حسين جلعاد: في الأدب لا توجد محاكمات بل حوار ومراجعات

الخلاف الأجناسي بين كتابة الشعر أو السرد وغيرهما يبدو عقيما، خاصة إذا كان الكاتب واعيا بالحدود بينها وممارسا كلا منها بروح مختلفة، على غرار الكاتب والشاعر الأردني حسن جلعاد الذي يكتب بوعي حاد القصيدة، كما يكتب القصة بروح مختلفة أما المقالة الصحفية فلها عنده شروط مختلفة عن الإبداع. في حواره لـ”العرب” يكشف جلعاد الكثير من رؤاه وأفكاره.
بعد ديوانيه “العالي يصلب دائما” و”كما يخسر الأنبياء” اللذين كشفا عن فرادة صوته الشعري، وخصوصية نسيجه التشكيلي على مستوى بنية القصيدة ورؤيتها، توقف الشاعر والكاتب الأردني حسين جلعاد طويلا، ليعود أخيرا لكن عبر مجموعة قصصية “عيون الغرقى” الصادرة مؤخرا عن المؤسسة العربية.
تتماس نصوص المجموعة القصصية مع روح جلعاد الشعرية لتضفي على الجملة السردية أبعادا عميقة في دلالتها، وذلك انطلاقا من عناوينها على درجات السلم الموسيقي “دو: أسرار معلنة، ري، مي”، “فا: الإسفلت والمطر”، و”صول: كائن سماوي”، و”لا”، “سي: أربعة جدران وباب”، و”المساء يطير غربًا”، و”الخريف والشبابيك القديمة” (وهي قصة في ستة مشاهد: نعناع المصاطب، خمول متحرك، قال الحلم له، نزار وحده، شبابيك قديمة وآخر اللوحات)، وآخرها “دو: والبحر ينام أيضا”.
الشعر والقصص
يؤكد جلعاد أنه ربما توقف عن النشر، لكنه لم يتوقف عن الإبداع، ويضيف “المبدع لا يتوقف عن إبداعه، بل تحدث معه مساحات من التأمل، وإعادة التفكير خصوصا أن جيلنا عاش أكبر تحولات شهدها الوطن العربي في العقود الأخيرة. يحتاج المبدع إلى الوقوف للتأمل، خصوصا أننا مررنا بمرحلة تحولات فكرية أخذت مني وقتا في مراجعة رؤيتي وزاوية اصطفافي ومكاني في هذا العالم”.
ويواصل قائلا “في السنوات العشر الأخيرة انقلبت خرائط بلداننا، سقطت أنظمة وخُلع زعماء ورؤساء. طبقات بأسرها انزلقت بل وربما محيت من الوجود، كما أن اللجوء فعل أفاعيله في شعوبنا، لقد تغير وجه التاريخ بعد أن تصدعت الجغرافيا في هذه المنطقة. وبعد كل ذلك، ألن نصاب نحن بالذهول؟ أو بالخيبة؟ ألن يكون ثمة ضرورة للتوقف واستيعاب كل ما جرى وإعادة تركيب قطع الأحجية لنرى الصورة كاملة؟”.
ويتابع “من خلال عملي الصحفي، كنت مندغما بشكل ما في كل تلك الأحداث التي جرت، سواء الربيع العربي أو ما تلاه من ارتجاف وهجومات مضادة. وهذا جعلني أراقب تفاصيل التفاصيل، كنت مشغولا بالراهن واليومي حتى أذني، ولكنني أيضا كنت أحاول أن أعيد ترتيب رؤياي عبر الكتابة الإبداعية المرافقة، فالفعل الصحفي هو متابعة محترفة ومحايدة وموضوعية للأحداث، أما الكتابة الإبداعية فهي تحدث في موازاة اليومي لتفهم الصورة الأعم والأشمل ومن ثم استشراف المستقبل أو مآل الأشياء”.
ويضيف جلعاد “لطالما كانت رؤيتي أن الشعر والسرد نهران ينبعان من مصدر واحد، ويتنزل الكلام في وعائه الإبداعي وفق الضرورة الفنية. ولم تكن الكتابة السردية أو النثرية بعيدة عني، فرغم أنني بدأت شاعرا فإنني كنت ناثرا أيضا، ولعل هذا يبرز في كتاباتي غير الأدبية وعملي الصحفي، كما أن مظهرها الشعري هو انحيازي إلى القصيدة الأحدث في مسيرة الشعر العربي وهي قصائد الشعر الحر ثم قصيدة النثر. إن الشعر كائن رقيق ونخبوي في مبناه ومعناه، وهو غيور أيضا، ولعل هذا يجعله أحيانا غير متسع للحكي والاسترسال، الشعر بارق ومختزل ومكثف، ولهذا تحتاج السرد والقصص لتكتب الأفكار الاجتماعية وصراعها وتحولاتها، خصوصا أنني من المؤمنين بأن الكلمة قضية، وأن للمثقف دور اجتماعي وحضاري”.
وحول روح الشعر التي تشكل نصوص قصص مجموعته “عيون الغرقى” لغتها وصورها ورؤاها، انطلاقا من عناوينها، نسأل جلعاد هل كانت النية نصوصا شعرية؟ ليجيبنا “لا قطعا ليس هذا هو المقصود. لكل فن أدواته الخاصة. السرد له مجرى مختلف عن الشعر، والفن القصصي قائم على بناء منطقي وعقلاني مفكر فيه، وليس انثيالا لتيار الوعي أو اللاوعي كما يحدث في الشعر. في الشعر أنت تتحدث من قلبك، الشعر يكتبك ولا تكتبه. أما في القصة فإن العقل هو الذي يرسم حدود المفكر فيه، في القص أنت موضوعي: ترى وترصد وتنقل حياة شخوص مختلفين عنك. أنت تتحدث عنهم وليس عن أناك أو ذاتك. ولهذا تكون لغة القص مختلفة عن لغة الشعر. كتابة القصة فعل قصدي مفكر فيه أنت تنشئ حيوات مستقلة عن ذاتك، أما في الشعر فإنك قلبك يلون العالم، تضعك بصمتك الخاصة التي لا تشبه أحدا ولا تحكي حكاية سوى تغريبتك الخاصة”.
ويكشف جلعاد “علاقتي بالشعر مثل علاقتي بنفسي. الشعر يهوى السير في الطرق الجبلية المتعرجة لكنه دائما يتقدم إلى الأمام. وفي أزمنة التحولات الاجتماعية والسياسية، يكون الصخب عاليا، فينخفض منسوب البوح الشعري. التحولات الكبرى قد تتسع للبيانات السياسية والشعر الخطابي، وقصيدتي في ضفة أخرى تتحرك في التفاصيل من جهة، وفي النوازع الإنسانية الوجودية من جهة أخرى. بالنسبة لي ينتمي الشعر للخالد الأزلي، لأنه حوار الإنسان الداخلي.الشعر بالنسبة إلي رؤيا بكل ما فيها من استبصار للنفس ولسياقاتها الخاصة والعامة. ولقد كانت حصيلة الفترة الماضية مخطوطتان شعريتان سوف تصدران لاحقا، فيهما بوح واشتباك”.
وفي ما يتعلق بمجموعة “عيون الغرقى” وإلى أي مدى تداخلت الذكريات ووقائع الحياة الذاتية مع أمكنة وشخصيات بعض القصص، خاصة شخصية المثقف الفنان التشكيلي، يرى أن “هناك تداخلا ما قطعا، لكن الشخصيات منفصلة عني، هم شخوص صنعتهم على شاكلة ما رأيت وعرفت. الشخصيات تنتمي إلى بيئات مختلفة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فمنهم من يعيشون في الأرياف المهمشة ومنهم أبناء المدن الكبرى، وبين هؤلاء أيضا طلاب ومشردون ومثقفون وأميون. إن ذكريات المبدع ووقائع حياته تكون حاضرة في وجدانه وهي حتما لها أثر في الصناعة الأدبية، لنقل إن المبدع في هذه الحالة مثل النحل، يمتص من كل زهرة رحيقا ليصنع منتجا خاصا ومميزا ومختلفا عن المكونات الأصلية الأساسية”.
وينفي جلعاد أن يكون حاكم نفسه كمثقف من خلال شخصية عدنان أيوب، أو أنه حاكم الوضع الثقافي الراهن عربيا، ويتابع “في الأدب لا توجد محاكمات، بل حوار ومراجعات، نظر وتشريح تحت الضوء. بخصوص شخصية عدنان أيوب فما قمت به هو أنني أضأته من الداخل، لقد وضعت تاريخه وقلبه وجنونه على الطاولة، وفعلت ذلك بنوع من الحب، ربما كنت متعاطفا معه لأنني اهتممت بجميع تفاصيله. لا شك أنني من خلال عدنان ورفاقه المثقفين قد عرجت على جوانب متعددة في الوضع الثقافي، وربما أشرت إلى كثير من السلبيات السلوكية والثقافية. وأعتقد أن ذلك جزء من سيرورة الأدب، فهو يرصد حياتنا وأحوالنا في جميع تقلباتها ومنعرجاتها”.
المثقف الكسيح
يشدد جلعاد على أن العشرية الأخيرة شهدت تطحلب أنواع عدة من “الكتابة الشعرية”، لقد فعلت وسائل التواصل الاجتماعي فعلها في حياة الناس وفي ما يكتبون وكيف يفكرون ويحيون. الفيسبوك منح الجميع وهما مخدرا مفاده أنهم قادرون على الكتابة، فظهرت كتابات الموقع الأزرق (فيسبوك) وكأننا نعيش في مجتمعات الشعراء. كل من يمتلك هاتفا ذكيا أصبح يعيش في فقاعة منعزلة ويعتقد أنه كاتب أو شاعر. المثير للسخرية والشفقة أن لغة الكتابة طغت فيها العامية على الفصيحة. إنهم يكتبون كما يتحدثون أو يثرثرون، لا فاصل بين الشعري والشوارعي.
ويتسأل جلعاد “لكن هل مات الشعر؟” ويجيب “قطعا لا. الشعر ما يزال يحيا، نحن أمة شعرية. هذا سياق ممتد لآلاف السنوات يخضع لعوامل الحت والتعرية لكنه أيضا يعيش مثل واحة في عمق الصحراء. وسط كل ذلك، هناك أزمات مزمنة يعاني منها الشعر العربي المعاصر، وهي الصناعة والقراءة. فمن جهة الصناعة أصبحت حظوظ الشعر قليلة في النشر والانتشار، لا أكاد اذكر مؤسسات أو دور نشر تتخذ من نشر الشعر قضية لها كما كان الأمر في العقود السابقة. أما المشكلة الأخرى فهي عزوف الجمهور عن الشعر، وهذا نلمسه في ندرة حضور الأمسيات وكذلك في انخفاض نسبة مبيعات الدواوين الشعرية قياسا بفنون إبداعية أخرى”.
وعن المشهد الثقافي العربي ودور الثقافة والمثقفين فيه، يقول “يطيب للكثيرين التغني بمقولة غرامشي حول المثقف العضوي، لكن هذه أمنيات وتهويمات. المثقف العربي كسيح في واقع بائس، فمن جهة يكاد تأثيره في المجتمع يكون منعدما، ومن جهة أخرى هو في مواجهة خاسرة مع الأنظمة، فلا هو قادر على بناء هياكل مستقلة تدير دفة المجتمعات ولا هو قادر على نيل استقلاله الذاتي بسبب الأجهزة التي تضيق عليه مساحات العيش والتنفس”.
الكتابة الفيسبوكية طغت فيها العامية على الفصحى فنجد الكثيرين يكتبون كما يثرثرون بلا فاصل بين الشعري والشوارعي
ويتابع “الأنكى من كل ذلك أن البعض سار إلى المقصلة بإرادته، فهناك تيارات فكرية واسعة سقطت في امتحان الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، لقد انحازت تيارات تزعم اليسارية والتقدمية إلى الطغيان والصنمية المهترئة، فخرجت من الحياة والتاريخ. تحول هذا النوع من المثقفين من مشاعل تضيء دروب المجتمعات إلى مخبرين وعسس وجلاوزة. المشهد الثقافي العربي مجزأ ومهترئ وغير قادر على تلبية متطلبات الوعي الحضاري، هو فقط نوع من الديكور والعلاقات العامة لأجهزة الأمن وبيروقراطية الدولة العميقة. أما المنشقون والخارجون عن الروايات الرسمية فهم قلة، نجوم بعيدة، وعشب ينمو على صخر”.
ويرى جلعاد أن “الشعراء إجمالا كائنات حساسة تحمل أعصابها فوق جلدها، وهم بالتالي عرضة للتأثر بما يجري ولا يجري حولهم بانفعالية أعلى منسوبا من الآخرين. ويحدث دائما أن يعود الشاعر إلى نفسه لأن إبداعه يصدر عن منطقة تأملية خاصة وبعيدة لا يصلها أحد بعده بمجرد أن يغلق النافذة دون العالم، ويجلس في الزاوية كي يتنفس. ولكن قد يحدث أحيانا أن الكائن لا يعود من هناك، فلا يستعيد اجتماعيته، وقد يعلق البعض فلا يعودون أبدا؛ لذلك نرى بعضا من الشعراء غائبين عما هو معاش، لأنهم رأوا صورهم في المرايا فبهرهم النور، ولم يعودوا يرون سوى ذواتهم، وهنا تبدأ مأساة نرسيس في عشق الذات ولعنة الاكتفاء بها، وقد يحدث عندها أن الشاعر لا يمتلئ إلا بماء نبعه، فيسقط في الركود واعتلال النفس”.
ويتابع الشاعر والكاتب الأردني “كما أن للمسألة وجهها الفكري والسياسي والمعرفي أيضا، فقد يختار بعضهم التعالي عن الواقع بدعوى الطهرانية الشعرية أو الفنية، كي لا يتلوث بما يراه راهني وأقل مستوى من ‘نورانية’ إبداعه. على أن كل ذلك في المحصلة هو موقف يختاره الشاعر، وليس بعيدا عن معتقداته الذاتية والفلسفية والسياسية، وقد يزعم البعض أنه أكبر من انحياز الأيديولوجيات، إلا أن ذلك يبقى انحيازا بحد ذاته، وفي المحصلة فإن الانسحاب وعدم اتخاذ موقف هو موقف بحد ذاته أيضا”.