حلول إنقاذ الصحافة البريطانية عليها أن تشمل ما بعد كورونا

تتوقّع بعض المؤسسات الإعلامية في بريطانيا خسائر كبيرة رغم الإجراءات القاسية التي اتخذتها بتقليص رواتب موظفيها والعمل لساعات أقلّ، مع الحديث عن عمليات دمج مرتقبة أو التوجّه إلى الإقفال الكامل، بسبب تراجع المبيعات للإصدارات الورقية وتدهور سوق الإعلانات، فيما تتصاعد الدعوات إلى إجبار عمالقة الإنترنت على الدفع مقابل المحتوى.
لندن - تخشى وسائل الإعلام وقوع أزمة جديدة تضرب الصحافة في المملكة المتحدة، بسبب تأثيرات كورونا على القطاع، وتدعو بعضها الدولة إلى الضغط على عمالقة التكنولوجيا الرقمية لتقديم دعم مالي، لأن هذه الأزمة لن تتوقف بانتهاء الجائحة، إذ تحتاج إلى مساعدة طويلة المدى.
وسجلت المؤسسات الإعلامية البارزة مثل الـ“بي.بي.سي” ارتفاعا كبيرا في نسبة متابعتها في ظل الحاجة المتزايدة إلى معلومات من مصادر موثوق بها وسط سيل الأنباء الكاذبة التي تسري منذ بدء الأزمة الصحية، لكنّ الـ“بي.بي.سي” ليست الوحيدة التي حققت هذا الارتفاع، إذ حتى في الدول النامية ومنها العالم العربي شهدت الإعلام الحكومي والرسمي ارتفاعا ملحوظا بعدد المشاهدين نظرا إلى أنه المصدر الأساسي للحصول على المعلومات الموثوقة بشأن تطوّرات الأوضاع الصحية في الدول التي يتبع لها.
يضاف إلى ذلك أن هذا النمو وهذه الشعبية المتزايدة لا يعنيان ارتفاعا في الإيرادات وتحسين الأوضاع المالية، فالمعلنون أنفسهم يشهدون أزمة لا تقلّ خطورة عن وسائل الإعلام، ويلتزمون بتخفيض نفقاتهم إلى أدنى حد ممكن، لذلك لن يكون الإنفاق على الإعلانات أولوية بالنسبة لهم مهما بلغت شعبية وسائل الإعلام وارتفع عدد المشاهدين أو القرّاء.
وبحسب مدير “مجموعة رؤساء التحرير” إيان موراي، فإن ما يحصل في الواقع هو مجرد “فسحة أمل بسيطة وسط غمامة هائلة”.
في المقابل، تعيش أكثرية الوسائل الإعلامية واقعا مغايرا تماما إذ إن بقاء عدد كبير منها مهدد بفعل الأزمة بعد سنوات طويلة من التعثر خصوصا في المؤسسات الإعلامية المحلية في بريطانيا.
وبين 2005 و2018، أقفلت 250 مؤسسة صحافية محلية نهائيا. ومنذ بدء الأزمة الراهنة، جرى الاستغناء عن خدمات أكثر من ألفي شخص خصوصا من أفراد الطواقم غير التحريرية في وسائل إعلامية مختلفة، بحسب مجلة “برس غازيت” المتخصصة في أخبار المهنة.
ويعود ذلك إلى تراجع المبيعات للإصدارات الورقية بفعل الحجر المنزلي وتدهور سوق الإعلانات. وأشارت شركة “إندرز أناليسس” للدراسات بشأن وسائل الإعلام إلى أن عدد الإصدارات قد يتراجع إلى النصف هذا العام كما أن العائدات الإعلانية قد تتراجع بواقع الثلث تقريبا ما يمثل 330 مليون جنيه إسترليني (408 ملايين دولار).
وتتوقع بعض الشركات خسائر في عائداتها بالملايين من الجنيهات، وقد قلّصت رواتب موظفيها وطلبت منهم العمل لساعات أقلّ أو أخذ إجازات غير مدفوعة الأجر. وأعلنت مؤسسات إعلامية أخرى عن عمليات دمج مرتقبة أو حذرت من التوجه إلى الإقفال الكامل.
ويشير محللون متخصصون إلى أن هذا الوضع يهدد ما يصل إلى خمسة آلاف موظف في القطاع.
انتشار الأخبار الكاذبة أعاد الجمهور إلى وسائل الإعلام البارزة حتى في العالم العربي، لكن المشكلة انخفاض الإعلانات
وقدّر وزير الثقافة أوليفر دودن الخسائر التي تكبدها القطاع بخمسين مليون جنيه إسترليني (61.85 مليون دولار) خلال أزمة الوباء خصوصا بعد إتاحة بعض المؤسسات الصحافية الكبرى إلى مضامينها المتصلة بالوباء مجانا.
ويلفت رئيس تحرير دايلي ميرور سابقا روي غرينسلايد إلى أن الأزمة لن تتوقّف بعد رفع تدابير الحجر المنزلي رغم الجهود والاستراتيجيات المستقبلية لإعادة تركيز أنشطة غرف التحرير.
ويقول الكاتب الحالي عن شؤون الإعلام في صحيفة ذي غارديان إن الفترة التي ستلي الوباء “ستشكّل على الأرجح المرحلة الأخيرة من التراجع الطويل للصحف الورقية”.
ومن دون مساعدة “فورية” من الحكومة، ستضطر مؤسسات صحافية عدة إلى الإغلاق بحسب جيمس ميتشينسون، رئيس تحرير صحيفة يوركشر بوست المحلية في شمال إنجلترا.
وقال في تصريحات أدلى بها أخيرا لصحيفة صنداي تايمز إن “التدابير التي اتخذناها لتقليص التكاليف لا تعوض تراجع إيراداتنا الإعلانية”.
واعتبر ميتشينسون أن الصحافة تحتاج إلى “مساعدات” وأيضا إلى تغيير في قواعد أنظمة التعويض المحددة من الحكومة البريطانية منذ بدء أزمة فايروس كورونا. ويهدف ذلك إلى السماح للصحافيين وهم “عاملون رئيسيون” بمواصلة العمل من دون خطر فقدان الوظيفة عندما لا تعود مؤسساتهم قادرة على دفع مستحقاتهم.
ولجمع الأموال اللازمة لدعم وسائل الإعلام على المدى الطويل، تدعو النقابة الوطنية للصحافيين الحكومة إلى زيادة قيمة الضريبة الجديدة على عمالقة المجال الرقمي والتي بدأ العمل فيها في الأول من أبريل الجاري.
ومن شأن هذه الضريبة البالغة نسبتها 2 في المئة توفير “500 مليون جنيه إسترليني (618 مليون دولار) سنويا”، حسبما أفاد الأمين العام المساعد للنقابة سيموس دولي.
وأشار دولي إلى أن زيادة هذه النسبة بواقع ثلاثة أضعاف من شأنه ضخّ مبالغ مالية فورية كبيرة في قطاع تتآكل إيراداته الإعلانية باستمرار من جانب عمالقة القطاع الرقمي.
وأكد أن “الوقوف متفرجين ليس خيارا”، لافتا إلى أن أزمة الوباء تشكّل فرصة للتحرّك قبل أن تجد أجزاء من المملكة المتحدة نفسها محرومة من مؤسساتها الإعلامية الإقليمية التي تقوم من بين أدوارها الكثيرة بمراقبة السلطات المحلية.
وربما شجعت الدول الأخرى مثل فرنسا وأستراليا، البريطانيين على التفكير بهذه الخطوة، إذ بدأت هذه الدول بسنّ قوانين لإجبار عمالقة الإنترنت غوغل وفيسبوك على الدفع مقابل المحتوى الذي يستثمرونه على منصاتها.
وفي خضم هذه الأزمة، قد تعاود الحكومة البريطانية النظر بشأن تمويل الـ”بي.بي.سي” الذي كان من المقرر أن يخضع لمراجعة اعتبارا من 2022.
فحتى قبل أزمة كورونا، قالت الـ”بي.بي.سي” أنها مرغمة على توفير 80 مليون جنيه (95 مليون يورو) بحلول 2022، وعليها التعويض عن إلغاء إيراد التلفزيون لمن تزيد أعمارهم عن 75 سنة اعتبارا من يونيو. ورسوم التلفزيون (154.50 جنيه أي 178 يورو) هي المصدر الرئيسي لإيراداتها.