حفلات موسيقية تنوّع بين عواصف الموسيقى ولجّة الطرب

ليس غريبا أن يحظى حفل موسيقي يقدمه الموسيقار صفوان بهلوان باهتمام الجمهور، وهو الفنان الذي يعرفه المتابعون ويقدرون الفن الذي يقدمه. وما ترجم احتفاء الجمهور الدمشقي بالحدث، التهافت للحصول على بطاقات الحضور رغم برودة الطقس حيث نفدت البطاقات خلال ساعات من طرحها للبيع. وفي الزمن المرتقب كان الحدث الذي جمع فنانا قديرا وجمهورا متعطشا لتلقي حالة من الطرب طال انتظارها.
كان حنين جمهور أوبرا دمشق لغناء وموسيقى الطرب هدفا مبتغى من حفل الفنان صفوان بهلوان. وهذا ما تحقق مساء الثاني من فبراير الجاري حيث تلاقى جمهور دار الأسد للثقافة والفنون “أوبرا دمشق” للمرة الثانية مع صفوان بهلوان خلال ما يقارب العام. وبعد غياب طويل عن الأوبرا السورية، غنى خلالها بهلوان في كل دور الأوبرا العربية، ظهر في حفل أول قدم فيه خلاصة فنه الذي تتذوقه شرائح كبيرة من الجمهور السوري.
وفي حفله الثاني الذي قدمه بمشاركة الفرقة الوطنية السورية للموسيقى العربية بقيادة المايسترو عدنان فتح الله، قدم بهلوان المزيد من الفن الذي جمع الروح الكلاسيكية للموسيقى العربية مضافا لها صيغا معاصرة أغنت الحفل وذهبت به إلى مطارح جديدة، لم يعتد جمهور الفنان على وجودها.

عدنان فتح الله: بهلوان أمين في التعامل مع تراث محمد عبدالوهاب
مراوحة موسيقية شعرية
بدأ الحفل بموسيقى آلية سماعي بيات، ألفها الموسيقار بهلوان، وكان تمهيدا يحضر الجمهور لجو عاصف من الطرب. ثم قدم قصيدة ليالي الشام التي ألفها الشاعر الإماراتي سلطان عويس ولحنها بهلوان، وهي المؤلف الوحيد الذي تكرر في حفلي بهلوان في أوبرا دمشق حيث قدم في الحفل الماضي أيضا، ثم أدى بهلوان أغنية شهيرة للموسيقار محمد عبدالوهاب هي “ماكنش على البال” وهي من زجل حسين السيد، تلتها قصيدة تقدم للمرة الأولى من خلال حفل أوركسترالي موسيقي وهي “نبع الصفا” للشاعر السوري الكبير سليمان العيسى الذي كانت تربطه بالموسيقار بهلوان علاقة صداقة قوية.
وبعدها قدم المؤلف الفلسفي الشهير للشاعر اللبناني إيليا أبوماضي بقصيدته “لست أدري” والتي لحنها وغناها محمد عبدالوهاب وصارت تحفة من كلاسيكيات الغناء العربي، وفي تناول تراثي جديد تقاطع فيها بهلوان مع موسيقى محلية، استخدم منها جملا لخلق بناء موسيقي متجدد من خلال أغنية “زهرة الفلة” التي ألف لها بناء موسيقيا جديدا أضاف إليه ألحانا وزجلا وضعه الشاعر السوري محمود ياسين.
وفي الموال قدم بهلوان “اللي انكتب” من زجل إبراهيم عبدالله وتلحين محمد عبدالوهاب ثم قدم رائعة عبدالوهاب “لما أنت ناوي” زجل محمد عبدالمنعم، وقدم قصيدة أمواج وهي قصيدة ألفها الشاعر السوري محمد الموصلي وقدمها بهلوان لأول مرة في حفل فني.
وكانت خاتمة الحفل في الأغنية الشهيرة “كل ده كان ليه” التي ألفها مأمون الشناوي ولحنها وغناها الموسيقار عبدالوهاب، وكانت آخر أغنية مسرحية له قدمها في حياته.
في هذه الأغنية وكما عادته، ذهب صفوان بهلوان بعيدا في إظهار قدراته في فن الارتجال والتنقل بين المقامات الموسيقية وكذلك الإيقاعات فقدم خلال زمن مطول وصلة طربية على جملة “نساني أنام الليل خلاني أبات أناجيه” طافت بالجمهور بين مقامات وطبقات الصوت، فتارة في المقامات العالية وتارة بمقامات منخفضة حتى أنه أوجد لها أحيانا جملا موسيقية موقعة بخلاف ما كان وضعه ملحنها الأصلي محمد عبدالوهاب. وقدم فيها بهلوان تجديدا حتى على مستوى اجتهاده عليها حيث تحول في مقطع منها بشكل مفاجئ ليقدم أغنية “فكروني” لأم كلثوم، وهو اللحن الشهير الذي وضعه محمد عبدالوهاب، وتفاعل الجمهور مع هذا التنويع وكان في مداه الأوسع وكان في قمة الطرب والنشوة، ثم عاد ليختتم الأغنية بشكلها الاعتيادي.
ورشة عمل ناجح

ويرى صفوان بهلوان أن الخيارات الموسيقية التي تقدم في الحفلات الفنية يجب أن تكون منتقاة ومتنوعة وتخدم الفكرة العامة للحفل.
ويقول عن ذلك لـ”العرب”، “كان الحفل مميزا بكثرة الخطوط والألوان وتمازجها مع بعضها وتشكيل إيقاعاتها من لون إلى آخر، أردت أن يكون الحفل متراوحا بين العزف على الذاكرة المألوفة وتقديم شيء جديد لا يبعد كثيرا عن الماضي، تمتد يد الماضي لتصل إلى الحاضر وهذا يشمل حتى القصائد الحديثة التي قمت بتلحينها، مثل ‘نبع الصفا’ للشاعر سليمان العيسى التي كان فيها إيقاعات موسيقية ومدّ عرضي للصوت ثم الانتقال إلى التقطيع الإيقاعي الذي تسير عليه آفاق موسيقية متعددة وكذلك قصيدة ‘أمواج’ للشاعر محمد موصلي”.
ويتابع، مطلها “ألم الموج عن جفنتيك لا أدر لماذا تسرق الأنسام مني ما ألم. تماهيت مع هذا النص من خلال حركة الأمواج وحركة الأنسام التي أرادها الشاعر وشعرت أنني أنا الذي كتبتها فتماهيت معها ومع صورها وأفكارها وكأنني أرسم لوحة موسيقية أثناء تلحين هذه القصيدة فكانت متميزة ومختلفة وكان لحنا آخر من أجواء القصيدة، فلكل قصيدة خصوصيتها وطابعها الذي يتماهى مع النص”.
ويوضح بهلوان “أنا أغوص في النص الشعري كوني شاعرا ولا ألحن وأضع قالبا معينا لنص شعري وانتهينا، بل أرى أن الأمر أعقد من ذلك، فأنا أطلع على القصيدة ثم أستقرأ ما بها من معان وصور وأحوله إلى ألحان. أما أغنية “زهرة الفلة” فكان يستهويني هذا اللحن دائما، لكن ما كنت أعترض عليه أنه من أوله إلى آخره يدور في حلقة واحدة، أخذت المذهب فقط من الأغنية وجعلت لها مقدمة بهيجة راقصة تتناسب مع غزل الورد وحب الفل وطلبت من صديق شاعر سوري هو محمود ياسين أن يكتب شعرا جديدا على اللحن الإضافي وعملت أغصانا جديدة من حيث تلحين الكلام وإيجاد مقدمات للكوبليهات في بناء مختلف على مذهب موسيقي واحد والذي أردته متماهيا مع الصورة البهية للزهور والورود، وحنين الحبيب ومزج الحب بحب الورد ومزج ذلك بموسيقى راقصة”.
ويحدثنا صفوان بهلوان عن انطباعاته عن الحفل فيقول “الحفل كان جيدا جدا وهذا ما يمكن أن يعرف من خلال تفاعل الجمهور الجميل الذي أعطى لكل أغنية حقها وكأنه يعرفها رغم أنه كانت هنالك ألحان جديدة. فالمتلقي عادة يستمع للألحان الجديدة بحذر ويستمع إليها كأنه يقابل أحدا بحذر إلى أن يألفه. وما قدمته كان جديا وصعب التركيب لأن فيها توزيع موسيقي وهارموني ورغم ذلك تلقى الجمهور الأعمال الجديدة بتفاعل وكأنه يعرفها منذ زمن بعيد واستطرب وتفاعل مع التفاصيل والإيقاعات وكأنه يعيشها، وعندما يستمع إليها مجددا سوف يزداد إعجابه بها وستكون جزءا من معارفه والإنسان يصبح رهينا لما يحب ويعلم”.
أما عن الفرقة الموسيقية وتعاونها معه فيقول صفوان بهلوان لـ”العرب”، “الفرقة الموسيقية كانت متعاونة، وأعضاؤها تعبوا وكانوا سعداء لأنهم شعروا بأنهم في هذه التجربة وكأنهم في ورشة عمل تعمل على تنشيط ذاكرتهم والتحفيز لتحدي الأعمال والقيام بها على أكمل وجه، الألحان كانت جديدة عليهم وفيها من التكنيك ما فيها، وهذا جعلهم متحفزين ومستعدين لتحدي أنفسهم لتقديم العمل على أحسن وجه”.

ويتابع “المايسترو عدنان فتح الله كان متعاونا ومتقبلا لأي ملاحظة يمكن أن ترد، فرغم زحمة العمل الذي قدمه كنت أناقشه ببعض التفاصيل، فأنا موسيقي كثير التطلب والدقة إلى درجة الإزعاج لكنني أحب أن أقدم العمل كاملا وبأقرب صورة من الكمال، لكن فتح الله كان واسع الصدر ورحب التلقي وكان يدون كل الملاحظات التي ترد ولم ينس شيئا منها، وكانت التجربتان ناجحتين ونكاد نكون ثنائيا فنيا مستقبلا”.
بدوره عبر المايسترو عدنان فتح الله عن ترحابه بالعمل مجددا مع الموسيقار صفوان بهلوان، فقال “سعيد جدا بوجودي مع الفنان بهلوان على مسرح دار الأوبرا مع الفرقة الوطنية، الفنان قامة نادرة فهو يمتلك صوتا مميزا، ويعجبنا فيه حرفيته في العمل، يعتني بكل التفاصيل الدقيقة ولا يمر شيء دون رضاه، عنده أمانة عالية في التعامل مع التراث الموسيقي الذي تركه الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، ولقد قدمنا له أعمالا يقدم بعضها لأول مرة على الجمهور، والسبب في هذا كما قال بهلوان إنه لم يكن مقتنعا بالشكل الذي ستظهر عليه من خلال الطروحات السابقة”.
ويضيف فتح الله “العمل مع الموسيقار بهلوان هو بمثابة ورشة عمل سواء ما تعلق بموضوع المعزوفات أو الألحان والإيقاعات والبناء اللحني للعمل، نحن سعداء بالعمل معه وأتمنى أن تكون هذه الأعمال متتالية خلال العام الجميلة لتي ظهرت بشكل جميل بسبب الفرقة التي أشكرها على الجهود التي قدمتها لكي يكون العمل بأحسن حال”.