حركة التغييرات تفتقد إلى جدوى الإصلاح في الجزائر

التغيير لم يلمسه إلا المستفيدون من مزايا المسؤولية الجديدة أو الذين افتقدوها ولا زالت الجريمة والانحراف والسلوكيات السلبية تهدد أمن المجتمع، والولاة ومسؤولو الإدارة المحلية يغطون في سبات عميق.
الجمعة 2023/08/11
تبون استهلك ثلاث حكومات منذ قدومه إلى قصر المرادية

سلسلة من التغييرات عرفتها مختلف المؤسسات المدنية والعسكرية خلال الأشهر الأخيرة، طالت الجيش والشرطة والإدارة والقضاء والدبلوماسية.. وغيرها من القطاعات، مما أعطى الانطباع بأن شيئا ما سيحدث مع الدماء المتحركة داخل مفاصل الدولة، لكن على ما يبدو أن التغييرات باتت تشبه بعضها وأخذت طابعا روتينيا، ففقدت مع تكرارها الغاية والمغزى ولم يعد الشارع الجزائري يهتم بها لأنها لم تقدم المأمول منها.

في الأصل أيّ حركة تغيير في هيكلة المؤسسات أو انتشار الأشخاص، تعبر على الأقل عن ضخ دماء جديدة أو تكييف الأفراد مع سياسة معينة، وبدرجة أكثر دقة إصلاح وضع معين باستقدام عناصر جديدة والتخلي عن عناصر أخرى، فتكون الترقية أو التحويل أو التقاعد هو التتويج أو الجزاء على أداء معين، والغرض من كل ذلك تغيير الأوضاع نحو الأحسن والرفع من مستوى الخدمة.

لكن التغييرات المتتابعة في الجزائر خاصة خلال السنوات الأخيرة، ذهبت في منحى آخر منذ العام 2018، فأخذت طابع التحالفات والتوازنات وتصفية الحسابات، ففي المؤسسة العسكرية جاءت نخبة وذهبت أخرى، وفي قطاع المال والأعمال سجن البعض وظهر بعض آخر، وفي المؤسسات المركزية جاءت حكومات وذهبت أخرى وسجن وزراء، وانسحب الأمر على الإدارة والقضاء والدبلوماسية والأمن ومختلف المؤسسات.

◙ اللافت في فشل الحركات المتتابعة هو أن التغيير نفسه يحتاج إلى تغيير، والذهاب إلى إصلاح حقيقي وعميق وتحديد الأهداف والغايات من هكذا تقاليد سياسية

وإذا كانت في وقت سابق إقالة جنرال أو سجن وزير أو رجل أعمال أو ترقية شاب إلى رتبة رفيعة، تثير اهتمام الرأي العام وتفتح شهية التعليق والتأويل والتحليل، فإن التغييرات المتسارعة في السنوات الأخيرة، لم تعد كذلك لأنها فقدت المعنى والمغزى وصارت عبارة عن توزيع قطع الكعك.

منذ الثورة التي أحدثها قائد الجيش السابق أحمد قايد صالح داخل المؤسسة العسكرية، لم يفهم الشارع الجزائري جدوى العملية وعلاقتها بالجوهر الحقيقي للتغيير، إلا لعبة التوازنات والولاءات، حتى ولو كانت تتدثر برداء المهام الإستراتيجية للمؤسسة في تأمين البلاد داخل بيئة متحركة ومناخ متقلب.

ومنذ قدومه إلى قصر المرادية نهاية العام 2019، استهلك الرئيس عبدالمجيد تبون، ثلاث حكومات والعديد من الوزراء وكتّاب الدولة، غير أن جدوى التغيير لم تظهر نتائجها على الأرض، فقد سحب في التعديل الأخير وزير التجارة الأسبق كمال رزيق، الذي كان محل غضب شعبي كبير، واستقدم وزيرا جديدا لنفس القطاع، لكن القطاع لا زال يراوح مكانه مع تجدد ظاهرة الغلاء والندرة، ولذلك فقد التغيير جدواه وأهميته ودوره في تحويل السلوك السياسي إلى نتائج ميدانية.

قيادة الجيش في محطتها السنوية التقليدية، رقت نحو 90 عقيدا إلى رتبة عميد (جنرال)، أغلبهم من جيل نهاية الستينات وبداية السبعينات، والرسالة كانت واضحة حول وضع معالم نخبة عسكرية شابة تخلف الحرس القديم، يكون تكيفها مع التطورات والمستجدات أسهل ما يكون على جيل الضباط المسنين، لكن تداول الحكومات والوزراء على مختلف الحقائب، لم يكرس لا شعار “الجزائر الجديدة”، ولا حرك القطاعات، فأغلبهم غادر الوزارة كما وجدها.

التغييرات شملت كل شيء في الآونة الأخيرة، فطالت الأمن والإدارة والقضاء والدبلوماسية، لكن الغاية من التغيير لم يلمسها الجمهور الحقيقي، سواء بالنسبة إلى المرتادين على المحاكم، أو الذين يعانون من عبء البيروقراطية في قضاء معاملاتهم، ولم يلمسها أيضا في احترافية مصالح الأمن في حماية المجتمع من الجريمة والانحراف، ولا صوت الجزائر ارتفع بالشكل اللازم خارج باحة المؤسسات التقليدية (رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية).

العملية لم يلمسها إلا المستفيدون من مزايا المسؤولية الجديدة أو الذين افتقدوها، فلا زالت الجريمة والانحراف والسلوكيات السلبية تهدد أمن المجتمع، والولاة ومسؤولو الإدارة المحلية يغطون في سبات عميق، والمواطن يخاف من ولوج رواق القضاء لأنه لا يدري إن قصد شاكيا قد يتحول إلى متهم، وصوت الجزائر الاقتصادي والثقافي والتسويقي غائب، فالدبلوماسية لدى الكثيرين هي تلويك تصريحات ومواقف رسمية ثابتة أو متغيرة فقط.

◙ التغييرات المتتابعة في الجزائر خاصة خلال السنوات الأخيرة، ذهبت في منحى آخر منذ العام 2018، فأخذت طابع التحالفات والتوازنات وتصفية الحسابات

والتغيير ما دام لا يُظهر ثماره على مثل هذه الأوضاع والوضعيات، فإنه يصبح جزءا من روتين بيروقراطي لا يتعدى صداه حدود المكان أو المكتب الذي جرى فيه، فهو بلا معنى ولا مغزى ولا جدوى، إن لم يكن مضيعة للوقت الضائع من عمر الجزائر في استعراضات شكلية وعنتريات لا طائل منها.

والتغيير بهذا المنحى تحوّل بمرور الوقت إلى جزء من الأزمة أكثر مما هو جزء من الحل، وإذا كان المنطق هو التغيير لأجل إصلاح وضع معين، فإن اللافت في فشل الحركات المتتابعة هو أن التغيير نفسه يحتاج إلى تغيير، والذهاب إلى إصلاح حقيقي وعميق وتحديد الأهداف والغايات من هكذا تقاليد سياسية، وإلا لا داعي لها لأنها ضياع للوقت والجهد والمال، فأحيانا الاستقرار هو أحد عوامل النجاح.

صحيح بعض الحركات تتم في بعض الأحيان تحت مسمّى قطع الطريق على مسؤولين وموظفين خاصة المحليين منهم، من الامتداد الاجتماعي الذي يقود إلى الفساد، لكن حتى إدارة الشأن العام تطورت كما تتطور مختلف القطاعات في العالم، والذي بقي ثابتا على ما يبدو هو القرار السياسي الذي لم يدرك بعد أن التغيير إذا لم يصلح وضعا معينا لن يكون إلا تداولا على المزايا والامتيازات فقط.

هكذا حركات هي أمر طبيعي في حياة المؤسسات والدول، وهي وسيلة من وسائل الرقابة والإصلاح، لكن غير الطبيعي أن تصبح تقليدا بلا جدوى لأن الغالب فيها هو التحالفات والتوازنات والتموقع، بدل أن يكون اجتهادا لتحسين خدمة معينة وإصلاح وضع محدد.

9