حسب الشيخ جعفر.. القارة السابعة

شاعر عراقي فتح الأبواب أمام القصيدة العربية الحديثة.
الأحد 2021/11/28
شاعر له صوتان

يوما ما، في المستقبل سيُنظر إلى الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر باعتباره واحدا من أهم ألغاز القصيدة العربية على مرّ عصورها. فما لا نعرفه عن الشاعر أكبر بكثير مما نعرفه. الرجل الصامت في سيرته اليومية، العاكف على ذاته، قليل الأصدقاء كان قد فضل في وقت مبكر من حياته أن يعيش داخل قصيدته زاهدا بالحياة التي صارت بالنسبة إليه مجموعة من الذكريات التي عاشها كما لو أنه اخترعها. وقد أعادت مجلة “الجديد” مقاربة عوالم الشاعر من قبل عدد من النقاد والشعراء.

لندن - كرست مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية عددها الأخير لشهر نوفمبر ملفا كاملا لتجربة الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر، تحت عنوان “القارة السابعة” أعده الكاتب العراقي عواد علي.

وكان الملف مصحوبا بمختارات شعرية جديدة للشاعر تحت عنوان “مجرات القرون الباردة”. وشارك في الملف نقاد وشعراء عراقيون هم علي جعفر العلاق “كأنّه يمشي على هواء وثير”، حاتم الصكَر “القبض على الأزمنة في دائرة القصيدة”، حسن الخاقاني “الدراما وتعدد الأصوات”، نادية هناوي…

هجره النقاد

كتب الشاعر العراقي علي جعفر العلاق “عرفت حسب الشيخ جعفر، للمرة الأولى، على صفحات مجلة الآداب، وكان ذلك في بداية الستينات، أو في منتصفها كما أظنّ. ولا يزال اسمه يلحّ على ذاكرتي كثيرا كما كان يلحّ عليها آنذاك، في ذلك الزمن الذي لا يزال يلازمني كغبش القرى البعيدة، طريا، ومسيّجا بالضباب”.

وأضاف “كان حسب الشيخ جعفر، وبعبارة قابلة للتعديل ربّما، بعيدا عن شعراء الستينات وقريبا منهم في آن. ولست أعني بالبعد أو القرب إيحاءه الجغرافي، فهذه المسافة كانت بادية للعيان إلى حد كبير على أيّ حال، ولم تكن، كما أظن، تشكل الفارق الوحيد أو الحاسم بين تجربته المتفردة وتجربة جيل الستينات؛ فهي تظل معطى يسيرا، يقبع في الهامش من عالمه الشعـري ولا يمسّ من جوهره شيئا ذا بال”.

ويتابع “تصلح تجربة حسب الشيخ جعفر نموذجا لضحايا مزاجنا النقدي، القابل لأداء وظيفته مقلوبة أحيانا؛ فهذا الشاعـر الممتلئ بذاتـه المرضوضة، والمنقطع إلى تجربته انقطاع المتألّمين الكبار، كان يحظى في مرحلته الأولى بعناية نقدية معقولة، غير أنّ الأمر لم يعد كذلك؛ وكأنّ النقاد لملموا شباكهم فجأة، وانصرفوا عنه تدريجيّا واحدا تلو الآخر”.

متسائلا إن كانت لهذه الحالة صلة ما بالبوصلة النقديّة التي تتوجه، في كل حقبة، وجهة فنيّة أو تقنيّة محددة، كالتركيز على نمط شعريّ دون سواه، قصيدة النثر مثلا؟ أم أن الأمر يتعلـق بمـؤشرات أيديولـوجية، تدفع بعض النقاد إلى تشمم قصائد حسب الشيخ جعفر الأولى، لا بحثا عن جماليتها العاليـة، بل عمــا يـوقظ فيهم شهواتهم العقائدية المخبوءة؟ أو أن الأمر يتصل بمــؤهلات شخصيّـة، أو مواهب تقع خارج النصوص أحيانا؟ إن هناك شعراء كثيرين لا يولون الجاذبيّة الاجتماعيّة، أو تسويق الذات عناية كافية، ناسين أن هذه المواهب قد تعود على أصحابها بمردود نقـديّ وفير.

إنّ الشعراء الحقيقيين، كحسب الشيخ جعفر، يجدون أنفسهم خارج هـذه الأجواء تماما؛ فوجودهم الشعريّ، الأعزل إلاّ من نقائه الباهر، يفضح ما في الملتقيات من كذب على الذات، ويكدر ما فيها من مباهج زائفة.

ويذكر العلاق أن الشاعر انصرف إلى تجربته بقسوة وحرص كبيرين، كان يربّي قصيدته، وينمّي نسيجها، ويرقب مساراتهـا بحذر فـذ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان يلتمّ على ذاته، التمام المقرور أمام ناره الصغيرة وهي تهمس في موقده الوحيد. كان يسعى، على الدوام، إلى مبتغاه الحميم، أعني إلى داخله الخاص جدا.

شعرية حسب الشيخ جعفر مستندة إلى غنائيات وتقاليد تعود إلى تمسكه بوزنية خاصة تمثل عصب موسيقاه الشعرية

كان ينمو دائما على مبعدة من الستينات، غائما ووحيدا، دون أن ينخرط في ضجيج هذا الجيل، الذي كان يحفـل بكل شيء، بالمبدعين والأدعياء، بالحالمين والمشاكسين. كان أشبه ما يكون بشجرة تنمو، وتشرئب مهيبة، ومثقلة بالعطايا. وكم كان دالا عنوان مجموعته الأولى “نخلة الله”، حتى ليبدو وكأنه عنوان لحسب الشيخ جعفر نفسه، الذي كان يتنامى ويضيء في عـرائه الخاص، وحيدا كنخلة الله تماما، لا يأخذه الضجيج بعيدا عن ذاته، ولا يفقده البريق الستيني نكهته المميزة.

لقد ألهب قطار الستينات مخيلة الكثيرين، فاختار البعض مقدمته التي كانت تخترق الريح كالحربة، وكان آخرون يتعلقون بنوافذه كالغربان، بينما لم يستطع البعض الثالث حتى اللحاق بعرباته الأخيرة.

ولم يكن حسب الشيخ جعفر، معنيا بأيّ من ذلك كله. كان مهموما بناره الشعرية، يسيّجهـا بالسهر والحيطة، ويوفر لها من الوعي ولوعـة الذات ما يجعلها خاصة وثاقبة.

لا أستطيع أن أتصور حسب الشيخ جعفر في منأى عن ذاكرته، الذاكرة تمثل، في رأيي، معظم البطانة الوجدانية والمعرفية أو السردية للكثير من قصائد الشاعر، كما أنّ هذه الذاكرة تبدو أحيانا وكأنها، في بعض شعره، المعادل الضدّي، للواقع المعيش الذي يتمدد خارج نصوصه. إن الشاعر حين يحضر ماديا في “الآن” و”الهنا” فإن نيرانه الشعرية تشبّ في مكان آخر، وفي زمن مختلف. تندلع “هناك” وفي “ما مضى”. يحدث هذا غالبا وبوتيرة تستدعي الوقوف والتأمل.

الشاعر كان ينمو دائما على مبعدة من الستينات، غائما ووحيدا، دون أن ينخرط في ضجيج ذلك الجيل الحافل بكل شيء

حين كان يقيم في موسكو للدراسة، كانت طفولته الشعثاء، ومشاحيف الصيادين، وأنين الريح بين البردي تؤكد حضورها دائما في قصائده، وكأنّ ثمة نارا نحيلة صافية قادمة من بعيد، لتمدّ الشاعر بدفء الروح ونضارة الجسد في تلك الليالي الفضية القارسة. هل كانت الذاكرة أشدّ ضراوة من خبرة الجسد أو مغامرته؟ لا أعتقد ذلك. لكنني ميال إلى القول إن الذاكرة كانت تشق طريقها إلى قصائد الشاعر بوطأة أشدّ مما ينجزه الجسد من حضور حسّيّ آنيّ، حتى يبدو لي، أحيانا، أن الشاعر كان يرجئ التعبير عن خبـرة الجسد إلى زمن آخر، زمن تنضج فيه الخبرة وتبلغ اختمارها المهلك، بعد أن تتحول إلى ذكرى.

بعد أن عاد إلى بغداد في أواخر الستينات، كان حسب الشيخ جعفر يترك، في الكثير من قصائده، أبواب ذاكرته مشرعة على الجهات كلها، الأمكنة والأزمنة، الأساطير والتقاليد الشعبية، غير أن ذلك كله كان يأتينا مقنعا، غائما، كالهاجس، أو الحلم.

في بغداد، كانت ذاكرة الشاعر، تأخذ مداها في الاغتراف من ماضي الجسد: من فتوحاته الحسية، ومن ملذاته الحارقة بعد أن تحولت إلى خبرة موغلة في الغياب، ولم يعد للشاعر من حيلة غير التلفت إليها ملتاعا.

وربما تمثل تجربة حسب في التدوير إنجازه الأرقى؛ لقد كانت، وفي ديوانه “الطائر الخشبي” تحديدا، محاولة جريئة لكسر رتابة الإيقاع وتماثله في الكثير من القصائد الحديثة. كان التدوير أحد المكونات المهمة في عمارة إيقاعية متموجة وبالغة الثراء، أما عناصرها الأخرى فتتشكّل من تلك الوثبات الأخّاذة بين بحر وآخر تارة، والمزج البارع بين التدوير والمقاطع الغنائية المقفاة تارة أخرى.

غير أننا، وأمام الكلّ الشعري الذي أنجزه حسب الشيخ جعفر، لا نجد أنفسنا إلاّ أمام شاعر من طراز خاصّ، ترك آثارا عميقة في تربتنا الشعرية العراقية والعربية. كان يصنع من طينتها الحارة عالما شعريا يشهد له بالفرادة دائما. ولا ينتقص من منجزه الحقيقي أن منحنى صعوده كان يتعرّض، أحيانا، لانحناءات هنا أو هناك. ولا تضيره أن عملا، من أعماله المتأخرة خاصة، لا يقدم ما يكفي من البراهين على أنه جزء حيّ من مسيرة في منتهى اكتمالها الشعري.

موسقى الشعر

وكتب الناقد العراقي حاتم الصكر ورقته بعنوان "القبض على الأزمنة في دائرة القصيدة" مذكرا بحوار مع الشاعر حسب الشيخ جعفر يقول فيه “في القصيدة الواحدة كنتُ أنتقل بحرّية بين بغداد وسومر، وموسكو والعمارة، بين الأزمنة الغابرة والوقت الراهن، مرورا بالأزمنة العديدة الأخرى”. معتبرا أن وجود حسب داخل تجربة ما عُرف اصطلاحا بالشعر الحر بطريقة الرواد، تتأكد من تعالق أبرز المؤثرات في نصه: ذاكرة ومخيّلة تعملان بتدافع وتقابل وتوال أحيانا. وهذا يفسر في شعر حسب ظواهر رُصدت نقديا.

ويذكر بتميز شعر الشيخ جعفر بتمازج الثقافات دون عقدة أو شعور بالنقص أو الخوف من المثاقفة مع الآخر، من خلال التعرف على أدبه وثقافته وحضارته، والنهل منها لتعميق التجربة الشعرية، ونقلها إلى العربية لتعميق مجرى الشعرية العربية وضخها بروافد جديدة. والسفر الحر عبر الأزمنة والأمكنة امتدادا من اعتقاده بالمواطنة الإنسانية، والعيش في أزمنة متعددة، والعودة من تلك الأسفار إلى بؤر مكانية وزمانية، لها في ذاكرته أثرها الراسخ، هي في الأغلب طفولته وصباه في قرى على حافة الأهوار في  مدينة العمارة جنوب العراق.

ويبين أن محاولات التدوير الشعري السابقة على القصائد المدوَّرة  للشاعر حسب الشيخ جعفر لم تكن تتوقف عند المبرر الفلسفي والفني والموضوعي للتدوير، بل تكتفي بالاهتمام بالشكل السطري، والإيقاع المتواصل في نظام التفعيلة، والمقطعية التي تتسم بها الكتابة بالتدوير.

يقول “حسب ينطلق في كتابة القصائد المدوّرة من قناعة فكرية، تتجسد فنيا وبتواتر واستمرار على الكتابة، بينما انسحبت المحاولات الأخرى وتوقف كتّابها عن تكرار الكتابة بها. وقد كانت قصيدة ‘قارة سابعة‘ في ديوان حسب ‘الطائر الخشبي‘ المكتوبة عام  1969 أولى محاولاته التدويرية، لكنها كانت مدوّرة جزئيا، إذ تخللتها أبيات في أشطار منفصلة أشبه باللوازم بين التدوير، وليست في سطور متصلة”.

ويوضح كيف ترسخت تجربة حسب في “زيارة السيدة السومرية” في الاتجاه إلى التدوير الذي عُرف به في تجارب شعرية متعددة، اعتقادا منه بأن ذلك البناء يوائم ما تتضمنه قصيدته من سفر وعودة للأزمنة والأمكنة، ومحاولة القبض عليها لغويا وصوريا ثم مزجها في النص.

فالتدوير الشعري قائم كلعبة فنية كما سماه حسب في مقابلته المذكورة آنفا لأن “القبض على الزمان والمكان هو لعبة التدوير الشعري، القبض عليهما وتهشيمهما، أو المزج بينهما، أي أنك في الوقت نفسه، وفي البؤرة الشعرية نفسها، يمكنك أن تكون في العديد من الأزمنة والأمكنة المختلفة”، وذلك يفتح أمام الشاعر طرقا مبتكرة، أغنت القصيدة الجديدة من جهة، وميزت الشاعر بخطاب فلسفي يبحث في جوهر التدوير من جوانبه الرؤيوية، والحضور المتعدد في اللحظة نفسها، وهو ما يتعارض مع الاندفاع الغنائي والجيشان أو الهيجان اللغوي والصوري في شعره الأول، والمتأثر بسياقات تجربة الغربة أيام الدراسة في موسكو لسنوات.

الشاعر عمّق فعل التوتر، باستعماله السمع دون البصر، والسمع يسمح للمخيلة بالعمل وزيادة الترقب والخوف أكثر من النظر

وهذا يفسر عودته إلى الغنائيات وإيقاعاتها في شعره التالي لمرحلة القصيدة المدورة، فكأنه أحس باستقرار ما، يوقف ذلك الدوران والبحث والسؤال، فأنتج ذلك الاستقرار اللاحق لمرحلة التدوير دخوله النهائي في تجارب شكلية يغلب عليها اللجوء إلى قاموس تغريبي بسبب تراثية المفردات، واتكائه على سرد الحكايات والأمثولات، مع استعارة شكل السونيتات في هيئتها الخطّية أحيانا كثيرة، لخلق نوع من الانضباط في الهيئة الخطّية للحكاية، وجرسها الموسيقي المناسب للسرد الحكائي وما فيه من شعبوية، حاول حسب أن ينتشلها منه، فأردف كل نظم للحكاية بخلاصة هي بيتان يختم بهما أبيات السونيت الأربعة عشر.

لا تزال قراءة المدوَّرات من قصائد حسب الشيخ جعفر بعيدة عن مقاربة المشغِّلات الفلسفية للتجربة، ليس لأن الدوران الفكري مرتبط باختلاط الأزمنة والأمكنة: قديمة ومعاصرة، ما انعكس على البنية السطرية للمدوَّرات. ولكن لكونها تغاير ما عرف عن شعرية حسب المستندة إلى غنائيات وتقاليد تعود إلى تمسكه بوزنية خاصة وتقفية، تمثلان عصب الموسيقى الشعرية لديه. أما في المدوَّرات فقد لجأ إلى ضرب من الاستمرارية السطرية التي توجب على القارئ أيضا أن يواصل القراءة دون توقف، مسافرا عبر هذه التنقلات الزمنية والمكانية، والصور التي تتمازج، محققة ما يصبو إليه من تمازج الزمان والمكان، كخطوة لاحقة على محاولة القبض عليهما في مرحلة القصيدة المدورة.

نقديا تم استقبال تجربة التدوير بحذر، ولم تستوعب أغلب ما اطلعنا عليه من مقاربات تلك التجارب، وما كان حسب يفعله بأزمنة القصائد وإسقاطها على الأمكنة والشخوص. وانتبهتْ أغلب القراءات إلى التمدد السطري في مدورات حسب، واستمرارية الجملة الشعرية، ولكن دون تأويل مغزى الدوران الفني والفكري، وما يتطلبه جماليا في القراءة.

يتبين لنا أن تجارب حسب في القصيدة المدورة التي استغرقت عدة دواوين سبعينية، وتوقفت بصدور ديوانه “أعمدة سمرقند” المكرس للحكايات المنظومة، كانت اختيارا شعريا استراتيجيا لا يتصل بتحويل بنية الجملة الشعرية من الشطر إلى السطر المتصل بسواه، بل هو موقف من الزمن ومحاولة أسره في قصيدة، تأخذ حركتها حرية تامة في الذهاب إلى أزمنة وأمكنة مختلفة.

وتولدت نصوص القصيدة المدورة من إحساس الشاعر بأهمية السرد بدوران زمني ومكاني، ونزعة حكائية ستقوده إلى التجارب الوزنية اللاحقة، ومما يتأثث به الحس الزماني والمكاني من تفاصيل؛ كالشخصيات والمسميات والمراحل العمرية المختلفة. ونلاحظ اقتراب هيئة القصيدة المدورة من النثر شكلا وبنية، وإن حافظت على الوزنية التي تفتت موسيقى تفعيلاتها ما يقترحه التدوير المتصل والسطرية من إيقاع خاص، يتمدد من البنية الفنية للنص إلى تقبله جماليا عبر القراءة.

ويمكن الرجوع إلى اعتراضات نازك الملائكة لنجد أن أبرز أسبابها في رفض التجربة كون الهيئة الخطية للقصيدة المدورة شبيهة بالنثر في توزيع الأسطر وطريقة كتابتها، ولأنها ألغت النظام الشطري في الشعر “الحر” واستبدلت به الاستمرارية المناسبة للانتقالات الزمانية والمكانية، والتداعيات المتناثرة في النص والتي يربطها لغويا وصوريا وإيقاعيا رابط فني، يتطلب براعة ودقة وجرأة على الشكل ومحتواه. وهو ما أنجزه حسب الشيخ جعفر في مرحلة القصيدة المدورة، وامتد أثره حتى اليوم في كتابة نصوص قصيدة النثر، فضلا عن تأثر معاصريه بالشكل السطري، وحتى من لدن شعراء مكرسين، لهم تجاربهم السابقة على جيل حسب الشيخ جعفر.

الدراما الشعرية

جاءت شهادة الناقد والأكاديمي حسن الخاقاني بعنوان “الدراما وتعدد الأصوات”، وبدأها قائلا “عدّ أغلب دارسي الشعر الحديث في العراق حسب الشيخ جعفر من الشعراء الذين التفتوا بوعي إلى توظيف عناصر الدراما في الشعر، وقد عده آخرون شاعرا موضوعيا أكثر من كونه غنائيا، فاجتمع في شعره صوتان: صوت الرواية وصوت الفعل – الحضور حيث المونولوج والديالوج يعرضان موقف الشاعر وأفكاره وحسه، وهو ما جعله يقترب من الحركة والتجسيد من (القصيدة السومرية– البابلية القديمة في اقترابها من المسرح صيغة، وتمثلها إياه أساليب وطرائق في المعالجة)، وعرض القضايا الإنسانية الكبيرة بموضوعية ظاهرة، (وليس من السهل أن يتحقق الطابع الدرامي في عمل شعري ما لم تتمثل وراءه أو فيه العناصر الأساسية التي لا تتحقق الدراما بدونها، وأعني بذلك الإنسان والصراع وتناقضات الحياة)”.

وفي رأيه لم يكن المسرح، وهو الخشبة التي تتجسد فوقها عناصر الدراما، بعيدا عن ذهن حسب وشعره، فقد وردت لفظة “المسرح” مرات في شعره، ووردت ملازماتها من ممثلين ومخرجين وملابس مرات كثيرة، ومن ذلك قوله في قصيدة “السيدة السومرية في صالة الاستراحة”، “قهقهات البغايا/ وثرثرة المخرجين، اتركيني أعد مثلما كنت/ تذكرة في تألق موسمك المسرحي”. فقد نقل السيدة السومرية إلى صالة المسرح لتكون ممثلة من هذا الزمان.

وقد كان للشخصية المسرحية أو تقديمها مسرحيا حضور مؤثر، ومن ذلك شخصية الكهل التي تظهر في قصيدة “الزرقة الهامسة”، إذ تبدو مهمته مرافقة الفتاة، لكنه شخصية غامضة لا تظهر منها سوى هيأتها الخارجية وأدوات تدل عليها، وعاد إلى تجسيدها بطريقة أكثر إتقانا فنيا، تبدو مستجيبة تماما لطريقة العرض المسرحي الناجح في قصيدة “عبر الحائط في المرآة”، وذلك بالتصريح باسم الشخصية وهي الروائي الروسي ديستويفسكي. وتظل صورة الكهل الأشيب تعاود الظهور في كل مشهد، فهو شخصية مسرحية شبحية، يحتفظ بغموضه حتى النهاية، ويتقاسم الجهل به الشخصان المتحاوران في النص.

حسب الشيخ جعفر كان على علاقة شعرية عميقة بالسياب. فهو ينتمي إلى المرحلة المبكرة من العقد الستين

ويستفيد حسب من تقنيات الأداء المسرحي ومنها تقنية العرض، أو الإلقاء المسرحي الذي يمكن أن يتولاه ممثل أو “كورس” مهمته تقديم الشخصية الرئيسة أو بيان صفاتها، ومن ذلك ما يجري في بداية قصيدة “هبوط أبي نواس” إذ يستعمل ضمير الخطاب “الكاف” الموجه إلى أبي نواس، الذي يدخل في الصراع مع “الآخر” ممثلا بكل الموانع التي تحول دون اللقاء بالحبيبة، أو الظفر بنهاية سعيدة للحب، والصراع من العناصر الرئيسة في الدراما، وقد كان “الباب” رمز المنع والحجب، وكان العلج رمزا للقوة الغاشمة التي تنفّذ هذا المنع. وينتهي الصراع بهزيمة أبي نواس، الذي رمز به حسب إلى الحب النقي المغلوب، مقابل انتصار الملوك والحجّاب والثقفي الغليظ، وهي كلها رموز لسلطة غاشمة.

وقد عمّق رمزه هذا حتى صار له قناعا، بل اتحد معه في الضمير، إذ استعمل ضمير الجمع “نا” معبرا عن اتحاد الصوتين معا، ليعبّر بذلك عن صراع الشاعر الحديث، بل الإنسان عامة، مع قوى الظلم السياسي والاجتماعي التي تقمع صوت الإنسان في كل زمان.

إن هذا النمط من الصراع يكشف عن سمة مهمة أخرى من سمات الدراما وهي “التوتر”، فتتابع الأفعال، وجريانها بسرعة في ذهن الشخصية، أو مع شخصية خارجية، بوجود حركة متوترة، والتوتر (كلمة ينظر تكرر ورودها في كل مناقشة حول الدراما، ونحن نتكلم بشكل طبيعي عن “وضع متوتر” عندما نريد التعبير عن شعور بأن الأمور قد تنقلب في أي لحظة إلى شيء مختلف بشكل حاسم). وتنطوي سمة التوتر على زيادة حدة الترقب، وتصاعد الانفعال بالحدث وما يتبعه من سرعة في الحركة، ويمكن تلمّس بعض ذلك في قصيدة “زيارة السيدة السومرية” إذ يهيئ الشاعر البيئة بذكر “الظلمة” لإيجاد التوتر بالإصغاء إلى خطى مجهولة المصدر “أتخرج باحثة/ في الظلمة عن أحد؟/ لا أعرف شيئا سيدتي، لكني أسـمع/ وقع خطى، في البدء بطيئا مجهولا يتردد/ في عمق الطرق المجهولة، مقتربا، وأصيخ السمع: فأسمع وقع خطى تعلو السلم، تدنو/ تتوقف، تخفق في الممشى، تتوقف عند/ الغرفة، أسمع نقرا فوق الباب وأفتحه”.

لقد عمّق الشاعر فعل التوتر، باستعماله السمع دون البصر، والسمع يسمح للمخيلة بالعمل وزيادة الترقب والخوف أكثر من النظر، فالسمع خيال وتوهم، والنظر حقيقة.

كما يعد الحوار من العناصر الرئيسة في الدراما فهو وسيلة الشخصيات إلى أداء الأفعال أو التعبير عن آثارها، وهو ينقسم على نمطين رئيسين: الديالوج حين يكون الحوار بين شخصيتين أو أكثر، والمنولوج حين يكون الحوار في ذهن الشخصية أو يكون حوار الشخصية مع نفسها، وقد ورد كلا النمطين في شعر حسب بكثرة إذ كان يفرد للشخصية أقوالها المميزة بوضعها بين قوسين، وقد أخذت شخصياته الحصة الكافية من الحوار الذي ارتقى ببناء النص، وقد سبقت الإشارة إلى بعض ذلك.

أما النمط الدرامي الآخر الذي اعتمده حسب في شعره فهو تعدد الأصوات، إذ كان يبني قصيدته أحيانا على هيأة أصوات يسميها (صوت أول، صوت ثان)، وقد يورد لفظة “الكورس” التي تدل على جوقة تعلو خشبة المسرح تعلق على الأحداث أو الشخصيات وغيرها، وقد درج حسب على هذه التقنيات منذ بداياته الشعرية، إذ يغلب هذا النمط على أول أعماله ويظهر بوضوح في عدة قصائد منها “الصخر والندى” التي تبدأ بصوت الكورس.

ظاهرة التدوير

تناولت الناقدة العراقية نادية الهناوي في ورقتها بعنوان “تدوير الشعر عند حسب الشيخ جعفر من منظور نقدي جديد” قضية التدوير في شعر حسب الشيخ جعفر وما حصدته من تكرار لمقولة التدوير، متسائلة هل أنّ هذا الذي حصدته من النقاد عراقيين وعربا كان في جانبها وساهم في دعم الشاعر ودفع به قُدما نحو المزيد من التجريب أو بالعكس أثناه عن خطه التجريبي وقلل من قيمة ما أبدعه وأضافه إلى الشعرية العربية؟

وتقول “بالطبع للشاعر حسب الشيخ جعفر منزلة لا مجادلة فيها ولا مزايدة عليها، فلقد نال ما يستحقه لا بسبب النقد الذي كشف عن تميزه ولكن بالتجريب في الشعر الذي مارسه حتى استطاع أن يحقق بعضا مما أراده وربما كله. ولا مجال للوقوف على ماهية تجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر الواعية والأصيلة إلا بنقد يكافئها في الوعي والأصالة ليكون عيّنة إجرائية مقبولة، فيها من التحصيلات ما يجعلها جديرة بأن تكون منطلقا يهدي القراء إلى مظاهر القصيدة الحسبية”.

وتذكّر الهناوي بكتابات الناقد والشاعر خالد علي مصطفى، خاصة آخر بحوثه المنشورة بعيد وفاته وهو كتابه “شعراء خارج البيان الشعري” الذي صدر ببغداد عام 2020 درس ثلاث تجارب ـــ أو كما سماها هو “محاولات في كتابة قصيدة التفعيلة” ـــ درس فيها تجربة حسب الشيخ جعفر وتجربة حميد سعيد وتجربة سركون بولص.

وإذا كان الناقد قد خصَّ الشاعر حميد سعيد بدراسة ظاهرة محددة في شعره وهي تحولاته على مستوى الموضوع وما رافق هذا التحول من تغييرات إيقاعية، وخص سركون بولص بدراسة خصائص قصيدة النثر عنده وأسباب إهماله لشعره الموزون، فإنه خص الشاعر حسب الشيخ جعفر بدراسة التدوير وذلك في الفصل الأول المعنون “حسب الشيخ جعفر: لهاث القصيدة المدورة”.

تقول الهناوي “التدوير في شعر حسب تبعة من تبعات تجريبه كتابة هذا النوع الشعري الذي هو غربي النشأة، فأراد حسب ضمه في جنس قصيدة التفعيلة. بمعنى أن الأصل في ما قصده الشاعر حسب الشيخ جعفر هو السونيت الذي كان التدوير تبعة من تبعاته لكن النقاد تركوا هذا الأصل وتمسكوا بالتابع مهتمين بالتدوير وحده.. نظرا لما فيه من مساحات واسعة من التجريب قادرة على احتواء مسائل الحياة المتنوعة”.

مبينة أنه بسبب ولع الناقد بالأوزان وإيقاعية ترتيبها صار التدوير بالنسبة إليه فرضية حاول إثباتها بأمرين: أولا سحب أولوية ابتداع التدوير من حسب وإثباتها لشعراء آخرين، وثانيا اعتبار قصيدة حسب “قارة سابعة” هي أول قصيدة اعتمدت التدوير. وسنتناول هذين الأمرين بالتفصيل في ما يأتي.

وتشدد على أن “طريقة الشاعر حسب الشيخ جعفر في القصيدة المدورة ظلت وقفا عليه بغض النظر عن مرجعياتها، ولم تستطع أن تجاريها تجارب أخرى”. ولأن هذا الاستنتاج يفند الفرضية أعلاه أضاف قائلا “إن ذاكرة الشاعر المهمومة تحاصره فلا يتحرر إلا حين يترك التدوير ويتجه إلى آفاق أخرى مختلفة..” ولم يبن تلك الآفاق، بل ترك أمرها مفتوحا على المجهول.

التمرد على السياب

كتب الشاعر العراقي فاروق يوسف ورقة بعنوان “القارة السابعة حسب الشيخ جعفر” ويقول فيها: ما بين “أنشودة المطر” لبدر شاكر السياب (نشرت في مجلة الآداب عام 1954) وبين “القارة السابعة” لحسب الشيخ جعفر لم تقع معجزة شعرية كبيرة في العراق. نُشرت “القارة السابعة” في كتاب شعري حمل عنوان “الطائر الخشبي” أصدرته وزارة الثقافة والإعلام العراقية في طبعة أنيقة عام 1972.

حسب الشيخ جعفر كان على علاقة شعرية عميقة بالسياب. فهو ينتمي إلى المرحلة المبكرة من العقد الستين. تميزت تلك المرحلة بميل الكثير من شعرائها الشباب إلى التأثر بشعر السياب الذي مثل النموذج الحداثوي الأعلى في تلك المرحلة لا من جهة تحرره من المعايير الشعرية التقليدية فحسب بل وأيضا من جهة انفتاحه على التجارب الشعرية العالمية.

في كتابه الشعري الأول كان حسب سيابيا بموهبة توحي برغبة في بناء عمارة شعرية خاصة مستلهَمة مفرداتُها من عالم السياب. كان صوت حسب الشعري أقوى من أن يكون مجرد صدى لصوت السياب.

ذلك ما لا يصح قوله على كتابه الشعري الثاني “الطائر الخشبي”. كل شيء كان مختلفا. عمارة الصور والأفكار والأشياء والأفكار بكل تقنياتها كانت مستقلة تماما. ذلك شاعر آخر تجتمع فيه كل المتناقضات. فهو هادئ وعنيف، حميمي ونافر، غنائي وصارم، واضح وغامض غير أن عنصرا واحدا ظل يربطه بالسياب. ذلك العنصر هو السرد. في شكله الشعري الجديد أسر حسب الطابع السردي كما لو أنه خصيصة شعرية.

على مستوى شكلي فإن قصيدة “القارة السابعة” قد عصفت بصريا بقرائها بطابعها المدور، أي استمرار البيت الشعري بإيقاعه من غير التوقف عند قافية إلا في حدود ضيقة. تقرأ شعرا كُتب بالطريقة التي يُكتب من خلالها النثر “السطر المستمر”. أقصد الشكل الذي يظهر على الصفحة. ذلك جزء أساس من النزهة.

ما صرت على يقين منه أن حسب الشيخ جعفر كتب قارته السابعة متأثرا بمارسيل بروست في بحثه عن الزمن الضائع. هناك إشارات كثيرة واضحة في القصيدة تحيلنا إلى جمل أساسية وردت في سباعية بروست.

مزج حسب بين الأزمنة بأسلوب التداعي. كان مشروعه الشعري أقوى من أن ينحني أمام رغباته النثرية. ولكنّ جملا نثرية كثيرة تسللت إلى قصائده من غير أن تُفسد طعمها الشعري. واحدة من عناصر عبقريته تكمن في ذلك المزيج من الشعر والنثر.

أكمل حسب الشيخ جعفر دورته الشعرية من خلال ثلاثة كتب “الطائر الخشبي”، “زيارة السيدة السومرية”، “عبر الحائط في المرآة”. ما الذي كتبه حسب بعد ذلك؟ لا أعتقد أنه كان في حاجة إلى أن يكتب شيئا آخر ليكون أيقونة الشعر العربي التي لم يتمّ اكتشافها بعد بالرغم من أن جائزة سلطان عويس قد التفتت إليه ذات مرة. ولكن حسب الشيخ جعفر يليق به شيء آخر. أن نقرأه.

11