حسين السلمان: سينما ما بعد 2003 والدة حقيقية لحركة سينمائية عراقية

ما بعد 2003 واحتلال العراق ظهرت تجارب سينمائية جديدة في البلد الذي تسبب له الاحتلال وسقوط النظام السابق في حالة فوضى غير مسبوقة، ولكن رغم الواقع الدرامي بكل تحولاته المأساوية، فقد نجحت مجموعة من الشباب السينمائيين في خلق حركية جديدة للسينما العراقية، مقدمين أعمالا تتفاوت في قيمتها، ولكنها تتشابه في سعيها للتأسيس لمشهد سينمائي حر وذي جودة.
هل امتلكت الأفلام العراقية ما بعد 2003 وتحديدا الروائية القصيرة سمات خاصة بطبيعة الأفلام؟ هل تشترك أفلام هذه المرحلة كلها في نوعية خاصة لطبيعة الأفلام الروائية؟ وهل تشترك أفلام هذه المرحلة في مميزات ذات محدودية في الخواص؟ هل هناك من عوامل مشتركة تجمعها أو تفرقها؟ هل هذه الأفلام تمتلك في داخلها ما هو فيلمي سواء جاء لغويا، دراميا أو دلاليا؟ هل يشكل ظهورها كصورة سينمائية من البناء الصوري؟
هذه التساؤلات مثلت محور النقاش الذي خاضه الناقد السينمائي العراقي حسين السلمان في كتابه “الخطاب السينمائي بين النظرية والتطبيق تطبيقات في الفيلم العراقي” حول تحولات الفيلم العراقي في الفترة التي أعقبت 2003.
سينما لصيقة بواقعها
يرى السلمان أن التحولات العاصفة الحاصلة في طبيعة المجتمع العراقي ما بعد 2003 من حيث التعامل مع الواقع كزمان وكمكان كان لها تأثير قوي، أحدث منعطفات شائكة. فالمتغيرات جاءت مدوية لتحدث فجوات واسعة وعميقة من تضارب وتعارض الكثير من الأشياء مثل انهيار العديد من الموروثات التقليدية وبعض الثوابت المجتمعية، فانتقلت جملة كبيرة من الأسس الاجتماعية إلى ممارسات منفلتة مما أدى إلى التشظي داخل الكينونة الاجتماعية للواقع العراقي، كما أنه أوجد حالات مرضية سلبية المحتوى في الغالب “هي حالة الانكفاء على النفس سواء على المستوى الفردي أو الجمعي” خاصة الجماعات الصغرى في المجتمع “من الجانب العرقي والديني” الطائفي الفئوي.
وهذا سمح، وفق الناقد، بظهور حالات التمرد والرفض وتشكيل وجهات نظر أو تصورات متغايرة مع ما هو سائد من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، فإنسان القرن الحادي والعشرين الذي يعيش جزءا من حياته مرتاحا في الفضاء الإلكتروني في العوالم الافتراضية، أصبح معتادا على طبيعة اقتصاد الشبكة، وصار أقل اهتماما بتجميع وتكديس الأشياء وأكثر اهتماما بخوض تجارب مثيرة ومسلية، وأضحى قادرا على التفاعل في عوالم متوازية بصورة متزامنة، وقادرا على إجراء تغير سريع على شخصيته لتتفق مع الواقع الجديد الذي يفرض عليه، سواء كان الواقع تماثليا أو حقيقيا، هذا لإنسان يعتبر مفصولا عن آبائه وأجداده الذين عاشوا العصر الصناعي.
ويتابع أن حركة الشباب السينمائيين في العراق رافقتها جملة واسعة من الإشكاليات وهي إشكاليات تدميرية لأنها كانت عائقا كبيرا أمامهم، منها عدم وجود قاعدة مادية تقنية سينمائية، فقدان كل أشكال العمل السينمائي خاصة وأن الإنتاج السينمائي قد توقف بشكل نهائي، ومنذ سنوات عديدة، وعدم وجود صالات عرض وغياب مؤسسة حكومية أو أهلية تعنى بشؤون السينما.
ويقول حسين السلمان “حين أقدم المخرج محمد الدراجي على الشروع في فيلم “أحلام” أصيب الكثير بالدهشة والاستغراب وربما صدرت بعض من حالات الاستهزاء، خاصة وأن العمل بدأ في وقت كان فيه الموت ينتشر في كل مكان في العراق. فلم يكن في اعتقاد الكثيرين إمكانية قيام عملية تصوير فيلم، خاصة وهو روائي طويل فيه العديد من العاملين من فنيين وتقنيين وفيه الكثير من مواقع تصوير. كان الاعتقاد السائد هو نهاية كل الأحلام في نهوض وطن، فكيف يمكن التفكير بنهوض الفن السينمائي الذي كان في الأصل متعثرا. واضح أنهم سقطوا في خطأ كبير في فهم أهمية هذا الإقدام على تصوير الفيلم. وجاء الرد سليما لأن حركة الفن قادرة على استنهاض شعب ووطن مثلما هي قادرة على استنهاض نفسها”.
ويوضح السلمان أن سينما ما بعد 2003 هي والدة حقيقية لحركة سينمائية عراقية في لحظات تاريخية متأزمة، هي حركة انبثقت من الشعور بالحرية والثقة بالنفس، ولدت من لحظة الشعور النبيل بضرورة العمل ضمن الحالات والإمكانيات المتاحة، وأنها حركة تعبيرية اختزلت كل الدمار الذي لحق بالعراق منذ حرب الخليج 1980 حتى حرب الإرهاب التي ما تزال قائمة حتى الآن. وقد تميز شباب هذه الحركة بشعورهم الكبير بخيبة المجتمع وانكساراته، إلا أنهم لم يخشوه لأنهم أصبحوا جزءا من كيانه. لذلك جاءت أفلامهم عبارة عن محاولات إنسان متحرر لتحقيق حريته الفنية والسياسية من خلال السينما، لأنها ـ أي السينما ـ ولدت من رحم زمن مضطرب في وطن محتل وفي ظل نظام سياسي مجهول.
ويلفت الناقد إلى أن متغيرات عديدة حدثت في طرق وأشكال العمل السينمائي، وهذه لم تأت اعتباطا وإنما جاءت نابعة من صراع مرير لها في البناء الاجتماعي والمعرفي الذي ساد المجتمع ما بعد 2003، وترك آثاره على مجمل الأنساق السائدة والقائمة في المجتمع سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وقطعا ترتبط بالقضايا الفكرية والفنية.
وحين شرع الشباب بالعمل كانت الفرصة مواتية لأسباب كثيرة منها الفسحة الكبيرة من الحرية وإن كانت تحت خيمة الاحتلال، وإن كانت مصحوبة بالفوضى، إضافة إلى ذلك يمكن أن نشير إلى أن العمل لم يكن خاضعا لمتطلبات واشتراطات العمل الإنتاجي للأستوديوهات أو الشركات أو المؤسسات الحكومية. فالعمل بعمومه يتسم بالروح الشبابية المتوثبة الرافضة أساسا لتلك المقاييس السابقة لما قبل 2003 والتي كانت تتحكم بها الدولة عموما.
الشباب أنتجوا أفلامهم بطريقة تمتعت بشيء وافر من الحرية بعيدا عن هيمنة السلطة أو جهات الإنتاج
لذلك اتسمت الأفلام الأولى بالتعبير الشخصي والإنتاج الشخصي والاهتمام بإنتاج أفلام يمكن لها أن تؤدي بعضا من وظائفها مع مواصفات جديدة بعض الشيء لاحتوائها على عنصر هجوم اجتماعي، اعتقادا من أصحابها بالاقتراب من حقيقة الحياة وحمل رسالة نقدية للحقائق الصغيرة للإنسان العراقي من خلال عرض الحياة اليومية، وهذا ما أكد أن السينما أصبحت قريبة الصلة بالإنسان وذات علاقة أخلاقية مع المجتمع.
يؤكد السلمان أن غالبية الأفلام المنتجة في هذه المرحلة ما بعد 2003، باستثناء أفلام إقليم كردستان، هي أفلام تنتمي إلى روحية الشباب ومحاولاتهم التي كثيرا ما تكون غير محكمة في طروحاتها وتصوراتها، فهي آراء عامة لا ترتقي إلى ما يجب أن يقدمه السينمائي في هذه المرحلة الخطيرة والمصيرية. إنها أفلام تعيش حالة تضاد معرفي فيما بينها، كما أنها تشتبك مع مفاهيم غير قادرة على مناقشتها في زمن قصير لأفلام قصيرة لا تحتمل مثل هكذا أفكار كبيرة، إضافة إلى نقص في الرؤيا وضعف في التحليل والتصور بفعل عدم وضوح الأفكار والمبادئ التي ينطلقون منها.
كما يلاحظ أن تلك الأفلام تشترك في حالة واحدة وهي تتشابه وتتقارب في مصادرها المعرفية وهذا أبعدها عن سيرورة التنوع والتشعب الذي يجعل من العمل متجددا ومتنوعا اعتمادا على التنويعات الفكرية والفنية التي ينطلق منها صانع الفيلم.
ويبين أن هذه الملاحظات تخص بعض الأفلام التي أنتجت مباشرة بعد 2003. لكن بلاشك تخضع كل تجربة وكل مرحلة إلى عقبات وإخفاقات يمكن الاستفادة منها من أجل إرساء قواعد جديدة لانطلاق تلك التجربة. ويجد أن مرحلة ما بعد 2003 تملك تلك المواصفات وباستطاعتها أن تشكل قاعدة متينة لبناء حركة سينمائية قادرة على الارتقاء إلى مستويات متقدمة في الفيلم العراقي، وهذا ما تؤكده الكثير من الأفلام القصيرة المتماسكة، التي هي تمرين متقدم لأفلام طويلة ستكون لها مكانة هامة يمكنها إرساء قواعد لسينما عراقية في المستقبل القريب.
تجارب الشباب
في إطار تطبيقاته التحليلية يناقش السلمان العديد من الأفلام، حيث رأى في فيلم “سلايد” للمخرج مالك عبد علي، أنه فيلم قائم على الإيحاء الذي جعل السينما تمنح نفسها قدرة مدهشة للتعبيرالإبداعي تفوق بقية الفنون الأخرى. هنا العناصر في فيلم “سلايد”، تكاد تحمل كلها ما يتجسد على الشاشة من معنى ومن دلالة. وهذا لم يتحقق ببساطة وسهولة إطلاقا، فهو جاء وليد تشابك جملة من العمليات الخاصة بالتفكير والتدقيق وكذلك الوعي والثقافة المتجسدة في عملية الخلق لهذه العناصر السينمائية. وهنا تتألق الصورة بسلطتها الجبارة التي تنتج لنا الأفكار، إنها قادرة على إحداث العديد من حالات الغضب والاستياء والفرح والراحة والاطمئنان داخل النفس البشرية.
ويرى أن المخرج لؤي فاضل خلق من فيلم “عرض حالجي” احتمالين يلتقيان بذات الرؤيا لكنهما يختلفان في التقديم والعرض، وفي الاحتمالين يقول لنا “كل شيء قد انتهى.. ما من سبيل إلى خالص معين.. كل شيء يعاد.. كل شيء يتكرر، إلا أنه لم يأخذ قراره سواء كان حلوا أو مرا”.
ويلاحظ السلمان أن الكاتب مصطفى ستار الركابي في فيلمه “بندقية الشرق” الذي أخرجه بهاء الكاظمي، يدرك مهامه في القص، فهو يضبط أدواته طبقا لمتطلبات السرد الصوري، وهو في غالب كتابته الجيدة يميل إلى بيان قدرة الصورة في تلخيص أعقد الإشكاليات وأصعب المواقف الدرامية، لذا فإنه يتفاعل مع عملية تفكيك الحدث وتطويع عناصره لتكون أدوات فاعلة في العملية الحكائية.
غالبية الأفلام المنتجة في مرحلة ما بعد 2003، باستثناء أفلام إقليم كردستان، هي أفلام تنتمي إلى روحية الشباب
يتمتع فيلم “بندقية الشرق” بعاطفة إنسانية خالصة، النبل كتعبير عن تداخل الأحاسيس والمشاعر الإنسانية التي تتمثل بتطور شخصية الطفل من شخصية سلبية التفكير “طبقا للموروث الفاسد” إلى إيجابية العلاقة الإنسانية التي وصلت حد تلاقي الأرواح، وهو يضع رأسه على صدر اليهودي الذي يحتضر. في هذه الأجواء والفضاءات المغلقة نعيش تجربة نفسية غاية في التعقيد خاصة في عنصري القص والإخراج، لأن الوحدة الأساس التي تم بناء الحدث عليها هي: كيف يستجيب الواقع لهذه الحالة؟ وكيف تتم عملية نقل الأحاسيس والتعابير للقرارات الإنسانية؟.
ويضيف أنه من زاوية أخرى يميل المخرج يحيى العلاق إلى تغليب الروح التسجيلية على أفلامه. وقد ظهر ذلك جليا في أفلام “كولا” و”اسمي محمد” و”خزان الحرب”، وهذه السمة منحت أفلامه طريقة خاصة في التقديم والعرض، فهو غالبا ما يعتمد على حدث بسيط، لكنه مليء بشحنات إنسانية كبيرة، فيقدم شخوصه من دون تعقيدات سواء في البناء الدرامي أو في تكامل نموها.
ومن الجوانب الجميلة التي تحسب له اهتمامه الكبير بعملية التركيز في معادلات التكرار في اللقطات، مثلما حدث في فيلم “خزان الحرب” حيث أعاد لقطة العلم العراقي لمرات عديدة كتمهيد أولي للوصول إلى ذلك الترابط الذي أوجده من خلال نظرات الطفل الأخرس وهو ينظر إلى العلم، وكأنه يرجوه أن يفعل شيئا، أن يقدم أمرا ما من أجل إنقاذ حياته المعذبة، نرى هذا الفعل متجسدا بعد ذلك في المشهد الجميل للطفل وهو يجري هلعا يبحث عن خزانه النفطي الذي سرق من أمام أحد المحلات، والآن فقده في الحافلة. لقد ظهر المشهد مقنعا بتلك اللقطة العامة حيث هياكل الحافلات الكبيرة مقارنة مع حجم الطفل الصغير في ذلك الممر الفاصل بين الحافلات. إن المتكررات هنا جاءت عبر علاقة وطيدة الصلة مع الحكاية الواقعية للفيلم وكذلك جاءت مدعومة وبقوة السياق الدرامي للفيلم.
ويؤكد السلمان أن أفلام الشباب تضعنا أمام حقائق كبيرة تجعلنا أكثر ثقة بها ونشعر بتحولاتها إلى شهادات على الواقع العراقي بكل ما فيه من وجع ودمار. إن هذه الشهادات تتنوع بمقدار مقبوليتها من فيلم لآخر، هل يمكن أن نختلف مع فيلم “أغمض عينيك…جيدا” للمخرج علي البياتي، وهو يحلل واقعا مريبا مذهلا، وهل يتعارض فيلم “عيد ميلاد” للمخرج مهند حيال مع الواقع الطفولي الذي تكاد تنقرض فيه الضحكة العالية والفرح والحنان، وهذا يتزامن مع الواقع المؤلم والمأساة التي تتجسد في فيلم “ليلة دافئة” للمخرج أيمن الشطري، وهذا العنف المرير في فيلم “الشيخ نوئيل” للمخرج سعد العصامي و”الطريق إلى بغداد” إخراج حسين العكيلي، وهل فيلم “أحمر شفاه” للمخرج لؤي فاضل، لم يعد عنوانا دقيقا لخراب ودمار؟ هل فيلم “تجريد الله” للمخرج كرار موسى بعيد عن قذارة تلك الأفكار التي تسيدت على رقاب الناس ظلما وجورا؟.
كل ما يمكن قوله إن أفلام الشباب أنتجت بطريقة تمتعت بشيء وافر من الحرية بعيدا عن السيطرة والهيمنة، سواء من السلطة أو من جهات الإنتاج، فهذا الأمر يكاد يكون قد انعدم نفوذه بفعل المتغيرات الحاصلة في البناء السياسي والاقتصادي. وهذا كان لصالح الشباب في التعبير بحرية عن أفكارهم. الواقع هنا في هذه الأفلام طيع لدى المخرج حيث يستطيع أن يكشف لنا عبر نظام التسلسل الزمني في نسق من الزمان والمكان، وهو أمر طبيعي وتركيبي في آن يقدم واقعية في تعاقب لحظات ثرية أثناءها تنجز الأفعال وضوحا وتوترا نادرا ما يعثر عليها في الحياة اليومية، إنه الباعث والإيماءة والفعل ورد الفعل والعلة والمعلول، يتم إحضار كل هذه الأمور إلى علاقة فورية ودينامية وكشفية، تصوغ المزج عالما أكثر تركيزا وتماسكا من الذي تصوغه تجربتنا العادية.