حسابات أئمة المساجد في مصر تحت الرقابة الحكومية

القاهرة - طرحت تلميحات مختار جمعة وزير الأوقاف المصري بشأن وجود رقابة على حسابات أئمة وخطباء المساجد على شبكات التواصل الاجتماعي إشكالية ترتبط باستمرار التطرف الفكري بين المعنيين بشؤون المساجد، ومحاصرة الاجتهاد وغلق المنافذ أمام الأئمة التنويريين الذين يرفضون وصاية المؤسسة الدينية.
وقال مختار جمعة في بيان صحفي حمل عنوان “تنبيه وتحذير للأئمة والعاملين بالأوقاف” قبل أيام، إن صفحة الإمام أو قناته أو حسابه على مواقع التواصل مثل منبره على المسجد، انعكاس طبيعي لشخصيته، ولا يمكن أن تكون للإنسان السوي شخصيتان متناقضتان، إحداهما في الواقع الحياتي والأخرى في العالم الافتراضي.
وأشار الوزير، المعني بإدارة شؤون المساجد، إلى إمكانية العقاب بسبب ضغط الإمام على زر “لايك” أو مشاركة لمنشور يتناقض مع توجهات الأوقاف، مؤكدا أن كل إمام وخطيب عليه أن يكون حذرا في تعامله مع مواقع التواصل، “نشرا أو مشاركة أو إعجابا أو تعليقا”.
وتنظر الوزارة إلى صفحة الإمام على أنها جزء من شخصيته ومنبره، وبما أنه يجب أن يكون قدوة ستتخذ الإجراءات القانونية الحاسمة مع من يُسيء استخدام شبكات التواصل بما لا يتسق مع القيم العامة وما تقتضيه طبيعة عمله بالمؤسسة الدينية.
هروب الإمام أو الخطيب إلى منصات التواصل الاجتماعي سببه التضييق المفروض على المجتهدين فوق المنبر
وفهمت إشارات وزير الأوقاف على أنها محاولة لفرض المزيد من الرقابة على أئمة وخطباء المساجد لمحاصرة التطرف المستتر بين عناصرها خشية أن يتسبب افتضاح أمر هؤلاء في حرج للوزارة أمام السلطة وخصومها، مع سعي الرئيس عبدالفتاح السيسي للاعتماد على الأوقاف في تطبيق رؤيته للاجتهاد بعيدا عن الأزهر.
ويرى معارضون للرقابة المفروضة دون تمييز أنها تنسف الاجتهاد والتجديد من جانب العناصر التنويرية التي تسعى لتقديم رؤية عقلانية بعيدا عن وصاية المؤسسة الدينية.
ويبدو أن وزارة الأوقاف ترغب في تعقب الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي لكشف أفكار وسلوكيات منتسبيها لشعورها بتصاعد وتيرة الخوف من خروج الخطاب الديني عن السيطرة واتساع دائرة التمرد على توجهاتها، والاستمرار في إحكام القبضة على الأئمة ليقوموا بتنفيذ الرؤى التي تُملى عليهم فقط.
وهناك من يرجع قرار تتبع ما يكتبه الأئمة والخطباء لتخفّي بعض المتطرفين في عباءة الإمام الوسطي، ولن يكشفه سوى حساباتهم على الشبكات الاجتماعية ويحق للوزارة التأكد من ممارسة أئمتها لخطاب معتدل وعدم إقدام أيّ منهم على نشر أفكار تمثل خطورة على المجتمع، بالتالي يتم تطهير المؤسسة الدينية من المتشددين.
ويقول أصحاب هذا الرأي إن حالات ضبط أئمة وخطباء يتعمدون نشر أفكار متطرفة بين الناس تستدعي التدخل الفوري، لكن المعضلة أن مثل هذه الوقائع يتم الوصول إليها بالمصادفة، ولا بد من رقابة الصفحات الاجتماعية للكشف عن أصحاب التوجهات المتشددة قبل أن يستغلوا تبعيتهم للمؤسسة الدينية في الترويج لأفكار تتناقض معها.
وحوّل البعض من الأئمة حساباتهم الشخصية إلى منصات أقرب إلى المساجد الافتراضية، وهناك من يكتب إلى جوار اسمه إمام مسجد (..) بمنطقة (..) ثم يقوم بالتعليق على أحداث ووقائع بعينها والإدلاء بفتاوى تتعارض مع رؤى الأوقاف.
وزارة الأوقاف تنظر إلى صفحة الإمام على أنها جزء من شخصيته ومنبره
ويصعب فصل توجه وزارة الأوقاف عن رقابة حسابات الأئمة والخطباء عن استشعارها خطورة تعدد المساجد الإلكترونية المنسوبة لحسابات العاملين فيها، وعدم إحكام القبضة عليها يجعل منها منابر بديلة عن المؤسسة الدينية.
وباتت صفحات أئمة وخطباء على منصات التواصل مرجعية للكثير من المواطنين، حيث يتحدث لهم الإمام أو الخطيب بلا رقابة على المحتوى، وأحيانا يتكلم بما لا يتفق مع توجهاته الرسمية، على اعتبار أنه ملتزم بخطبة مكتوبة لا يخرج عنها لتجنب المساءلة، بينما يتحدث بلا قيود على الشبكة الاجتماعية، وهو ما رفضته الأوقاف.
ونجح السلفيون والإخوان أحيانا في توظيف فوضى الخطابة للدخول في سجالات لتعرية بعض الأئمة التابعين لوزارة الأوقاف وتحويلها إلى مبارزة سياسية بحجة أن الخطيب الذي يُدلي برأيه تابع للسلطة أو جزء منها.
ونسب بعض شيوخ السلفية المستبعدين من الإمامة والخطابة في المساجد أنفسهم إلى وزارة الأوقاف وقاموا بإنشاء حسابات بأسماء مساجد ويدّعون أنهم تابعون للمؤسسة الدينية، بحيث يتم استثمار ذلك في الترويج لخطابهم المتشدد ومناقشة قضايا سياسية تتناغم مع جماعات معارضة للحكومة حتى بدت الوزارة كأنها فقدت السيطرة.
وقال الباحث والمتخصص في شؤون الجماعات المتطرفة منير أديب إن الرقابة الإلكترونية على أئمة المساجد لن تحل إشكالية الخطاب الدعوى، وتعكس عدم الطمأنينة لتوجهات بعض الخطاء والأئمة، ومدى سعيهم إلى استغلال مناصبهم في تسييس الخطاب الديني أو توريط وزارة الأوقاف في أزمة لها أبعاد سياسية.
صفحات أئمة وخطباء باتت على منصات التواصل مرجعية للكثير من المواطنين، حيث يتحدث لهم الإمام أو الخطيب بلا رقابة على المحتوى
وأضاف لـ”العرب” أن منع تسييس الخطاب الديني مطلب حتمي ويجب منع خلط الدين بالسياسة بشكل مباشر أو بالتلميح والتعليق على الأحداث، حيث ينتقل بالتبعية للأئمة والخطباء، لافتا إلى أن ما يثير القلق غياب السيطرة على المساجد الصغيرة (الزوايا) التي يتم فيها توظيف الدين بما يخدم تيارات الإسلام السياسي.
وما يثير الدهشة أن وزارة الأوقاف وهي تدّعي محاربة بعض الأئمة والخطباء للنبش في قضايا سياسية عبر حساباتهم على الشبكات الاجتماعية لا تزال متهمة بأنها تفرض على خطبائها التطرق إلى موضوعات تتلامس مع السياسة.
ويختلف الخطاب الديني الذي يروّج له خطباء المساجد على منصات التواصل عن الخطبة الموحدة التي تعمّمها وزارة الأوقاف على المساجد، وهذا ما يرفضه أئمة لأن الخطبة الموحدة تتناقض مع احتياجات الشارع.
وعلى وزارة الأوقاف القيام بالبحث عن تمسك الأئمة بالتحرر والذهاب إلى منابر بديلة على صفحات التواصل الاجتماعي، لأن الوقوف على خلفيات هذه الحالة قد يكون بداية لحل أزمة الخطاب الدعوي بدلا من فرض الوصاية والرقابة وإقصاء المخالفين، فالنهج العقابي لن يوقف وصول الخطاب المتطرف أو الوسطي للناس، فإذا لم يحدث افتراضيا سوف يصل بالاختلاط مع الأئمة في الشارع.
وطالما تمسّكت وزارة الأوقاف بالبحث عن تبييض صورتها سياسيا والسيطرة على المجال الدعوي سوف تظل هناك أزمة معقدة في حل إشكالية الخطاب الديني أمام الإصرار على مطاردة حرية الرأي والتعبير والاجتهاد، ما يعني أن هروب الإمام أو الخطيب إلى منصات التواصل سببه التضييق المفروض على المجتهدين فوق المنبر.