حفنة من الوعود لفقراء العالم

الحديث عن النيوليبرالية وتوحشها لا يحمل أنباء سارة لبقايا المتعلقين بالفكر الماركسي والمجتمعون في دافوس السويسرية تحت شعار "التعاون في عالم مجزأ" لن ينهوا اجتماعاتهم ببيان يدين "الرأسمالية المتوحشة".
الخميس 2023/01/19
توسع رقعة الفقر في العالم

بالتزامن مع تقرير صادر عن أوكسفام تحت عنوان “البقاء للأغنى” انطلقت أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي “دافوس 2023”، بمشاركة أكثر من 2500 شخصية، بينهم 52 رئيس دولة وحكومة.

التقرير الصادر عن أوكسفام يشير إلى أن أغنى أغنياء العالم البالغ نسبتهم 1 في المئة من سكان الكوكب حصلوا على ما يقرب من ثلثي إجمالي الثروة التي تم تكوينها منذ عام 2020، أي ما يقرب من ضعف ما حصل عليه بقية سكان الأرض.

الصورة أكثر قتامة عندما يتعلق الأمر بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تعتبر من أكثر مناطق العالم تفاوتا في الثروة، حیث یمتلك 37 ملیاردیرا ما یساوي ثروة النصف الأفقر من السكان البالغین في المنطقة.

وتعمق سياسات صندوق النقد الدولي من هذا التفاوت، بترويجها نموذجا نيوليبراليا للتقشف والتشجيع على نمو القطاع الخاص على حساب تراجع القطاع العام. هذا ما تفرضه المنظمة بشكل صريح وواضح في شروطها لتقديم قروض لدول مثل مصر والأردن وتونس. وهو ما سيؤدي في حال الالتزام بها إلى المزيد من تراكم الثروات، وبالتالي السلطة في أيدي حفنة من الأشخاص.

◙ أهم ما سيركز عليه المجتمعون في دافوس هو: إلى أين يتجه العالم، بعد أن تسببت جائحة كورونا، والحرب الروسية – الأوكرانية، في ظهور قناعات عند البعض بأن عصر العولمة يقترب من نهايته

النموذج الذي يروج له صندوق النقد لا يشكل تهديدا على المستوى الاقتصادي فقط. الديمقراطية أيضا مهددة، بسبب عدم المساواة الاجتماعية وما ينجم عن ذلك من عنف متزايد وعدم التزام من قبل السياسيين “المنتخبين” والشركات بمصالح المواطنين.

ولا ننسى أيضا ما لحق بالممارسات الديمقراطية من أضرار بسبب المعلومات المضللة في وسائل التواصل الاجتماعي وانخفاض حماس الناخبين وانفضاضهم عن صناديق الانتخابات.

المروجون والمدافعون عن النموذج الاقتصادي النيوليبرالي، وجدوا في جائحة كورونا التي اجتاحت العالم عام 2020، وما تلاها من غزو روسي لأوكرانيا، ضالتهم، وسرعان ما استخدموا الوباء والغزو مشجبا أضافوا إليه أزمة المناخ، للتبرؤ من تحمل المسؤولية عن الأزمة التي تشهدها دول العالم، والمتمثلة بتوسع رقعة الفقر وتآكل الطبقة الوسطى واختفائها.

القصة بدأت مع بزوغ نجم الثورة الصناعية وما رافق ذلك من نمو ديموغرافي ونزوح من الريف إلى المدينة، وانفتاح على الأسواق حول العالم، وتخفيض القيود على الإنتاج والاستهلاك، والتي أدت في النهاية إلى تبني سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص، بدعوى أن ذلك يحسن الحالة الاقتصادية للبلد.

ولكن، إذا كانت الرأسمالية، التي وصفت بالمتوحشة من قبل المفكرين الاشتراكيين، قد نجحت على مدى أكثر من 100 عام في ازدهار المجتمعات وخلق الثروات وتحسين ظروف الحياة، ماذا حدث اليوم وأدى إلى انتكاستها؟

المشكلة ليست في النيوليبرالية التي تؤمن بـ”أولوية آلية الأسعار، والمؤسسات الحرة، ونظام المنافسة، والدولة القوية”.

في كتابه “العالم إلى أين” ينتقد نعوم تشومسكي الليبرالية الجديدة، ويصفها بالدورة الشريرة، “الدولة فيها موجودة لتؤمن الأمان والدعم للأقوياء وأصحاب الامتيازات في المجتمع، فيما تترك بقية الشعب لتختبر الواقع المؤلم للرأسمالية”.

◙ غدا ينفض الاجتماع، وكل ما نأمل به هو ألا يقتصر البيان الختامي على حفنة من الوعود لن تكون ملزمة لأحد

هذا الكلام لو قيل مع تفكك الاتحاد السوفييتي والإطاحة بجدار برلين والانفتاح الصيني على العالم، لن تصدقه سوى قلة قليلة من المدافعين عن الفكر الماركسي. فما الذي حدث في الفترة الممتدة من عام 1991 حتى اليوم وتسبب في تغير المزاج العام؟

المشكلة ليست في الرأسمالية، التي كانت دائما متوحشة. المشكلة تتعلق في أين يضع كبار الأثرياء أموالهم اليوم.

العالم يواجه مصير ميداس، كل ما يلمسه كبار الأثرياء يتحول إلى سلع فاخرة. هناك طوفان من العملات والسلع الإلكترونية والملابس والعطور والقصور والسيارات واليخوت.. ولا ننسى أيضا السلاح.

ليس صعبا أن نستنتج أن ما ينفق على هذه السلع وتسويقها يفوق بكثير ما ينفق على إنتاج الغذاء وتسويقه.

إذا كان بإمكاننا تحقيق أرباح كبيرة بالمراهنة على سعر العملات الرقمية، لماذا نخاطر بالاستثمار في الزراعة والصناعات الغذائية في عالم مضطرب سياسيا ومناخيا هذا هو حال لسان كبار الأثرياء اليوم.

الحديث عن النيوليبرالية وتوحشها، لا يحمل أنباء سارة لبقايا المتعلقين بالفكر الماركسي. والمجتمعون في مدينة دافوس السويسرية تحت شعار “التعاون في عالم مجزأ”، لن ينهوا اجتماعاتهم ببيان يدين “الرأسمالية المتوحشة”.

السؤال الذي يجب أن يطرح، ليس كيف نعمل على إنهاء النظام الرأسمالي، بل ما الذي يمكن عمله لينجو الأثرياء بجلودهم؟

◙ النموذج الذي يروج له صندوق النقد لا يشكل تهديدا على المستوى الاقتصادي فقط. الديمقراطية أيضا مهددة، بسبب عدم المساواة الاجتماعية وما ينجم عن ذلك من عنف متزايد

الحل في كلمة واحدة هي “العدالة”. على الحكومات أن تلعب دور روبن هود. عليها أن تأخذ من جيوب الأثرياء وتضع في جيوب الفقراء.

الدور الذي يقوم به بعض مشاهير الأثرياء تطوعا، يجب أن يتحول إلى قانون.

أهم ما سيركز عليه المجتمعون في دافوس هو: إلى أين يتجه العالم، بعد أن تسببت جائحة كورونا، والحرب الروسية – الأوكرانية، في ظهور قناعات عند البعض بأن عصر العولمة يقترب من نهايته.

في هذا السياق، يبدو أن المؤتمر مستعد لمواصلة الدعوة إلى العولمة.

هناك حديث عن مقترحات قدمتها أوكسفام لفرض ضريبة تصل إلى 5 في المئة على أصحاب الملايين والمليارات، قائلة إنها قد تدر 1.7 تريليون دولار سنويا، أو ما يكفي لانتشال ملياري شخص من براثن الفقر.

رقم مثل هذا قد يكفي لتأخير المواجهة، ولكن حتما لن يكفي لحل المشكلة من جذورها. الحل الجذري سيكون بفرض ضريبة 90 في المئة على كبار الأثرياء، تكفي لحل أزمة الغذاء وتمحو الفقر على مستوى العالم، وفي الوقت نفسه لن تنقص من مستوى حياة الأثرياء.

يجب أن يعلم المجتمعون في دافوس أن قروض صندوق النقد الدولي لن تحل مشاكل الدول الفقيرة، بل ستزيد من تعميقها.

غدا ينفض الاجتماع، وكل ما نأمل به هو ألا يقتصر البيان الختامي على حفنة من الوعود لن تكون ملزمة لأحد.

8