حلم كل كاتب أجنبي يكتب بالإنجليزية ألا يكتشف سرّه ناطقو اللغة الأصليون

خمسة عشر مبدعا يكتبون بالإنجليزية يكشفون سلطة اللغة الأم.
الاثنين 2023/10/23
تلون لا يخفي الحقيقة (لوحة للفنان علي رضا درويش)

الكثير من الكتاب المهاجرين يبقون على لغاتهم الأم خفية تحت لغاتهم الجديدة التي لجأوا إليها للكتابة بها، لكن اللغة الأولى تبقى دائما في الخلفية، لكن هناك من يستفيد منها ويحقق التعايش اللغوي وبالتالي الفكري والثقافي، وهناك من يضع لغة معيارا على حساب أخرى.

ماذا تمثل اللغة الأم للكاتب الذي يبدع ويفكر ويكتب بلغة أخرى؟ ما طبيعة السلطة التي تملكها؟ وهل تسيطر على أيّ من مفردات الواقع وعناصره والمخيلة في ظل وجود لغة أخرى راسخة في العقل والوجدان؟ كيف هي أبعاد وملامح تأثيراتها وانعكاساتها؟

إن فكرة كتاب “عبقرية اللغة” الذي حررته وقدمت له ويندي ليسير وترجمه حمد الشمري تقوم على ثنائية اللغة، وقد انطلقت من هذه التساؤلات كاشفة عن الكثير من الأسرار والتجارب التي كشفها خمسة عشر مبدعا ومفكرا من بلدان ولغات من الشرق والغرب يكتبون باللغة الإنجليزية، من بينهم جوزيف كونراد وبهارتي موكرجي، وأيمي تان، وجوزيف سكوفوريكي، وبيتر كيزر، ولوك سانت، وتوماس لاكور، ونغومي واثيونغو، ونيكولاس باباندريو، وإم جاي فيتزجيرالد، وها ـ يون جانغ، ولويس بيغلي، وجيمز كامبيل.. وغيرهم.

تقول ليسير في مقدمتها للكتاب، الصادر عن دار أثر، “تعود فكرة الكتاب في الأصل إلى الصديقة المحررة أليس فان سترالن. فقد اقترحت عليّ البحث عن عدد من الكتاب الذين يكتبون باللغة الإنجليزية وهم ليسوا من أبنائها في الأصل، بل يتكلمون لغات أخرى؛ ثم أطلب منهم كتابة مقالات عن الفرق بين اللغتين. وكان من عادتي ألا أقبل  فكرة جذابة جدا، أن تكون هناك لغة أصلية مختبئة، تتسرب إلى تلك اللغة التي يكتب بها الكاتب: تؤثر فيها وتعيد تشكيلها”.

وتضيف “حين دعوت كتابنا الخمسة عشر للمشاركة في مشروع الكتاب، شجعتهم أن يكتبوا وكأن مشاركتهم سرية ذاتية لهم؛ فحكاية اللغة الأمّ ليست مسألة لسانية أو أدبية فحسب، بل هي مسألة تمسّ حياة الناس وشعورهم تجاهها. ولأن هذه الحياة تضمنت انتقالا، وانتقالا قسريا في غالب الأحيان، من بلاد إلى أخرى، ومن عائلة إلى أخرى، أو من ثقافة إلى أخرى، فإن قصتها ستحكي لنا عمّا هو أكبر وأوسع أفقا من القضايا التاريخية والسياسية التي تزامنت معها. ولكن هذه القضايا ليست أولية هنا. إن الهم الرئيس في هذا العمل هو محاولة كشف الحجاب عن المورد الذي يستقي منه كتّاب قديرون؛ والتنقيب داخل كل الطبقات الممكنة لمعرفة الطبيعة الموروثة، وقيمة الأصالة، والعبقرية في الكتابة. إن ما أردته من الكتاب وهو ما تحصلت عليه بالفعل لاحقا، ليس شيئا متشابها، فالكتّاب مثل القطط، لا يعيشون في قطيع. ولو أن الكتّاب كانوا قطيعا متشابها لأصبحت الحياة والعمل مع الكتابة مصدرا للملل”.

الوطن المفقود

لا عجب أن تسمى اللغة التي نرثها باللغة الأم فهي رؤوم وعطوف تسمي العالم وما يدور فيه من المشاعر
◙ لا عجب أن تسمى اللغة التي نرثها باللغة الأم فهي رؤوم وعطوف تسمي العالم وما يدور فيه من المشاعر

وتلفت ليسير إلى علاقة جوزيف كونراد بلغته الأم البولندية، فتقول “في بداية طبعة العام 1919 من سيرته الذاتية المعنونة بـ‘سجل شخصي‘، حاول كونراد جاهدا أن يدحض الانطباع القائل إنه اختار أن يكتب بالإنجليزية. كانت لغة كونراد الأم البولندية، وكان والده الوطني المعروف، الذي توفي حين كان كونراد في الثانية عشرة، متمكنا من البولندية تمام التمكن. وحيث أن كونراد نشأ في بولندا، فقد كان يعرف الفرنسية، ويصف معرفته بها بأنها ‘معرفة جيدة جدا، فقد كانت مألوفة منذ ولادتي‘. لكنه حين أراد كتابة الرواية، كانت الإنجليزية هي سيدة خياله”.

وكتب الروائي “الحقيقة أن قدرتي على الكتابة بالإنجليزية لا تختلف في طبيعتها عن أيّ موهبة طبيعية ولدت معها. عندي شعور غريب وبالغ القوة أن الإنجليزية كانت جزءا موروثا من ذاتي. لم تكن الإنجليزية بالنسبة إليّ قرارا ولا اختيارا. ولم تكن حكاية الاختيار وسطحيتها في ذهني أبدا. كما أنني لم أقرر تبنيها لقد كان هناك فعلا حدثُ تَبنٍّ، ولكن عبقرية اللغة هي ما تبناني، لقد أخذتْ بيدي مباشرة بعد رحلة التمتمة الأولى وجعلتني ابنا لها بشكل كامل، حتى كأن أمثالها وحكمتها كان لها مفعول مباشر على مزاجي وتشكيل شخصيتي”.

 يدرك كونراد أن علاقته بالإنجليزية مختلفة عن علاقة أولادها الأصليين بها؛ لكنه يرى أن حميميته معها لا تقل عن ذلك إن لم تكن أعظم، فيقول “كانت المسألة مسألة اكتشاف وليست مسألة وراثة؛ فالشعور بالنقص في علاقتي بالإنجليزية بصفتي لست من أولادها جعل من الرغبة في التمكن منها أثمن، كما بسط أمامي شعورا خالدا بالواجب أن أعمل لأستمر في استحقاقي لهذه الثروة.. وبعد كل هذه السنوات من العمل المخلص الدؤوب، وكل ما رافقها من الآلام المتراكمة في قلبي بسبب التعثر والقصور والظنون، كل ما آمل أن أتمكن من قوله هو أنه يجب أن أصدق حين أقول إنني لم أكن لأكتب أبدا إن لم أكتب بالإنجليزية”.

وفيما يتعلق بها قالت ليسير “إنه لمن المفارقة أن أحرر أنا كتابا يكون فيه المهجر أو المنفي موضوعا رئيسا. فبقدر ما أن الكتاب عن عبقرية اللغة، فهو كذلك مرتبط بالأرض، والثقافة، والسياسة، والتاريخ. وها أنا بتواضع كبير، أحادية اللغة، متعلقة ببقايا ما أمتلك من إسبانيتي التي عرفتها في المدرسة الثانوية، وأقل من تلك البقايا من الروسية من المدرسة نفسها. كما أنني أبعد ما أكون عن فكرة المهجر والاغتراب؛ فأنا أعيش على بعد أربعين ميلا من المكان الذي نشأت به؛ كما أنني وخلال السنوات الخمس والخمسين التي عشتها لم أبتعد مطلقا عن كاليفورنيا أكثر من ستة أشهر وهي الولاية التي ولدت فيها”.

وتتابع “إن الأمر الذي يتوق إليه هؤلاء الكتاب المهجرون هو العودة إلى أراضيهم المفقودة، والتي تركوها هم وعائلاتهم قسرا؛ ما يشتاقون إليه هو أمر اكتسبته أنا دون عناء. لكن هذا الحق المكتسب بالولادة لم يجعلني غير مدركة لما قد يشعرون به. أقود سيارتي فوق جسر سان فرانسيسكو مع الفجر أو مع المغيب، فأنظر إلى تلك البلاد المألوفة تماما وأتذكر كلمات بريخت من مسرحيته ‘دائرة الطباشير القوقازية‘ عن بلاد المرء وحبه لها ‘لأن الخبز فيها ألذ، ولأن السماء أعلى، ولأن الهواء أزكى، ولأن الأصوات تبدو أقوى، ولأن المشي على أرضها أيسر. أليس الأمر كذلك؟‘ وقد يكون إدراك الأشياء أحيانا أعمق حين غيابها أو فقدها. كما أدرك كونراد ما أدركه من الإنجليزية لأنه اكتشفها ولم يرثها. هذه هي السبيل التي أفهم من خلالها ما كان يشعر به بريخت، الذي كان في مهجره في كاليفورنيا حين كتب هذه الكلمات. وهذه هي السبيل التي أفهم من خلالها ما يكتبه أيّ كاتب مغترب عن بلاده، وحين يكتب عن لغته المفقودة”.

الكاتب الأجنبي

بهارتي موكرجي: لا عجب في أن تسمى اللغة التي نرثها باللغة الأمّ، فهي أمّنا: رؤوم وعطوف
بهارتي موكرجي: لا عجب في أن تسمى اللغة التي نرثها باللغة الأمّ، فهي أمّنا: رؤوم وعطوف

في شهادتها تقول الكاتبة والروائية من أصل هندي بهارتي موكرجي أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة كاليفورنيا في بيركلي “لا عجب في أن تسمى اللغة التي نرثها باللغة الأمّ. فهي أمّنا: رؤوم وعطوف، وتسمّي لنا العالم وكل ما يدور فيه من المشاعر. بالرغم من إقامتي للأربعين سنة الماضية من عمري في مدن يتكلم غالبية أهلها الإنجليزية والفرنسية إلا أن الأمومة والسلطة اللغوية على هويتي الظرفية بوصفي مهاجرة كانت دائما للغة البنغالية”.

وتتابع “كم هي متينة أمّي البنغالية؛ فأنا لم أتعلم مفردة جديدة ولا حتى مجرد فكرة أو شعور جديد عبرها لمدة تقارب نصف القرن. لم أحتج ذلك يوما. بناء على الاعتقاد السائد فمجرد ولادتي في بيئة بنغالية أصيلة تجعلني بالضرورة أنتمي إلى عضوية أكثر لغات العامل تعبيرا وخيالا وذكاء. بالرغم من ندائها الصريح للحب والتباهي والمقدمان على طبق من الشعور القسري بالذنب، تحطم البنغالية دوما بمفارقة ثقة مجتمعها المتصاعدة بنفسه. وأنا كالطفلة أحاول أن ألتمس الأعذار كي لا أشجب حال أمي السائرة دون دليل. ثابتة على الوفاء لبنغاليتي في وجداني؛ كما هي وفية لي كذلك”.

وتضيف موكرجي “بوصفي روائية أحاول أن أذيب كل الحدود الثقافية بين الموروثات التي عشت خلالها. مفهوم الزمن السائل الذي ورثته عن البنغالية ‘كال‘؛ والواقعية السحرية التي ورثتها من الملاحم الهندية؛ كانا يرشدان قلمي إلى الكتابة عن المهاجرين في مدن أميركا الشمالية. كما أنني حاليا أكتب بلغة ثالثة، وهي الأميركية، لهجة جديدة منحرفة عن الـ ‘فورسترية‘ الإنجليزية التي تعلمتها كمعيار للغة الصواب، والتي كتبت بها أول رواية لي وأول مجموعة قصصية. كانت لغتي الأم هي الإعداد الأول؛ وهذا التعبير يبدو وكأنه اعتراف بهزيمتي أنا وبراءتها هي، إن أردت أن أتكلم بإدراك وتعقل. ولكنها الإنجليزية التي كانت بدايتي للقياس والمقارنة. ثم تتالت الحجب من الفرنسية والإنجليزية حتى سترت بنغاليتي تماما وإن بقي القليل من بريقها هناك”.

وتلفت الكاتبة والروائية من أصل صيني أيمي تان إلى أن المقارنات بين اللغات دائما ما تجعل إحدى اللغتين معيارية ومحددة للمنطق والتعبير الذي يحتكم إليه؛ ويلزم من ذلك أن تكون اللغة الأخرى محل اتهام وقصور؛ مائعة الصوت أو نشازا. يقول متحدثو اللغة الإنجليزية إن الصينية فائقة الصعوبة وذلك لأنها تعتمد كثيرا على قواعد نبر يصعب إدراكها بالأذن البشرية العادية، في السياق ذاته يقول الصينيون إن الإنجليزية صعبة جدا لأنها غير مطردة القواعد، لغة لها الكثير من القواعد القابلة للكسر، كما أنها لغة ميكي ماوس والبطة دونالد. والأخطر من تلك المقارنات نفسها حين تقع المقارنة على الترجمة إلى تلك اللغات، وليس على اللغة ذاتها.

وتضيف “من يستمع لأمي ـ مثلا ـ فإنه سيظن حتما أنها لا تقدر على التفريق بين الأزمنة: ماضيا وحاضرا ومستقبلا؛ وأنها لا تؤمن بالجمع والإفراد، بل وإن التذكير والتأنيث لا يعنيان لها شيئا: فهي تشير إلى زوجي بالضمير هي. إن النظرة غير المتأنية إلى طريقة كلام أمي ربما أنتجت تعميما جاهلا بأن هذه هي طريقة الصينيين كلهم في الحديث؛ لذا فهم يسهبون كثيرا في سبيل محاولة إلى نقطة ما. والحقيقة أن طريقة أمي الفريدة هي أنها تراوغ قليلا. أما أنا فأخشى أن الثقافة العامة تصنف الصينيين بأنهم محدودي النظر. وأخشي كذلك أن الصورة النمطية وإن كانت سليمة المقصد هي السبب الرئيسي خلف وجود عدد ضئيل جدا من الصينيين كقيادات في مجال الأعمال والسياسة في أميركا. أخشى ما أخشاه أن تصبح قوة اللغة ـ أي لغة كانت ـ أمرا حقيقيا”.

◙ الأمر الذي يتوق إليه هؤلاء الكتاب المهجرون هو العودة إلى أراضيهم المفقودة والتي تركوها هم وعائلاتهم قسرا

أما الروائي والطبيب الهولندي المختص في أمراض الشيخوخة بيرت كيزر فيقول “بدت الكتابة الإنجليزية ابتداء وكأنني أحاول حرث ساحة من الرخام: أمر مستحيل التحصيل، وإفساد لمواد نافعة دون أي شيء في المقابل. لكنني الآن أكتب بالإنجليزية وأنا أشعر بارتياح تام، وهو شعور لا أجده عند الكتابة بالهولندية. لمَ لا؟ حسنًا، المسألة هي كالفارق بين رجل يقف طبيعيا على قائمتيه الاثنتين، وبين كلب استعراض يقف كذلك على اثنتين من قوائمه في السيرك. لن يتكلم أحد بإعجابه بأسلوب رجل في مشيه على رجلين؛ لكن الكل سيصفق للكلب على هذا العمل النادر. فحلم كل كاتب أجنبي يكتب بالإنجليزية ألا يلاحظ ناطقو اللغة الأصليون أنه كلب؛ وأن يقول أحدهم للآخر في الوقت نفسه: أحب أسلوبه في المشي”.

ويضيف “لكن سواء أكنت مرتاحا أم لا، فأنا لازلت أهز كتفي أحيانا باستياء، لأنني مضطر للبس هذا الرداء الغريب لكي يؤذن لي. أستطيع العيش والحالة هذه إن نلت استعطافكم ولفت أنظاركم إلى ما فاتكم من الكتاب الهولنديين؛ تحديدا، هؤلاء الذين لا أستطيع أساسا شرح مناقبهم، إلا بمثل قدرتي على التصفير لأبيّن لأحدهم تفوق جيمي هيندريكس في عزف القيثارة. لكن ورغم عجزي الحالي عن الشرح، إلا أنني أستطيع الجزم فعلا بتفوقهم. وبالرغم من طول صحبتي مع اللغة، أظل لا أعرف سبيلي في مناطق كثيرة من الإنجليزية”. ويتابع “أنا هنا لا أتحدث فقط عن الأسرار والأسرار صعبة الفهم، بل وكذلك عن النجارة وقطع غيار السيارات وصيانتها، أو عن مصطلحات الشحن وأسماء الطيور: لطالما اختلطت عليّ أسماء الزرزور والغطاس والسمان والكروان والشنقب. أنا في الإنجليزية رجل الحمامة والبطة فقط.. أنا ـ بإيجاز شديد ـ لست ناطقا أصليا للإنجليزية ولا يهمني أن أكون".

13