حل البرلمان خطوة استباقية لوأد صراع الشرعيات واستعراض القوة في تونس

اتحاد الشغل وعرقلة إصلاحات صندوق النقد: الهدف سياسي أم نقابي أم إثبات للحضور.
الجمعة 2022/04/01
قيس سعيد ماض في التصعيد

حل البرلمان كان متوقعا بعد جلسة الأربعاء الافتراضية التي ألغت إجراءات الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو 2021، وسعت لإحياء شرعية البرلمان والعودة بتونس إلى صدام الشرعيات الذي خسرت بفعله الكثير. قرار حل البرلمان حمل رسائل قوية إلى حركة النهضة وراشد الغنوشي، وإلى اتحاد الشغل الذي يلوح بالإضراب العام.

جاء قرار الرئيس التونسي قيس سعيد بحل البرلمان خطوة استباقية لمنع استثمار رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي لصفته السابقة كرئيس للبرلمان وتوظيفها لجلب الضغوط الخارجية على الرئيس سعيد وعلى البلاد التي تعيش أوضاعا صعبة. وبحركة واحدة نجح رئيس الجمهورية في أن يجرد الغنوشي وبعض المجموعات والكتل الصغيرة، وبعض السياسيين الذين فشلوا مرارا في الانتخابات، من أوراقهم مرة واحدة، فقد أصبحوا بلا دور ولا وزن ولا صفة يمكن أن تبيح لهم التواصل مع السفراء والدبلوماسيين.

ومن الواضح أن قيس سعيد كان يعتزم حل البرلمان من زمان لكنه لم يجد مسوّغا سياسيا لاتخاذ هذه الخطوة. وقد بدا وكأنه كان ينتظر هذا المبرر لاتخاذ قراره وبسرعة، وربما يمر إلى خطوات لاحقة لمحاسبة من اشتركوا في لعبة الضغوط سواء أكانوا في الواجهة أم من وراء الستار.

ليس هناك شك في أن التحركات الأخيرة التي قادت إلى حل البرلمان قد تم التخطيط لها بهدف إعادة صراع الشرعيات إلى الواجهة وإظهار أن البلاد لا تعيش حالة استقرار مثلما بدا أنها تسير نحوه في الأسابيع الأخيرة بعد أن نجحت في فتح قنوات الحوار مع صندوق النقد الدولي بشأن الإصلاحات الاقتصادية العاجلة، وكذلك بعد مؤشرات على عودة الاستثمار الخارجي بعد عودة شركة بوخاطر الإماراتية لاستثمار مشروع كبير بقيمة خمسة مليارات دولار بعد أن ترددت في تنفيذ هذه الخطوة بعد ثورة 2011 بسبب غموض الوضع السياسي.

وكان آخر مؤشرات الانفتاح الاستثماري على الخارج لقاء الرئيس قيس سعيد برئيس مجلس إدارة مجموعة أوريدو القطرية وتأكيده “حرص تونس على تذليل كل الصعوبات التقنية من أجل توفير المناخ المناسب للاستثمار”، و”دعم الاستثمار القطري”، وهي خطوة تهدف إلى إذابة الجليد مع الدوحة وفتح الطريق أمام عودة استثماراتها خاصة بعد قرارها ضخ خمسة مليارات دولار في مشاريع استثمارية بمصر.

وإذا كان قيس سعيد قد أبدى مرونة في الانفتاح على الخارج وتسهيل حصول تونس على المساعدات الضرورية في وضع صعب دوليا، فإنه أظهر بالمقابل تشددا لا مثيل له في قطع الطريق أمام أيّ محاولات لإجراء “حوار وطني” يعيد البلاد إلى مربع الأزمات السابقة، حيث تنتهي الأزمات بتسويات سياسية كما حصل في 2013 دون أن تغير تلك التسويات من واقع الناس شيئا، وعلى العكس فقد كان من شروطها غير المعلنة هو ترك الحبل على الغارب، والابتعاد عن تحريك ملفات الفساد التي تقف وراءها بشكل أو بآخر جهات وشخصيات سياسية.

استفزاز قيس سعيد

تدخلات تعرقل آليات الإصلاح
تدخلات تعرقل آليات الإصلاح

لم تفض البيانات الحزبية، التي تتهم سعيد بتنفيذ انقلاب على الدستور والشرعية وتوظيف المحاكم العسكرية في تصفية الحساب مع الخصوم، ولا التظاهرات الاحتجاجية الاستعراضية، إلى أيّ نتيجة، وظل قيس سعيد يسير وفق أجندته الخاصة بهدف تغيير النظام السياسي والاستعانة بأنصاره في المواقع المختلفة التي تساعد على تنفيذ خارطة الطريق المعلنة، والتي لا تحوز على رضا خصومه.

ويعتقد مراقبون محليون أن عودة البرلمان كان الهدف منها تحريك المياه الراكدة وإعادة خلط الأوراق حتى لو قادت إلى تصعيد غير محسوب مثل اعتقال رئيس البرلمان راشد الغنوشي أو عدد من النواب الذين حضروا إلى الجلسة العامة التي أعلنت الأربعاء وصوتوا لفائدة إلغاء “الإجراءات الاستثنائية” التي لجأ إليها قيس سعيد منذ يوليو 2021.

المهم من وراء هذا التصعيد منع الرئيس من تنفيذ أجندته وفق ما خطط له خاصة بعد أن نجح في استمالة المؤسستين العسكرية والأمنية إلى صفه ونجاحه في تغيير قيادة المجلس الأعلى للقضاء، فيما لم يعد يعنيه الصراخ والشعارات والبيانات التي أصدرها خصومه السياسيون والاجتماعيون والحقوقيون.

ويضيف هؤلاء المراقبون أن إعادة الروح إلى البرلمان المجمد كان الهدف منها استفزاز قيس سعيد ودفعه إلى اتخاذ خطوة حل البرلمان لأنها الصيغة الدستورية الوحيدة التي تفضي إلى وضع سقف زمني لـ”انقلاب” قيس سعيد، وهذه الفرضية تسمح لخصومه بتجديد أدوات ضغطهم وإقناع أنصارهم بأن فرص الضغط لم تنفد بعد مستفيدين من عدم رضا أميركي عن تجربة قيس سعيد في الحكم وعن شخصيته الصدامية التي لا تقرأ حساب “المقامات” وميله إلى وضع الضغوط الخارجية في سلة واحدة.

وقالت عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر، المناوئ لحركة النهضة، إنه لا خيار آخر أمام قيس سعيد بموجب الدستور وإن عليه الدعوة لانتخابات في غضون ثلاثة أشهر.

لا سقوف للتصعيد

البلاد تحتاج شريكا في الإصلاح والتهدئة، بشكل مؤقت، لعبور الأزمة، فمشاكل تونس يحلها مختلف الفرقاء، وليس  جهة لوحدها
البلاد تحتاج شريكا في الإصلاح والتهدئة، بشكل مؤقت، لعبور الأزمة، فمشاكل تونس يحلها مختلف الفرقاء، وليس  جهة لوحدها

ربما نجح المعارضون ظاهريا في جرّ قيس سعيد إلى ملعبهم، لكن الرجل لا تعنيه تفاصيل المناورات وماذا يمكن أن يحصل خصومه من ورائها على “مكاسب”، ففلسفته تقوم على سد الأبواب التي تأتي منها رياح السموم سدا كاملا ودون تردد، ولأجل ذلك عقد جلسة لمجلس الأمن القومي وما يحمله من رمزية واضحة عن امتلاكه عناصر القوة ووقوف المؤسسات القوية في صفه ليعلن أن “تونس تعيش اليوم محاولة انقلابية فاشلة”، و”حل البرلمان هو حفاظ على الدولة ومؤسساتها”.

وبالتوازي، قالت وزيرة العدل إنها طلبت من وكيل الدولة بمحكمة الاستئناف فتح تحقيق ضد النواب الذين شاركوا في الجلسة الافتراضية بتهمة “التآمر على أمن الدولة وتكوين وفاق إجرامي”.

وتعتقد أوساط سياسية مطلعة أن قيس سعيد ليس لديه أيّ مانع في أن يمضي في التصعيد لآخره، وقد أثبت وضع القيادي بحركة النهضة نورالدين البحيري تحت الإقامة الجبرية أن رئيس الجمهورية لا تعنيه البيانات ولا الشعارات ولا الضغوط ولا الإحراجات، وهو يجد لكل موقف يتخذه أو تتخذه مؤسسات الدولة مبرراته السياسية والقانونية والأمنية، ويناقش ذلك بشكل علني في التلفزيون.

وحذّرت هذه الأوساط من أن تصعيد حركة النهضة أو المجموعات والكتل الصغيرة من حولها لن يفضي إلا إلى المزيد من التصعيد، وأن قيس سعيد لن يتنازل أو يتراجع أيا كانت التدخلات والوساطات والضغوط الخارجية، وهو ما يعني آليا فتح البلاد على المجهول في تكرار لما جرى بداية التسعينات بين نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وحركة النهضة، وهو ما يبدو أن الغنوشي يتناساه خاصة أنه لم يعشه بمختلف تفاصيله بعد أن اختار الهروب إلى الخارج قبل ساعة الصفر من المواجهة الدامية.

الطبوبي بأي شرعية

Thumbnail

لوح الاتحاد العام التونسي للشغل الأربعاء بتنفيذ إضراب في القطاع العام رفضا للإصلاحات الاقتصادية التي تقترحها الحكومة لتأمين خطة إنقاذ مالي من صندوق النقد الدولي. ويعرف الاتحاد أنّ لا طريق أمام حكومة نجلاء بودن سوى هذا الطريق الصعب، ومع ذلك فهو يسعى لأن يوقف مسار التفاوض إذا لم يكن له فيه دور وبصمة، في وقت يقول متابعون للشأن التونسي إن هذا التصعيد لا يعني أبدا أن الاتحاد يعارض الإصلاحات مطلقا، لكنه يطلب مقابل ذلك اعترافا من السلطة الجديد بالدور الذي كان يلعبه قبل الخامس والعشرين من يوليو، وهو دور الشريك السياسي الوازن الذي يلهث الجميع حكومة وأحزابا لنيل رضاه.

ويراهن الاتحاد على أن قيس سعيد لن يتحمل كثيرا الضغوط خاصة أنها تأتي متزامنة ومن كل اتجاه حتى وإن ظهر على السطح أن هناك تنافرا بين الأطراف المساهمة فيها، فالنهضة لا تفتأ تذكر الاتحاد بأنه سبب أزمة حكوماتها المتعاقبة، والاتحاد يقول إن طبقة ما قبل الخامس والعشرين من يوليو هي سبب البلية، وحث قيس سعيد أكثر من مرة على حل البرلمان.

وفي الوقت الذي تتجنب فيه الحكومة التصعيد مع الاتحاد، وتسعى لإقناعه بأن من مصلحة الجميع السير في الإصلاحات المطلوبة داخليا وخارجية، إلا أن نورالدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد يعتقد أن المنظمة تمتلك شرعية خاصة تتيح لها المشارك بقوة في رسم ملامح المستقبل، وأن على الحكومة، وأساسا على قيس سعيد أن ينظر إليه كشريك سياسي، وليس مجرد شريك اجتماعي تتم مناقشته في مسائل محددة، ولا يلتقي به الرئيس سعيد إلا في مناسبات محدودة.

واكتسب مسار التصعيد لدى الاتحاد بعدا آخر بعد اشتراط صندوق النقد أن تكون المنظمة أحد الأطراف الموقعة على أيّ اتفاق مستقبلي يسمح لتونس بالحصول على دعم مالي. كما أن لقاء الطبوبي بوكيلة وزارة الخارجية الأميركية عزرا زيا وامتداحها دور الاتحاد ووزنه أعطى المنظمة ورقة إضافية للتصعيد.

التصعيد السياسي مهمة الغنوشي، وآليات التعطيل تركت لاتحاد الشغل حتى وإن لم يكن هناك تنسيق مباشر

لكن السؤال الذي يطرح هنا: ماذا بعد التصعيد، من سيتحمل النتائج، هل يعلم النقابيون خطورة أن تعجز الدولة عن دفع المرتبات مثلا أو أن يتعطل البعض من الخدمات الأساسية، وما هي مصلحة الاتحاد في بقاء الوضع على ما هو عليه الآن خاصة ما تعلق بمعارضته إصلاح المؤسسة المفلسة التي ينخرها الفساد والمحسوبية، وقد سعت الدولة مرارا لإصلاحها من الداخل وفشلت.

الكلام الاستعراضي سهل، والاعتراض قد يخدم الاتحاد أمام أنصاره بأن يظهره “معارضا شرسا”، وأن “لا يبيع القضية”، لكن يحتاج الناس لأن يسمعوا من الاتحاد كيف يمكن للدولة أن توفر ما يريده من مطالب ومفاوضات لزيادة الرواتب وتوسيع دائرة التوظيف، هل لديه خطة بديلة بعيدا عن الشعارات التي تحمّل الدولة لوحدها مسؤولية توفير كل شيء بنفسها بأيّ طريقة وتضطر إلى الديون لشراء الصمت واسترضاء النقابات.

لا أحد يشكك في أن للاتحاد وزنا ودورا وتأثيرا، لكن الوضع يتطلب أن يكون هذا الدور مغايرا تماما، وبدلا من المطلبية المغالية، البلاد تحتاجه شريكا في الإصلاح والتهدئة، بشكل مؤقت، لعبور الأزمة، فمشاكل تونس يحلها مختلف الفرقاء، وليس جهة لوحدها، كما لن تحلها وكيلة وزارة الخارجية الأميركية.

وتظهر الطبقة السياسية التونسية والنقابية عجزا في الفهم والتقاطا بليدا للإشارات القادمة من قصر قرطاج أو من الغرب، العالم يعيش دوامة كبرى وآخر همه هو مصير البرلمان التونسي أو الغنوشي أو مطالب اتحاد الشغل في الاعتراف به كـ”أكبر قوة في البلاد” وإعطائه صلاحيات وأدوارا ليست من حقه.

ولتطويق هذا الوضع يحتاج قيس سعيد أن يتحرك سريعا لتفعيل آليات الإصلاح في الدولة التونسية التي تضرّرت بسبب التدخلات السياسية والتمكين وسنوات طويلة من العبث الحزبي بغطاء اسمه مناقشات برلمانية للسياسات الحكومية. الإصلاحات الاقتصادية العاجلة واستعادة المؤسسات لفاعليتها، والاستمرار بتفكيك لوبيات الفساد الإداري والسياسي أهم من مسار البناء القاعدي حتى وإن كان الأمر أولوية لدى الرئيس سعيد.

7