حكايات غجر ساحرين اجتازوا ليل القرون على ضوء النجوم الخافت

خابيّر آسينسيو غارثيا يتتبع ثقافة وتاريخ غجر إسبانيا، راصدا الإرث الهائل في 79حكاية من حكايات الغجر المدهشة.
الاثنين 2019/03/04
الغجر سير وحكايات تبدأ بالرقص

يعتبر الغجر من أشهر الشعوب الجوالة التي ظل يلاحقها الطرد في كل مكان حلوا به، وقد استقروا في جماعات في أماكن مختلفة، لكن ما يلفت الانتباه في هؤلاء الناس هو ثراء ثقافتهم وإنتاجاتهم الفنية، حيث أثروا الفنون من الشعر والحكايات والرقص والموسيقى بشكل كبير مازالت مظاهره بارزة إلى اليوم.

يزيح البروفيسور خابيّر آسينسيو غارثيا في مقدمته لكتابه “حكايات غجر إسبانيا الشعبية”، الذي ترجمه القاص والشاعر عبدالهادي سعدون، جزءا مهما من تاريخ وثقافة الغجر، إذ يتتبع أصول هذا العرق ومسارات وصوله من الهند عبر أوروبا وأخرى عبر أفريقيا إلى إسبانيا، راصدا الإرث الهائل الذي حمله من ثقافات وحضارات الشعوب التي هاجر منها أو مر بها، وتأثيراته على الموروثات الشعبية الإسبانية من أغان وحكايات وموسيقى وغيرها.

فلكلور المطرودين

يقدم كتاب “حكايات غجر إسبانيا الشعبية”، الصادر عن مشروع كلمة بأبوظبي، 79 حكاية مقسمة ومرتبة في أجزاء تحت مسميات: الحكايات الملحمية، الحكايات العجيبة المدهشة، الصراع من أجل البقاء، حمى الذهب، ليل الغجر الطويل، نور الإيمان والأحاجي الغجرية.

يلفت غارثيا إلى أنه لا أحد يعلم متى هاجر الغجر من الهند، لكن يُعرف عن إقامتهم في بلاد فارس، والتي غادروها في وقت متأخر ليستقروا في الشام وأرمينيا قبل الاجتياح العربي للمنطقة. بدءاً من القرن الـ12 يلتمس لهم حضورا في بلاد الإغريق البيزنطية، وفي القرن الـ14 سينتشرون في بلاد البلقان. في عام 1385 يظهرون في رومانيا، وفي وقت متأخر في مدينة لونبيرغ (1417) ومدن ألمانية أخرى (1418)، وأيضا في سويسرا (1418) وفرنسا (1419) وهولندا (1420) وإيطاليا (1422).

التشكيلات الجمالية التي وضعها الغجر أخذت مكانها في الأوساط الريفية الإسبانية، حيث بدأت تبرز مظاهر الرقص العفوي

ويرى أن المؤرخين الأوروبيين في ذلك العصر أثبتوا مرات عديدة أن الغجر قد وُجدوا في المدن كمؤمنين مسيحيين تم نفيهم بسبب عقيدتهم بالإضافة إلى اتهامات أخرى في أراضي مصر السفلى، وقد وصلوا كجماعات قبلية مؤلفة من عشرات الأشخاص يرأسهم قائد يلقب نفسه كـ”كونت” أو “دوق”، ويحملون صك عدم التعرض لهم مُوقّعا من إمبراطور هنغاريا سيغسموند أو من بابا روما نفسه يسمح لهم فيه بالتجوال بحرية في الديار الأوروبية لفترة سبع سنين أو أكثر.

ويشير غارثيا إلى أن الغجر قدموا في طوافهم بأوروبا عذرا مدهشا بشكل تام: وهو أنهم قد طُردوا من مصر السفلى، أو منطقة تنتمي اليوم إلى سوريا ولبنان الحاليين، آنذاك كانا تابعين للإمبراطورية العثمانية، بسبب اعتناقهم الديانة المسيحية والتي توافقوا معها بشكل سريع. ومن المؤكد أنهم في تجوالهم في الأراضي الأوروبية كانوا قد سمعوا أكثر من حكاية عن شأن منتشر في المسيحية وقد وصل حتى أيامنا هذه: خلال هروب العائلة المقدسة إلى مصر، ساعدها أكثر من شخص وحيوان ونبات، وأساء إليها آخرون. قوة هذا التقليد المزيف جعلتهم يعلنون عن أنفسهم أنهم من ذرية أولئك الذين خانوا العذراء والمسيح الطفل والقديس يوسف.

وحول تجديد الغجر للفلكلور الإسباني يلفت غارثيا إلى أنه في احتفالات الكوربوس الدينية للقرن السادس عشر تزين الغجر بحذق ضمن المشاهد الوعظية والدمى الخرافية والأقنعة والهيئات العملاقة والرقصات والعربات الملكية. ويشير إلى أن التشكيلات الجمالية التي وضعها الغجر أخذت مكانها في الأوساط الريفية الإسبانية، حيث بدأت تبرز مظاهر الرقص العفوي على الطريقة الغجرية. لقد أحدث الرقص الغجري تطوراً يصل إلى يومنا هذا. إن “رقص الغجرية” ما يزال يحافظ على طرازه في منطقة هيخار في تورولينسا وفي منطقة تاراغونا، وهناك أدلة على وجودها في مناطق آراغونية أخرى وفي محيط مدينة برشلونة ضمن ما يسمى بمنطقة البايّس. حيث أن واحدة من المظاهر الأكثر حضورا في الاحتفالات الدينية كان يشكلها الغجر، فقد كانوا يتنكرون في هيئات الملوك وبشر من قارات مختلفة.

ملاحم الغجر

يقول غارثيا إن الغجر عانوا في أجسادهم مباشرة من تهجير وطرد لمرات عديدة بسبب ما طالتهم به السلطات المدنية وغيرها بسبب طبيعة أنظمة الغجر أنفسهم في شأن الجرائم الداخلية، ومن هنا برزت الحكايات الملحمية التي يمكن جمعها اليوم من تراث الغجر.

ففي عام 1916 تعرف الموسيقي الكبير وعالم الفلكلوريات مانويل مانريكه دي لارا على غجري من مدينة إشبيلية كان يعيش في شارع بوريثا في حي تريانا، نفس المنزل الذي كان يخرج منه مصارع الثيران المعروف كاغانتشو، غجري أيضا، سيرا على الأقدام حتى ساحة مصارعة الثيران لامايسترانثا ليقوم بعمله على أكمل وجه. هذا الرجل كان يلقي الأشعار ويغني قصائد قديمة مثل: برناردو يقابل الملك وبانياندو في السجون، ورودريغيو يثأر لأبيه، وخيمينا تطالب بالعدالة، ومنفى السِيد، وشكاوى دونيا أُوراكا، ويا للحمامة الضائعة!، وبيلاردو، وبالدوبيناس، وهيا إلى السلاح، والموريسكي، ورونثيسبايس، وغيرها. كلها تدور حول موضوعات قديمة في الملحمية الإسبانية والفرنسية التي بقيت حية في ذاكرة الغجري.

تشكيلات جمالية وضعها الغجر
تشكيلات جمالية وضعها الغجر

ويضيف أن الغجر أعادوا صياغة الحكاية الملحمية التي تعرفوا عليها بعد وصولهم إلى إسبانيا والتي تابعوا الاستماع إليها في ما بعد عن طريق الكتابة باللغة الإسبانية. لكن الشعب الغجري لم يضف شيئاً إلى ما هو مدوّن من الأناشيد الملحمية: فقط ضمن ما يشير لمآثر شجاعة الغجر كما هي عليه في حكايتيْ حصان توتانا النحيف وتحدي الجمجمة اللتين تضمان بعض العناصر الموازية للحكائية الملحمية. إن تميز الغجري يكمن في مسألة الخلق الغنائي والتميز في الصنعة الغنائية المتفردة. وعندما نتحدث عن الفلامنكو فإننا نتحدث بلا شك عن الفن الخاص بالغجري الإسباني، حيث نرى الأثر بوضوح في أغاني الرومانثيرو والغنائية الشعبية القديمة وبعض “المقطوعات” ليست القديمة منها وحسب بل تلك التي يشتركون فيها مع البشر الآخرين. لكنها على شفاه وفي أيدي وأقدام الغجر، تتشكل الموضوعات الجديدة والقديمة وتخلق لنفسها طابعا خاصا بهم.

ويوضح غارثيا أنه من ضمن الأمتعة الثقافية لغجر إسبانيا نجد بضاعة ثمينة كما في الملاحم القديمة: مجموعة الحكايات الكثيرة والرائعة التي يمكننا الاستماع إليها على ألسنتهم. تتضمن قصصاً قديمة لا تمتّ بصلة لقصص مؤسسة والت ديزني، وقصص هذه المؤسسة الأخيرة التي حولتها إلى نصوص معاصرة ذات صبغة فلكلورية، وتحوّلت إلى نمط حكاية الأطفال كما هي عليه في: كابروثيتا الحمراء، سندريلا، ندفة الثلج، القط الذي يرتدي الحذاء، عازف ناي هاملين، بيتر بان، والخنازير الثلاثة… وعلى الرغم من أن هذا التراث الشفوي بدأ يضمحل تدريجياً كما هو عليه في بقية المجتمعات، إلا أن هذا لم يحدث مع الغجر إلا في فترة قريبة نسبياً، ولحسن الحظ، ما يزال هناك أشخاص قادرون على نقل الكثير من هذا النتاج.

وإن جزءا من تاريخ وثقافة الغجر التي أزيح عنها الغبار مقدمته تتجسد في القصص المدهشة التي تتضمنها حكايات هذا الكتاب.. حيث يقول المؤلف “إن هذا العِرق البشري الساحر وقد اجتاز ليل القرون على ضوء النجوم الخافت، سمح في حكاياته أن تظهر انعكاسات تخوفاته وآماله: الأرواح والسحر، الموت والتنبؤ، الأمراض والوصفات الإعجازية وغيرها.

ويرى أنه مثل كل جماعة بشرية، فالغجر يعشقون الحكايات ذات النهايات السعيدة. بل ربما هم أكثر في هذا من بقية المجتمعات، لأنه لا وجود لشعب مثلهم له رغبة في الحرية التي افتقدها دائما، ولا يوجد هناك إنسان مثلهم يحلم ببحار بعيدة وأميرات رائعات وممالك مسحورة بينما الحياة تجري في عروقه.

14