حركية المجتمع السوري.. تحديات ذاتية لدولة جديدة

للثورة السورية خصوصية نشأت من طول مرحلتها وكثرة تحولاتها وقسوة عراكها السياسي والقتالي، مع دكتاتورية موغلة في التوحش. كل ذلك فرض عليها أعباء مضاعفة وعوائق متراكمة، كما جعلها مذوبة في صراع مصيري، أبعدها كثيراً عن مبادئ نشأتها. ولم يكن انتصار الثورة وفق صراع متسلسل مخطط له. إذ جاء النصر دراماتيكياً مفاجئاً، أربك قادتها في إعادة بناء الدولة وفق أسس نمائية عصرية، ولم تكن في الوقت عينه تمتلك رؤى عميقة للعوائق الذاتية في المجتمع السوري، ولاسيما أن الفئة التي قادت النصر، وتولت إنشاء الدولة، لا تملك في مكوناتها أنتلجنسيا تتكفل بمعالجة الأزمات البنيوية في المجتمع السوري وفق رؤى حديثة مبدعة تواكب تطور الأزمات وتنوعها.
وتكمن أخطر عوائق سيرورة هذه الدولة الناشئة في نوعية التحديات الذاتية التي تجابهها، وهي تحديات متعددة ومتنوعة جداً في حال الدولة السورية الجديدة التي تولّدت قيصرياً من ثورة تكاد أن تكون مبددة. وهذا ما جعل هذه الدولة تواجه تحديات ذاتية على محورين؛ الأول ناشئ من حركية المجتمع، والثاني ناتج من الأدوات الذاتية التي لها الخصوصية الحصرية في تفكير السلطة الجديدة لفهم إدارة المجتمع وقيادته بأسلوب مرجعيته إسلامية ارتدادية تعود إلى نماذج سالفة، لا إلى فلسفة حديثة في بناء المجتمع وإدارته. أما التحدي الأول فهو يتعلق بطبيعة تركيب المجتمع السوري تاريخياً بدءاً من السلطة العثمانية التي شكلته وفق طبقات اقتصادية تقليدية، عبث بها الفساد الذي عاناه العثمانيون أنفسهم في حقبتهم الأخيرة. إذ خلطت الإرث الإسلامي بالفهم العصملي الاستبدادي لتطبيقاته. وبذلك أُفرزت طبقات اجتماعية ذات نمط إقطاعي، وأخرى ذات نمط برجوازي، وثالثة ذات نمط عسكري، ورابعة مكونة من سواد شعب فقير معدم مسلوب الإدارة أشبه بطبقة العبيد.
انتهى حكم الأسد الأب بتوريث ابنه، مجتمعاً مترهلاً مخلخل البنى متصارعاً منسلخ الانتماء مفرغاً من الطموح يشغله تأمين لقمة العيش والأمان الموهوم
وتلقف الاستعمار الفرنسي في ما بعد تلك المرحلة هذا المجتمع المتناقض، والمتصارع ثقافياً واقتصادياً في السياق الاجتماعي، ولا أقصد الثقافة العامة للمجتمع التي تمثل نخباً فكرية وأدبية. عمل الاستعمار الفرنسي على استثمار التناحر الاجتماعي، وبنيته الهشة لتمكين سيطرته، فدفع بثقافة تنوير غربية اجتماعياً واقتصادياً وإدارياً. جعلها أدوات تزيد التناحر والصراع الذي يوطئ هيمنته.
ووُلدت بموازاة تنمية التناحر الاجتماعي، مسارات توهم أنها مسارات ثورة مضادة للاستعمار، وهي في ظاهرها مسارات نهضة عربية، بينما في باطنها مسارات تبديد هوية المجتمع وثقافته وأصالة مرجعيته. فعمل على تأجيج صحوات فكرية طائفية، قسمت المجتمع المقسم، وكان يتراءى للكثير أن تلك الصحوات تمثل وحدة وطنية وتكافلاً اجتماعياً وطنياً. بينما كانت في حقيقتها تعمّق تخندق الطوائف حول خصوصياتها الاجتماعية والثقافية والدينية، وتصلب تمترسها خلف حقوق تلك الخصوصيات في ورثة السلطة.
أخفق الاستعمار الفرنسي عسكرياً وانسحب من الأرض، لكنه أودع للمجتمع السوري إرثاً صراعياً عميقاً أنتج تقسيمات حادة متعددة. فزاد على تقسيم السلطة العثمانية تقسيمات طائفية، هي الأخطر على بنية المجتمع. وتمثلت أبرز صوره في جيش الشرق الذي هيأ للإثنيات والعرقيات والطوائف التحكم في مسيرة بناء الدولة بعد الاستقلال.
ومن نتائج التضخم العقائدي في المجتمع السوري في جملة كانت التحولات التي نشأت عنها سلسلة انقلابات عسكرية، كان أغلب قادتها من أصحاب انتماءات عرقية أو طائفية. إلى أن تهيأت الظروف للضابط حافظ الأسد الذي تمكن، وهو في رتبة عسكرية متدنية من السيطرة على مراكز قوى الدولة. وساندته في ذلك مجموعة مركزة ومكثفة من طائفته، ومجموعة مساندة من طوائف المجتمع السوري المتعددة بمن فيهم السنة الذين انحازت له منهم فئة انتقاماً لصراعات النفوذ السنية الطبقية والمدنية والريفية.
تمثلت سياسة حافظ الأسد في إعادة صياغة قوى المجتمع السني المفتت تقليدياً واستشرس في تذويب المجتمع وفق طبقات جديدة تصارع الطبقات التقليدية لتبديد قوى المجتمع السني. فقد بنى مجتمعاً أولوية القوة فيه تأتي من النفوذ السياسي التابع له، فأعاد فرز المجتمع إلى قوى جديدة تتحكم بطبقاته، فنشأت زعامات إقطاعية وبرجوازية وقبلية ودينية، جمعيها تستمد هيمنتها على المجتمع من سلطة الأسد. فذابت القوى التقليدية التي تخشى مناهضته في قوى جديدة تسانده، وتنوب عنه في محاربة القوى التي تعارضه.
يبدو أن الدولة الجديدة غير مستكينة لهذا التناحر المضمر في حركية المجتمع السوري، وهي لا تأمن خموده المؤقت
اعتمد الأسد في بناء هذه الطبقات الجديدة على اختيار زعامات ضعيفة فتح لها باب الفساد لتتقوى منه على بقية أطياف المجتمع من جهة، ولتكون رهينة له في الوقت عينه.
ولجأ الأسد كذلك إلى تغييب معايير التقييم الاجتماعي والعلمي والمهني في مختلف بنى المجتمع، بقصد إغراقه في طبقات ضعيفة فاسدة فاقدة لكل معايير الكفاءة مقابل الولاء. وهذا ما يجسده شعار الولاءات لا الكفاءات، فسادتْ المجتمعَ طبقاتٌ متصارعة داخلياً مع مكونات الفئة أو الطيف الواحد وخارجياً مع الفئات والأطياف الأخرى. وقد انتهج الأسد الأب توزيع النفوذ والإدارة بطريقة مكشوفة على أنها تمثل المناطقية والفئوية والطائفية، لكنه جعله تمثيلاً استفزازياً، يولد التناحر في المكون ذاته، لأنه كان يختار نماذج تمثيل فاقدة الانتماء لما تمثله. فهو يختار شخصيات بائسة غير مرغوبة، لا تمثل القوى الحقيقة للطيف أو الفئة، فيدخلها في تصارع مستمر، وتتوزع فيها المظالم، وهذا ما جعل كل فئة تدعي مظلمة سوء تمثيلها.
وانتهى حكم الأسد الأب بتوريث ابنه، مجتمعاً مترهلاً مخلخل البنى متصارعاً منسلخ الانتماء مفرغاً من الطموح يشغله تأمين لقمة العيش والأمان الموهوم، ويحمل مظلمات مستقرة في داخل مختلف مكوناته، ولم يتمايز أسلوب الابن في البناء التناحري للمجتمع في عناوينه العريضة من غياب أي معيار للتمثيل الاجتماعي.
وبقيت هذه المكونات التي تضمر مظالم انفجارية، وهي مرغمة على التعامل مع قوى الاستبداد الأمني بطريقة قطيعية. وما إن أتيحت لها فرصة المطالبة بحقوقها إبان اندلاع الثورة السورية حتى انفجرت فيضاناً جارفاً فاجأ الأسد وأمنه باتساعه وعنفوانه، وكثرة انقلاب الذين كان يظنهم في صفه. لكن الأسد وبعقلية الكيد الأمني استطاع استقطاب فئات متعددة منها طائفية، لأنه أحدث شرخاً ثأرياً بين الطوائف وادعى أنه حامي الأقليات، إضافة إلى فئة تنفذت بوجوده، وطبقة برجوازية انتعشت بفساد حكمه. أعاد الأسد الابن خلط تركيب المجتمع وفق مظلوميات هو أنشأها.
وظل هذه الحراك الاجتماعي التناحري يتخبط بين الولاء والمعارضة إلى أن انتصرت الثورة على أيدي الجهاديين الذي عملوا بالطريقة ذاتها في بناء مجتمع الثورة. ثم في المجتمع المستهدف بالثورة، ولم يحملوا رؤى عقد اجتماعي نمائي، بل كرسوا نواة عقد اجتماعي صراعي ليس قليل المسار الانتقامي والإقصائي.
ويبدو أن الدولة الجديدة غير مستكينة لهذا التناحر المضمر في حركية المجتمع السوري، وهي لا تأمن خموده المؤقت، ولم يحن الوقت للحكم على امتلاك الدولة الجديدة الأدوات الناجعة في معالجة هذا التناحر. ووهم العدالة العمودية لا يحقق استجابة للمظلوميات الكامنة، لأنها مظلوميات تناحر لا حقوق واضحة.