حكمة الظل

من الظلّ وأسراره ابتكر العرب "خيال الظلّ" الذي سيصبح لاحقاً عالم السينما، وهو عالم ظلّ بدوره، مليء بالإثارة والتشويق، نعيش فيه بعيداً عن هذا العالم الواقعي المتّشح بالضوء الفاحم.
الجمعة 2022/04/01
الظلال أمكنة هادئة للتفكير والتأمل والتواضع

في اللعبة الكبرى التي تدور الآن، إياك أن تغلط في الحسابات. لا تتوهّم ولا تقع في فخ عصر السوشال ميديا، فهي لن تنفعك والموضوع محسوم، لا مكان إلا للأقوياء تحت الشمس، وحتى تصبح كذلك، عليك أن تختار مكانك المناسب في عالم الظلال.

من الظلّ وأسراره ابتكر العرب ”خيال الظلّ“ الذي سيصبح لاحقاً عالم السينما، وهو عالم ظلّ بدوره، مليء بالإثارة والتشويق، نعيش فيه بعيداً عن هذا العالم الواقعي المتّشح بالضوء الفاحم.

كتب غوته عن ظلّ القامة الشاهقة للغة العربية أنه ربما لم يحدث في أيّ لغة أخرى “هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط، مثلما حدث في اللغة العربية، وإنه تناسق غريب في ظلّ جسد واحد“. وأصحاب تلك اللغة من العرب، ما زالوا، طيلة خمسة عشر قرناً، يتندّرون بسرد قصة عن الظلّ، جرت بين وائل بن حجر سليل الملوك اليمانيين ومعاوية بن أبي سفيان، ويستعينون بها في مواقف عديدة لشرح الحال والنصح باللجوء إلى الحكمة، حين رافق معاوية وائلاً ليدلّه على أرض تم إهداؤها له في قيظ الجزيرة العربية، وبينما مضى الضيف الجليل ممتطياً ناقته، مشى معاوية معه على رجليه حافياً، وحين نال التعب من الأخير، طلب المساعدة من وائل قائلاً: أردفني خلفك. فرفض وائل وقال: لستَ من أرداف الملوك حتى أدعكَ تركب معي. فقال معاوية: أعطني إذاً نعلكَ كي أتّقي حرارة الرمال. فقال وائل: انتعلْ ظلَّ الناقة. وتركه يكتوي بلهيب “أرض الواقع”.

الظلّ الذي تعتقد أنه نوع من التهميش وقلة القيمة، قد يكون أرفع درجة من نور مزيّف يحرقك ويفنيك، والظلال أمكنة هادئة للتفكير والتأمل والتواضع، وكنا نسميها في الماضي ”أفياء“ ونتغنّى بها في الأغاني والقصائد، وكان ”فيّ” نخلة، أو“فيّ“ حائط أثري أجمل من كل شموس الدنيا.

تريد أن تعرف ماذا حصل مع الفتى الذي كوت الشمس رجليه؟ مرّ الزمن وجاء وائل إلى دمشق ووقف يستأذن الحاجب للدخول على معاوية الذي كان قد أًصبح مؤسّس الدولة الأموية حينها، فاستقبله وأكرمه وقام له عن عرشه وأجلسه محلّه، ولكنه لم يعاتبه، فقط ذكّره بالقصّة التي لم ينسها يوماً، وقد تكون واحدة من دوافع عديدة صنعت إرادته في حيازة السلطة والمُلك.

المتحضرون يعرفون قيمة الظلال، ويرون فيها فرصة للتهيؤ للمستقبل، وحتى أعرق الديمقراطيات في العالم، ابتكرت حكومة للظلّ، لإدارة الاختلاف والصراع، ولم يفهم كثيرٌ منّا حتى الآن قيمتها وقوتها، بل بقوا يتنافسون على البصيص ويهملون عبقرية الظلال.

20