حسين صالح الذي غادرنا

الكاتب الراحل حسين صالح يمتلك كمّا هائلا من المعلومات المدهشة عن الظواهر والأحداث والأشخاص ويمكن اعتباره من أكثر "الحكائين" حضورا وموهبة.
الأربعاء 2018/10/03
كان حسين صالح يتميّز بأسلوبه الساخر الساحر

كان خبر وفاة الصديق المثقف العراقي حسين صالح خبرا مفجعا بالنسبة إلي شخصيا، فقد ارتبطت معه بصداقة امتدت عبر نحو ربع قرن رغم أننا لم نكن نلتقي كثيرا، لأن حسين كان يقيم في مدينة تبعد أكثر من ساعتين بالقطار عن مدينة لندن.

عرفت حسين صالح عندما خضنا معا تجربة العمل في تلفزيون “بي.بي.سي العربي” عام 1994 والتي انتهت مبكرا عام 1996، كثيرا ما كنا نذهب معا، حيث يمكننا التدخين وتبادل الحديث كلما سنحت الفرصة، في زمن التدخين الذي أقلعت عنه في ما بعد.

وكنا أيضا نتواصل هاتفيا، نتحدث حول كل شيء، وكان حسين يمتلك كمّا هائلا من المعلومات المدهشة عن الظواهر والأحداث والأشخاص ويمكن اعتباره من أكثر “الحكائين” حضورا وموهبة، كما كان من عشاق السفر مثلي، والاحتكاك بثقافات أخرى.

وكان يتميّز بأسلوبه الساخر الساحر الذي لا تكلّف فيه ولا تقعر، وقد شعرت بالسعادة عندما تزاملنا على صفحات جريدة “العرب”، وكنت أنتظر عموده الأسبوعي الذي كان يعبّر فيه بتلقائية وصدق، عن مشاعره تجاه ما يحدث في العالم، وكثيرا ما كان يكتب ساخرا من أشياء طريفة خبرها في الماضي عندما كان يعيش في بلده العراق.

كانت آخر محادثة هاتفية بيننا قبل أكثر من شهر من وفاته، وكنت قد أرسلت إليه نسخة من كتابي الصادر في أدب الرحلات، وبعدما قرأه اتصل بي متهللا وأخذ يستفيض في امتداح الكتاب والثناء عليه والتعليق على بعض ما ورد فيه من طرائف ويزيدني فوقها من عنده أيضا، وقد شعرت بسعادة غامرة لإحساسي أنني ساهمت في التحليق به خارج عزلته التي كانت قد فرضتها عليه حالته الصحية، بعد أن أصيب بمرض أدى إلى بتر إحدى ساقيه وأبقاه عاجزا يجلس على مقعد متحرك ويتواصل مع العالم عن طريق القراءة ومشاهدة التلفزيون.

من الجدير بالذكر أن حسين كان أيضا من أكثر من عرفتهم قربا من الواقع المصري والحياة المصرية، بل و”الحالة المصرية” بأسرها، وكان محبّا عاشقا لمصر وثقافتها وتاريخها، وناسها، وكان قد قام بزيارات عديدة شبه سنوية إلى مصر، حتى أصبح يجيد اللهجة المصرية بمفرداتها الشعبية كأي مصري، كما كان يرتبط بصداقات وطيدة مع عدد من المثقفين من الكتاب والشعراء والفنانين التشكيليين المصريين.

وكان دائما ما يتذكرهم بالخير ويثني عليهم في أحاديثه معي، خاصة في الفترة الأخيرة بعد أن حرمه المرض من الذهاب إلى مصر، ولكنه كان مطلعا على كل ما يحدث من مستجدات على الساحة المصرية، بقدر ما كان خبيرا في نمط الحياة الإنكليزية.

كان حسين صالح في ولعه المصري هذا “مصري الهوى”، وكان ينتقد ويغضب ويثور على ما تتعرض له مصر من مشاكل ومعوقات، لكن كل ما كان يقوله كنا نحن أيضا نردده ونقول أكثر منه وأشد عنفا، أي أن غضبه على ما يحدث في مصر كان يعكس حبّا جارفا ورغبة في أن تستعيد مصر وطبقتها المثقفة تحديدا، دورها التنويري.

وقد أنتج حسين سلسلة من البرامج لحساب قناة “الجزيرة الوثائقية” في زمن مضى، حلقات عدة عن ظاهرة الشيخ إمام ورفيقه الشاعر أحمد فؤاد نجم، وكان يحفظ الكثير من أشعار نجم ويتوقف أمام كلماته وتعبيراته الشعبية العجيبة ويهتف في انفعال طفولي “انظر ماذا يقول هذا الصعلوك العبقري؟”.

كان حسين صالح مدخنا شرها لم يفلح قط في الإقلاع عن التدخين، وكان المرء إذا ما اقترب منه يمكنه أن يشم رائحة التبغ تصدر من شعره وملابسه من كثرة التدخين، ولم أكن أعرف أنه أصيب مؤخرا بمرض سرطان الرئة اللعين الذي انتشر بسرعة إلى أجزاء أخرى في جسده ووصل إلى الحنجرة وأدى إلى عجزه عن الكلام في أواخر أيامه.

رحم الله حسين صالح.. ذلك الإنسان الجميل النادر، ألف رحمة.

16