حق الجزائر الكروي ضاع كما ضاعت رهانات كثيرة

الرهان كان كبيرا على خيار المونديال الكروي لإلهاء الشارع الجزائري عن همومه واهتماماته الحقيقية لمدة أشهر وربما لسنوات وحتى لولاية رئاسية ثانية للرئيس تبون لكن الأقدار قضت غير ذلك.
الثلاثاء 2022/05/24
الأوهام لا تبني بلدا

الآن وقد انجلى غبار المعركة وذهب كل لشأنه، لم يبق في الساحة إلا باعة الوهم يلاحقون آخر خيوط السراب، ومن كانوا إلى غاية الأيام الأخيرة يسوقون أنفسهم كأبطال قوميين، لم يجرؤ أي واحد منهم على الاعتذار من المجتمع ومن الدولة على ما ألحقوه بكل منهما من صداع وإساءة، كان يراد لها ممارسة المزيد من التنويم لشعب أنهكته الأزمات، وصار كل شيء مباحا من أجل شراء صمته حتى ولو كانت معارك مزيفة.

منتخب الجزائر للكرة المستديرة المقصى من المونديال القطري في سيناريو دراماتيكي، ظلم مرتين: الأولى من طرف حكم أدار اللعبة بخبث ودهاء، والثانية عندما وقع ضحية انتهازيين وطفيليين، أرادوا ارتداء ثوب البطل القومي وممارسة الكذب على شعب لم يبق له إلا كرة القدم لينسى هموم الحياة المثقلة بالأزمات المركبة.

ولأن القضايا العادلة لا تحتاج إلى الزيف والكذب، وإلى الانتهازيين والطفيليين ليدافعوا عنها، فإن حق الجزائر الكروي ضاع كما ضاعت مصالح كثيرة ورهانات أكثر لم تجد نزهاء يحافظون عليها ويدافعون عنها. وكما قال الجنرال المسجون عبدالغني هامل “من يحارب الفساد عليه أن يكون نظيفا”، فإن الحيف الذي لحق المنتخب لا يمكن أن يحاربه فاسدون.

واحد من هؤلاء كان يردد على أسماع الجزائريين وأنظارهم أن “بوتفليقة هو الذي يعين الرئيس في فرنسا”، ولم يجد من ينهره عن ذلك. وآخر نهب سائقه الخاص في رواتبه، ويزعم أنه رئيس منظمة دولية لمحاربة الفساد الرياضي، ولا أحد كشف حقيقته للرأي العام.

منذ دخول منظومات ذباب إلكتروني في إدارة وتوجيه الرأي العام، ابتليت الجزائر بأشكال من البشر تجعل الماء رائبا ولا يتعرق وجهها خجلا أو حشمة، فأضاعت البوصلة على نفسها وعلى المجتمع، وصار الضلال والتضليل هو طريق الجميع، بما فيها الحقيقة التي هي الضحية الأولى.

وكما أجمع هؤلاء على شيطنة كل رافض لمسار وأداء النظام السياسي منذ العام 2019، وعلى تبرير أي شيء تقوم به السلطة حتى لقبوا بـ”التبريريون”، فإن اصطدامهم بالحقيقة من طرف هيئة الفيفا في زيوريخ، سواء كانت منصفة أو ظالمة، عرى حقيقتهم وبهتانهم، ليتبين أن كل ما كان يزعمون ما هو إلا بيع للأوهام على أمل ربح المزيد من الصمت.

لا شيء ينقذ البلاد كالحقيقة والصراحة والمنطق والبراغماتية، فلغة الخشب وتسويق الوهم مآله الفشل، كما فشل وهم تمرير المنتخب إلى المونديال

لقد كان الرهان كبيرا لدى السلطات على خيار المونديال الكروي، لإلهاء الشارع عن همومه واهتماماته الحقيقية لمدة أشهر وربما لسنوات، وحتى لولاية رئاسية ثانية للرئيس عبدالمجيد تبون. لكن الأقدار قضت غير ذلك، ولأن الصدمة كانت قوية، فإن العرابين عملوا على محاولة ربح المزيد من الوقت ببيع وهم المرور وإشاعة الفساد عن ممارسات الهيئتين القارية والدولية، لكن الصدمة كانت مضاعفة عليهم بعدما تقرر متابعة الجزائريين للمونديال من التلفزيون ومن المدرجات للمحظوظين، وما عدا ذلك فهو كذب وافتراء.

صحيح أن اللعبة الكروية الآن هي اقتصاد وتجارة ودعاية وأموال وحتى سياسة، لكن ليس لدرجة تحويلها إلى مخدر شعوب تعاني الفقر والحرمان والدكتاتورية، فهي تمارس في الغرب كوسيلة للفرجة والترفيه فقط، وليس لإلهاء الشارع عن الأوضاع المزرية، ولو كانت تلك الشعوب في راحة اقتصادية واجتماعية لما انخرطت بكل هذه القوة في هذا الزخم المجنون.

وفرضية التواطؤ في هذا المجال غير مستبعدة بين تلك الأبواق وبين السلطة في الجزائر، وإلا كيف يسمح لهؤلاء بالحديث باسمها وباسم مؤسسات الدولة، أمام مرأى ومسمع العالم، وفوق ذلك تتقاطع تصريحات رموز السلطة مع تصريحات هؤلاء، حتى خيل للشعب بأن المعركة جادة وحقيقية، قبل أن يتضح أنها مجرد إثارة للغبار.

والسلطة المتمسكة بمشجب المؤامرة وبالخطر الوهمي، تظل هي الخاسر الأكبر ومن ورائها الجزائر، ما دامت تعتمد على بيع الوهم بتجار الزيف والكذب، لأن ما تعتقد أنه رجع إيجابي للصدى من خلال موجة التبريريين، هو في حقيقة الأمر تضليل وتغطية للحقيقة، فلو لم يُبيض مشروع زراعة السلجم الزيتي، وتسويقه على أنه المنقذ للبلاد من تبعية الزيت الغذائي وإنهاء للاحتكار، لما اصطدم بالفشل المعلن عنه مؤخرا، ولو تم الاستماع لصوت الخبرة والعلم لما كانت هذه الخيبة.

سياسيا يقال “السلطة القوية بمعارضة قوية”، وشعبيا يقال “خذ رأي الذي يبكيك وليس رأي الذي يضحكك”، والشارع الذي توصف له مختلف وصفات التنويم بتأشيرة التبريريين، سيستفيق يوما لأن كل الحبوب ستفقد مفعولها، فلا الذباب الإلكتروني ولا كرة القدم ولا شيء آخر سيضمن حينها الصمت المنشود.

ولا شيء ينقذ البلاد كالحقيقة والصراحة والمنطق والبراغماتية، فلغة الخشب وتسويق الوهم مآله الفشل، كما فشل وهم تمرير المنتخب إلى المونديال خارج أطر المستطيل الأخضر. وحينها سيصبح الكاذب كاذبا حتى ولو تحدث صدقا، وهو السقف الذي تقترب منه البلاد، بسبب ما ابتليت به من منظومة الذباب الإلكتروني التي جنت على المجتمع لدرجة أن صار يهوى الاستماع للكذب أكثر من الاستماع للحقيقة.

وفوق ذلك أفرزت جيلا لا يحسن إدارة وتسيير الاستحقاقات، فبدل التركيز على أن المسؤول الأول عن الفشل هو المنتخب نفسه، ويأتي بعده ما خفي في الكواليس، جرى إشعال معارك وهمية وهامشية ضاع فيها التركيز على الظلم والمظلومية وتسويقه للرأي العام، وتم الاهتمام بالخطاب الغوغائي المسيء لسمعة المجتمع والدولة.

8