حكاية "حتة مني".. المرض والخيانة وجهان لألم واحد

راجت المسلسلات المنفصلة المتصلة في الدراما المصرية، وباتت الحكايات التي تقدّم في عدد محدود من الحلقات يتراوح بين أربع إلى خمس تلقى استحسانا لدى المنتجين والمخرجين والمؤلفين، والأهم أن هناك إقبالا من الفنانين والجمهور، ما يعني أن موضة المسلسلات الطويلة يمكن أن تتراجع قريبا مع الزيادة الواضحة في المنصات الإلكترونية التي تحرص على تقديم إنتاج خاص بها يتّسم بسرعة الإيقاع.
القاهرة - بحثت الفنانة المصرية إلهام شاهين عن عمل درامي يناسبها منذ تقديم الجزء السادس من الملحمة الدرامية الشهيرة “ليالي الحلمية” ولم تجد، فمكثت نحو خمس سنوات تنتظر قصة مثيرة تعيدها إلى الشاشة الصغيرة بمقاييس فنية جديدة، لأن الجزء الأخير من “ليالي الحلمية” لم يحقّق الرواج المطلوب وبدا أقل من الأجزاء الخمسة السابقة التي دشّنت شاهين كفنانة متميزة في الأعمال الدرامية، وكانت من تأليف الراحل أسامة أنور عكاشة.
عندما عُرضت حكاية “حتة (جزء) مني” على إلهام شاهين تحمّست لها كثيرا، ووجدت فيها ما يعكس التوافق النفسي والدرامي ما جعلها تبدع في تقديم شخصية “حياة” مع أبطال العمل، أحمد وفيق وسارة الشامي ونهال عنبر وإيناس كامل ومؤمن نور، من تأليف شهيرة سلام، وإخراج حسام علي.
وحاول كل منهم توظيف كل مساحة فنية ممكنة للكشف عن طاقات فنية ربما لم تظهر من قبل، لاسيما مؤمن نور وسارة الشامي اللذان أظهرا تميزا وخفة دم في أدائهما لدور زوجين يعانيان من بعض المشكلات الأسرية.
تقلبات درامية

خماسية "حتة مني" اقتربت من مشاكل المرأة المصرية المؤلمة، وحفلت بالتفاؤل والانتصار على مواجهة التحديات والصعاب
دخلت إلهام شاهين في سباق ضمني مع الفنانة ليلى علوي التي شاركتها مسلسل “زي القمر” في حكاية “ست الهوانم”، فكلاهما حاولت تأكيد التمسّك بالشاشة الصغيرة، على الرغم من انتشارهما في السينما، وعدم انقطاعهما طوال السنوات الماضية عنها، وقدّمت إلهام وليلى أفلاما تحسب لهما وعزّزتا من خلالها أن لكل عمر رونقه الخاص.
كانت شخصية “حياة” في حكاية “حتة مني” مليئة بالتقلبات الدرامية التي أجادتها إلهام شاهين، لأن عمرها في الحكاية يقترب من عمرها الحقيقي، فلم تتصاب أو تدّعي أنها لا تزال شابة في مقتبل العمر، فأدّت دور زوجة لرجل أعمال ولديها أبناء وأحفاد.
اقتربت الحكاية من مشاكل المرأة المصرية المؤلمة وحفلت بالتفاؤل والانتصار والقدرة على مواجهة التحديات وظهر تعامل حياة مع زوجها “أحمد” الذي جسّده الفنان أحمد وفيق بعد اكتشاف خيانته واقعيا، وهو أمر يمكن أن يحدث لأي سيدة تمرّ بالتجربة ذاتها، كما ظهر تعاملها مع اكتشاف إصابتها بمرض سرطان الثدي متسقا مع المحنة التي قلبت حياتها رأسا على عقب.
من موضع الألم (الثدي) نسجت الحكاية خيوطها الدرامية وجرى استلهام عنوانها، وتداخلت هذه الأزمة بشكل كبير مع شعور الخيانة وانعكاساته المريرة، وكأنهما أزمة واحدة تتفرّع وتنكمش الأحداث فيها، غير أنها في النهاية تصبّ في بوتقة واحدة، وهي طريقة تعامل حياة مع محنتي الخيانة والألم في آن واحد.
بدت الخيانة نمطية في مرحلة عمرية متأخرة لدى زوج يبحث عن تجديد حياته التي استهلك جزءا كبيرا منها في عمله وحقّق نجاحات فيه، فكل رجل تقريبا يبحث عن فتاة أحلام تصغره قد تشعره بأنه لا زال مطلوبا ومرغوبا أو تعوّضه انشغال الزوجة الأم والجدة أيضا، وهو ما وجده أحمد في الشابة “فريدة” التي جسّدتها الفنانة إيناس كامل ببراعة، فالمؤلفة شهيرة سلام تعمّدت أن تكون قصة الحب حقيقية وجياشة من الجانبين بعيدا عن السن، وكتعبير عن الحرمان العاطفي السابق عليها.
ونجحت شاهين في التحوّل من الزوجة المغرمة التي تذوب عشقا في زوجها إلى الزوجة الرافضة له لمجرد أنها اكتشفت أنه على علاقة بسيدة أخرى، هنا لجأت المؤلفة إلى التصرّف الطبيعي المعتاد الذي يتناسب مع تكوين المرأة في مصر، وهو الرفض والهجران والإصرار على الطلاق، وكان الأولى أن تتصرّف بصورة عكسية رشيدة، أي أن تلجأ إلى الاحتواء ومعالجة الأمر بحكمة للحفاظ على كيان الأسرة.
تعدّدت معالجات مشاكل المرأة في الدراما المصرية وتطرّقت إلى مناطق مختلفة ومتشعبة تتناسب مع الحياة العامة وهمومها المتعدّدة، وهو ما منح حكاية “حتة مني” جانبا من الواقعية المطلوبة والتي يتفاعل معها المشاهدون لدرجة قد يجد قطاع كبير منهم نفسه متعاطفا مع الزوجة حياة والزوج أحمد معا.
يُحسب التعاطف المزدوج للمؤلفة والمخرج، حيث قدّما نموذجا عمليا ولم يضعا رتوشا خارجا عن السياق العام في الحياة يحرّف الحكاية عن مسارها، فمن الوفاء إلى الخيانة والعودة إلى الوفاء مرة أخرى تلاحمت الكثير من التفاصيل التي عادت في النهاية لنبعها الأول الذي يتناسب مع الشخصيات السوية عندما تتعرّض لمحنة بشكل مفاجئ.
لم تقبل حياة عودة أحمد لها وتخليه عن غرامه بالشابة فريدة للوقوف بجوارها شفقة وعطفا عليها، حتى تأكّدت من أن ذلك ينبع من يقين وحب حقيقي، لذلك كان المخرج حسام علي موفقا في استخدام لقطات وتعبيرات وانفعالات تعزّز هذه القناعة لدى حياة بطريقة فنية غير مباشرة، استخدم فيها الموسيقى التصويرية والديكور والضوء كأدوات تعكس التحوّل الدرامي، وسخّر الصديقة الوفية (الفنانة نهال عنبر) للوقوف بجوار صديقتها حتى تجاوزت آلام الخيانة والمرض.
انفعالات محسوبة
لم يكن الوصول إلى الصفح والغفران سهلا، لأن الخيانة صعبة على كل امرأة عاشقة لزوجها، وعندما تعاني من مرض عضال مثل السرطان تصبح المسألة أشد صعوبة، ما أدّى إلى كثافة في المشاهد التي ظهرت فيها انفعالات شاهين محسوبة بدقة والتي تبدو ظاهرة من خلال نبرات الصوت المرتفعة وحركة الجسم المنكمشة أحيانا.
ونقل العمل الدرامي بإيقاعاته السريعة صورة قريبة من عملية اكتشاف المرض وصولا إلى التعرّف على تفاصيل جلسات العلاج التي يتلقاها المريض نفسه، والمفاجآت التي تحدث أثناء تلقي العلاج الكيماوي الذي لا يزال السبيل الوحيد للمرضى في مصر، وجرى تصوير مشاهد مؤثرة تشير إلى تداعيات هذه الطريقة بدءا من سقوط شعر الرأس وحتى الحالة الاجتماعية وروافدها النفسية التي تمرّ بها المرأة بسبب استئصال الثدي الذي يمثل رمزا للأنوثة.
إلهام شاهين أجادت في حكاية "حتة مني" أداء دور مركب مليء بالتقلبات الدرامية والمواقف الإنسانية المتشعبة
كانت شاهين مفرطة في مشاعرها في حالتي الحب والكره مثل الكثير من السيدات اللاتي يتعرّضن لهذا النوع من الأزمات المركّبة، الأمر الذي جعل الأداء التمثيلي يقترب من الحالات التي يلتقيها الناس في حياتهم.
ونجحت الفنانة المصرية في أداء دور مركب وصمّمت على أن تكون عودتها إلى الدراما لافتة وتترك بصمة فنية تمحو بها الآثار السلبية التي خلفها إخفاق الجزء السادس من “ليالي الحلمية”، وقد جعل هذا الإخفاق شاهين تتريّث إلى حين وجدت ضالتها في حكاية “حتة مني” التي قدّمت صورة من معاناة المرأة وقوة إرادتها أيضا.
قاد نجاح الحكايات الدرامية إلى زيادة إقبال شركات الإنتاج عليها، ما يتطلب البحث عن مؤلفين مبدعين ومخرجين يستطيعون توصيل رسالتهم الفنية في فترة زمنية قصيرة، وقد يكون هذا الاتجاه إشارة قوية لتحفيز بعض الفنانين على المشاركة في أعمال تتطرّق لقضايا متباينة، تتناسب مع كل المراحل العمرية، خاصة الفنانين المخضرمين الذين ضجروا مؤخرا من عدم مشاركتهم في الأعمال الفنية بحجة تقدّمهم في العمر.