"حكاية في دمشق".. فيلم بطله الحب الصامد في وجه الحرب

المكان يحمينا من الاغتراب بطيف من الذكريات والأحلام الماضية.
السبت 2022/03/12
الأمكنة ذاكرة الأشخاص والأشياء

لا ننتمي إلى المكان بل هو الذي ينتمي إلينا، فيصير جزءا من ذاكرتنا وهويتنا. فالمكان بما يحضنه من شخوص وأحداث وتفاصيل، يكون أكثر من مجموعة من البيوت والأسواق والمحال، ويصير طيفا من الذكريات والحنين وجذوة تعيش في الوجدان والضمير. وفي دمشق، تركت سنوات الحرب الماضية ندباتها على الأمكنة وعلى مشاعر الناس ومصائرهم منها ما يرويه فيلم “حكاية في دمشق”.

أطلقت المؤسسة العامة للسينما مساء السادس من مارس الجاري أحدث أفلامها “حكاية في دمشق” عن نص الكاتبة سماح القتال وإخراج أحمد إبراهيم أحمد في ثاني تعاون بينه وبين المؤسسة بعد فيلمه الأول “ما ورد”. والفيلم من بطولة الفنان غسان مسعود وجيانا عنيد ولجين إسماعيل ورنا كرم ومشاركة حسن عويتي وجمال العلي وغدير سليمان.

ولا يتعامل فيلم “حكاية في دمشق” مع المكان باعتباره جمادا وجغرافيا، بل بكونه طيفا من الذكريات والحنين والأحلام الماضية، فالبيوت والأسواق والشخوص الذين يحيون فيها، هي عناصر تأتلف فيها حيوات كاملة بحلوها ومرها، لا تترك الشخص بعيدا عنها وتبقى في وجدانه جذرا عميقا.

فيلم "حكاية في دمشق" لا يتعامل مع المكان باعتباره جمادا وجغرافيا، بل بكونه طيفا من الذكريات والحنين والأحلام الماضية

والفيلم يبني مقولته العامة على ثيمة الحب التي لولاها لما استطاعت مدينة اعتصرتها الحرب أن تصمد وتقبل مجددا على الحياة، فالحب هو الملجأ الوحيد للحياة ويشمل الشخوص والأمكنة والذكريات.

ويحكي الفيلم قصة لينا (جيانا عنّيد) وهي شابة تعيش في قلب مدينة دمشق القديمة، تربت على يدي جدتها التي نقلت إليها عبر الكثير من التفاصيل دفء الحنين للماضي والحب العميق للمكان الأصيل ومسقط الرأس، تخصها دون الآخرين من ورثتها بالبيت الدمشقي القديم الذي تسكن فيه ليقينها بأنها ستحميه من التغير.

تفعل لينا ذلك وتختار مهنة بيع الهدايا والأشياء التراثية المصنعة في محل قريب. وفي رسم دقيق لشخصية لينا يرسم الفيلم لها ملامح نفسية خاصة فهي فتاة هادئة حالمة تتعامل بالكثير من الهدوء والوعي مع محيطها، وحتى مع مشاكلها التي تحيط بها ولا تنفك عن التعامل برقة مع الأرواح التي تهيم في بيتها القديم ومحيطها. وتحيك لينا فستانها الأحمر بما يواجهها في يومياتها من أحلام وانكسارات، وتحلم أن تلبسه وتسعد به على الأرجوحة التي تطير بها على طيف من الأحلام.

وفي ملمح آخر قادم من جو صاخب وعنيف يحوطه الألم القاسي الذي يشوه الشخصية الإنسانية فيضرسها ويحولها إلى شخصية متوترة غير طبيعية، يظهر العم وجيه (غسان مسعود) الذي فقد في ظرف مأساوي ابنته وحفيدته، فصار إنسانا هزمته الحياة وأوقعته فريسة مرض ذهني دمر جزءا من ذاكرته، بحيث ينسى بعضا من ذكرياته التي عاش فيها. لكنه رغم هذا الظرف الصحي القاسي والمفجع مازال متمسكا بما تبقى له من ثيمة ذكريات تربطه بأماكن وشخوص محددين. فيهيم يوميا على وجهه متتبعا آثارهم في حواري وأسواق وأماكن، تصل به إلى المقبرة، حيث ترقد ابنته.

ويجد وجيه ضالته في محل الشابة لينا المليء بالحنين للماضي وجمال المكان والشخوص فيه، ليكون لديهم ضيفا خاصا يحظى بالتقدير والحب، فيتحدث حينا ويغني حينا آخر، ولكن هذه الرحلة الجميلة التي يعيشها تنهيها دائما مطاردة زوج ابنته الراحلة زياد (لجين إسماعيل) الذي وجد نفسه في صراع

روحي عنيف بين واجبه في العناية بحموه كونه مريضا نفسيا وبين العبء النفسي والجسدي الذي يفرضه عليه مرضه وهيامه المكاني الدائم.

ويجد زياد نفسه في تقاطع مصيري بأناس لا يعرفهم سابقا، خاصة لينا التي يحمل تجاهها مشاعر خاصة. ولتبدأ أحداث الفيلم بالتصاعد ضمن حلقات متتالية من التأثيرات التي تولدها شخصياته التي تشكلت في خطين دراميين هما: خط وجيه وزياد من جهة ولينا ومحيطها من جهة ثانية، وتقاطعا معا في محل لينا الذي كان المسرح الذي عرفت فيه لينا زياد وتطورت علاقتهما لاحقا.

تعاطف مع المرأة

المخرج أحمد إبراهيم أحمد اعتنى بإيجاد لغة بصرية عالية، تجسد حالات الحب التي رصدها النص والحميمية التي يريد تقديمها للمتلقي
المخرج أحمد إبراهيم أحمد اعتنى بإيجاد لغة بصرية عالية، تجسد حالات الحب التي رصدها النص والحميمية التي يريد تقديمها للمتلقي

كانت الشخصيات الثلاث الأقوى في الفيلم والتي دارت حولها شخصيات مكملة منها الكوافيرة (رنا كرم) وشخصيات ثانوية لم يكن وجودها غنيا وفاعلا مثل الشرطي ومساعد الكوافيرة وعم لينا الذي ينازعها في ملكيتها على البيت، وكان بالإمكان حذف هذه الشخصيات دون تأثير على حكاية الفيلم، وتبقى شخصية حسن عويتي الأكثر تميزا من الشخصيات الثانوية فرغم مساحتها الزمنية البسيطة التي ظهرت بها إلا أن حواراتها حملت معاني كبيرة جسدها بشكل شيق.

وقدمت السينما العالمية عبر تاريخها الكثير من الأفلام التي تتعاطف مع عالم المرأة وتجعله هدفا لها. والسينما الإيطالية برعت في ذلك فتناولت موضوعات نسوية بكثير من العمق والدراسة والتحليل، لتظهر عوالم المرأة وقوتها في مقاومة المجتمع المحيط. وفيلم “مالينا” الشهير للمخرج جيوزبي تورنتوري مثال على هذه الأفلام، وقد قدمه في العام 2000 وقامت ببطولته الفنانة الإيطالية مونيكا بيلوتشي وحاز على الجائزة الكبرى في مهرجان كابورغ عام 2001.

وعلى جانب آخر وزمن آخر، توجد لينا الشابة التي تمتلك ذهنية خاصة وحياة خاصة تجعلها في قلب عصف حياتي قاس، يبدأ بعمها الذي ينازعها في بيتها الذي ورثته عن العائلة، وصولا إلى شعورها بالوحدة وتعاملها مع بيتها ومكانها بحساسية لا يفهمها الشخوص المحيطون بها، مما يخلق لها مزيدا من المتاعب، لكنها تقاوم هذه الظروف وتحصن نفسها بقوة الحب التي تحيط بها ومجموعة من الشخصيات الموجودة في الحي فتنتصر.

وكان واضحا حجم اعتناء المخرج أحمد إبراهيم بإيجاد لغة بصرية عالية، تجسد حالات الحب التي رصدها النص والحميمية التي يريد تقديمها للمتلقي، فهو يتعامل مع فيلم ينبض بالحب والحنين، ويصور في منطقة عريقة في قلب مدينة أصيلة يمتد عمرها لآلاف السنين، تعني الملايين من الناس في العالم. لكنه مع يزن شربتجي أوجدا ما ترجم ذلك بمشاهد سينمائية وظفت أدق تفاصيل المكان، ولا شك أن ما قدمه أدهم مناوي في الديكور والإكسسوار قد عزز هذه المشهدية المفعمة باللون والظل والخيالات.

ظهور جديد

Thumbnail

حفل الفيلم بلقطات طويلة جميلة وصناعة كوادر تقطر شفافية وسحرا وظهرت منطقة باب شرقي في دمشق القديمة بشكل جمالي مختلف. كذلك كان خيار ملابس لينا بطلة الفيلم موفقا، حيث كانت عصرية لكنها مختلفة عن الرائج في أذواق الفتيات في وقتنا المعاصر وهي تؤكد اختلافا ذهنيا تمتلكه في حياتها اليومية.

وقدم أحمد في فيلمه معادلات بصرية لأفكار أرادها النص، فظهرت في العديد من المشاهد لقطات لحواري المدينة وشوارعها في لقطات جوية أحيانا والشخوص يتحركون فيها، وكأنها مسارات ضيقة تفرضها الحياة عليهم في مواجهة نهايات مصائرهم. وفي لقطة مميزة، يجمع المخرج شخصيتي زياد ولينا على جسر في قلب المدينة الحديثة، وكأنهما

معلقان بين السماء والأرض وحولهما ضجيج عال عن المستوى الذي كان في كل زمن الفيلم. فكان معدل الضجيج والوضع المعلق بين السماء والأرض ترجمة لجملة تقول فيها البطلة إنها المرة الأولى التي تغادر فيها قلب المدينة منذ سنوات، وكأنها إنسان لا يشعر بالأمان إلا في حضن آمن يعيش فيه وهو بالنسبة إليها بيتها ومحلها ومجتمعها في دمشق القديمة الذي تعيش فيه.

وما ذهب بهذه الحميمية في العلاقة مع المكان بشفافية مشهدية إلى أماكن أعمق، الموسيقى التصويرية التي أبدعها طاهر ماملي، فكانت تتماهى مع حالة الوجد تلك، فتذهب عبر نقرات الموسيقى وإيقاعاتها نحو إيغال أكبر في مكونات هذه الحالة.

شكل ظهور غسان مسعود في الفيلم حالة جديدة له، فشخصية العم وجيه أظهرها بشكل متوازن وهي التي تعاني من مشاكل نفسية تجعلها في تواتر نفسي متغير ومفاجئ. وهو بخبرته المسرحية لا تخفى عليه عملية سبر أغوار الشخصية وتملكها ومن ثم تقديمها بتلقائية موفقة.

كما قدم لجين إسماعيل شخصية عميقة التأثير ودافئة، وكان لحضوره مع مسعود في العديد من المشاهد وقع مؤثر حملت فيها هذه المشاهد بينهما ملامح الحالة التراجيدية والتي انزاحت في شذرات منها نحو الكوميديا السوداء.

أما جيانا عنيد فقدمت دور لينا الشابة الهادئة وهي تمسك بها بقوة، فلم تصل بها إلى حدود البرود، ولم تخرجها من طبعها الهادئ حتى في أكثر المواقف قسوة وقوة. بينما كان ظهور رنا كرم المختلف الأكثر وضوحا، فقدمت شخصية جديدة عليها، وخرجت من عباءة الفتاة الطيبة الهادئة المسالمة، فقدمت شخصية حيوية تحمل روح الشهامة والظرافة، وشكلت حضورا طيبا في الفيلم.

14