفاهم بين جميع اللاعبين فوق الميدان وخارجه وقدمنا لوحات فنية هي الأفضل من بين بقية المنتخبات وكنا نتمنى أن يمتد توقيت المباراة لساعات فقد كنا نشعر بنشوة وبرغبة في اللعب مصدرها الثقة في النفس والإمكانيات البدنية والفنية والذهنية”.

ومنذ ذلك الوقت فضّل الابتعاد نهائيا عن عالم الكرة حتى أن المشروع الذي اختاره كان بعيدا عن لعبة كرة القدم المحببة لديه، حيث تقرّ المصادر بأنه افتتح مؤسسة للصور الفوتوغرافية في مدينة صفاقس. ما هو معلوم أن العقربي اعتزل اللعب والكلام عن الكرة معا،

ما جعله بعيدا عن اللعبة الشعبية، حتى بعد صنع تمثال له في قلب مدينة صفاقس في أكتوبر 2017 باعتباره ساحر الأجيال في كل تونس. وفي تعبير منها عن القيمة التي يحظى بها العقربي قررت إدارة النادي الصفاقسي إطلاق اسم نجمها على المجمع الرياضي للنادي. وقالت إدارة النادي على الصفحة الرسمية للفريق على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك إنها قررت رسميا تغيير اسم مركب النادي الرياضي الصفاقسي إلى مركب حمادي العقربي. كما قدّم الرئيس التونسي قيس سعيد واجب العزاء لعائلة الراحل. وأكد رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ حينها أن ملعب رادس ستصبح تسميته الجديدة “ملعب حمادي العقربي” عرفانا بالجميل للراحل وما قدمه للرياضة في تونس.

كل هذه القرارات كان وقعها إيجابيا على نفوس الجماهير التونسية التي لا تستنكر على العقربي تدوين اسمه ليبقى خالدا، وهو كذلك، في ذاكرة كل تونسي مهووس باللعبة الشعبية الذي كان حمادي واحدا من أبطالها.

اللافت كان في الجنازة المهيبة التي أقيمت للراحل في ملعب الطيب المهيري بصفاقس، ليأتي الكل مودعا، باكيا، متحسرا ومناديا بأعلى صوت “حمادي.. حمادي” في مشهد امتزجت فيه دموع الفقدان والرحيل بآهات الندم على من لم يعش لحظة في الملاعب التونسية كان فيها حمادي حاضرا. 

برازيلي ولد في تونس

اسم خلّده التاريخ
اسم خلّده التاريخ

ورغم اعتزاله اللعب في أواخر الثمانينات بعد ملحمة الأرجنتين التاريخية التي خاضها ومضت عليها سنين طويلة أي أن الغالبية الساحقة من التونسيين، وهم من الشباب لم يشاهدوه على أرض الملعب، فجل ما يعرفونه عنه منقول عمن هم أكبر منهم سنا أو بعض اللقطات المدونة في الأرشيف أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن يظل اسم حمادي محفورا في قلب كل كبير وصغير. وفي دلالة على الحب الكبير الذي يحظى به الراحل لم تجد مدينته صفاقس مسقط رأس الراحل مكانا يمكن أن يتسع لعشرات الآلاف من مشيعيه ومحبيه سوى ملعب الطيب المهيري، وهو الملعب ذاته الذي سيظل شاهدا على إبداعاته، كما لم يتغيب عن هذا التشييع الكبير لاعبون كبار من الجيل الحالي ومن جيله، من أبناء المنتخب نفسه أو من فرق أخرى، كما حضرت قيادات سياسية وحزبية مختلفة، فيما وقع تأبينه من قبل إلياس الفخفاخ داخل الملعب نفسه الذي امتلأت مدرجاته.

حدث مهيب يعكس الشعبية الجارفة التي يحظى بها الرجل والإبداع الكبير الذي جعله يلقب بساحر الجيلين. أي أنه كما يقول عنه نجيب غميض لحظة تأبينه بلغة فرنسية مختزلة “حمادي نجم برازيلي ولد بتونس”. 

لكن لا بد من استخلاص العبرة وراء هذا التشييع الجماهيري الكبير والمؤثر لفنان في ميدانه وهو عالم كرة القدم بعد معاناة مع مرض السرطان. الرسالة واضحة ولا تحتاج تفسيرا كون الجماهير الرياضية وهي من عموم الناس لا يمكن أن تنسى من منحها يوما لحظة سعادة في أي مجال كان. وكل من عايش أو لم

يعايش الساحر ميدانيا بَلغه عنه شدة ولع الناس به وبفنياته التي لا تجحد على الجماهير الشغوفة بكرة القدم يوما. وأن من عاش سنوات هذه السعادة قادر على إظهار امتنانه ونقلها إلى من لم يعشها فينتقل الحب من جيل إلى جيل. ما تذكره بعض المصادر أنه في كل مباراة يخوضها النادي الصفاقسي على أرضه، كان العقربي يُنقل في سيارة خاصة يقوى ضجيجها تلقائيا للفت انتباه الجماهير بأن حمادي سيكون ممثلا في تشكيلة اليوم.   محبة الناس تجسدت أيضا يوم الوداع في ملعب الطيب المهيري بصفاقس، حين صدحت الحناجر بالهتافات تشييعا للراحل إلى مثواه الأخير بكلمات فيها من الحب والعرفان الشيء الكثير “بالروح بالدم.. نفديك يا حمادي”، في دلالة تقطع الشك باليقين على المكانة التي يحفظها الجميع لهذا الرجل.

هذه المشاعر التي يكنها الجمهور الواسع للعقربي وتتوزع جغرافيا في تونس عفوية بالضرورة ورغم أن استمرارها ليس مضمونا دائما، إلا أن ما يكشفه متابعون لهذا النجم يؤكد أنه كان معبودا حتى من جماهير الأندية المنافسة لفريقه الصفاقسي. وهنا يتذكر متابعو كرة القدم في تونس جيدا الحادثة الطريفة أمام البنزرتي عندما نال العقربي الورقة الحمراء لتصدح حناجر جماهير البنزرتي رافضة قرار الحكم.

وإذا ما عرّجنا على عالم السياسة قليلا، فإن حب الناس هذا يبدو أكثر تعقيدا، فهو بعيد جدا عن سلاسة وصفاء الحب حين يتعلق بنجوم رياضيين تجد لهم في كل بلد معجبين وعشاقا، أو بأصوات طربية استطاعت تجاوز حدود أقطارها لتعانق المجد في الأقطار العربية أينما حلت أو حين يتعلق الأمر بممثلين كبار مبدعين في عالم السينما والتلفزيون.

رغم رحيله عنا سيظل التاريخ حافظا لهذه الأسطورة التاريخية في عالم كرة القدم التي زرعت فن اللعبة بين أجيال واسعة سواء ممن جايلوه أو كذلك من الذين سمعوا عنه وتأثروا بمنجز جيل كامل سيبقى خالدا إلى الأبد.

12