حرب العقوبات الأميركية

ماذا يعني أن تُدرج على قائمة العقوبات الأميركية؟ يعني ببساطة أن تختم بحرف قرمزي يجعل كل العالم يبتعد عنك ويتجنب حتى مصافحتك.
الجمعة 2019/12/27
عقوبات منثورة على سطح الكوكب

يأمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب باتفاق تجاري قريب بين بلاده والصين. الاتفاق برأي ترامب هو قطاف حرب عقوبات وضرائب شنها على ثاني اقتصاد في العالم، كي يقوم الميزان التجاري للولايات المتحدة. وما الصين إلا جبهة في حرب العقوبات التي أعلنها ترامب على العالم منذ قدومه إلى السلطة نهاية 2016.

ثمة جبهة ثانية من جبهات حرب العقوبات “الترامبية” في إيران، وثالثة في روسيا، ورابعة في كوريا الشمالية، وأخرى في أوروبا وتركيا والسودان وفلسطين وسوريا ولبنان وفنزويلا وغيرها. وتتسع القائمة لأفراد ومؤسساتٍ إضافة إلى الدول. جميع الجبهات يديرها ترامب عبر حسابه على تويتر دون أن يدفع دولاراً واحداً.

بالنسبة إلى ترامب هذه الحرب أكثر جدوى وأقل كلفة على بلاده من الحرب العسكرية التقليدية. أو لنقل هذه الحرب هي التي يتقنها رجل الأعمال والملياردير الذي سكن البيت الأبيض منذ ثلاث سنوات. ويتوقع أن يعيش فيه خمس سنوات أخرى، حيث يرجّح أن يفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة نهاية 2020.

تبدو حرب العقوبات أطول من الحروب التقليدية في اتضاح نتائجها، ولكن الحقيقة عكس ذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تداعيات حروب السلاح التي تستمر لسنوات وعقود. طبعاً المتضرر من حرب العقوبات، كما السلاح، هم الشعوب قبل الأنظمة والحكومات، ولكن ذلك يعتبر خسائر جانبية بالنسبة إلى ترامب.

تأملُ واشنطن أن تحقق لها حرب العقوبات ما تريده دون أن تحرك جندياً واحداً أو تطلق رصاصة واحدة. يقول الرئيس الأميركي إن جيشه الأكبر في العالم لن يتحرك إلا إذا استدعت الحاجة، ويبدو أن الحاجة للجيش الأميركي في زمن ترامب انحصرت فيما يشبه التعاقد مع شركة أمن خاصة، الحماية مقابل المال.

أحلام الرئيس الأميركي في حرب العقوبات كثيرة وكبيرة. على كل جبهة يريد ترامب انتصاراً سياسياً أو اقتصادياً. وجملة الانتصارات مع بعضها ستعيد تتويج الولايات المتحدة قطباً وحيداً في العالم. ليس فقط يخيف الجميع بقوته العسكرية، وإنما يفرض على الدول رسم سياساتها بما يجنبها العقوبات الأميركية.

لعل أبرز الانتصارات التي ينتظرها الرئيس ترامب في حرب العقوبات، عودة إيران إلى المفاوضات حول برنامجها النووي وخرابها في الشرق الأوسط. في سبيل ذلك فرضت واشنطن على طهران أقسى العقوبات في تاريخ الولايات المتحدة، وشملت بتلك العقوبات كل ذراع عسكري وسياسي لإيران داخل البلاد وخارجها.

من أحلام ترامب أيضاً المرونة الروسية في ملفات تعني بلاده حول العالم، وعلى رأسها الملف السوري والهيمنة على حدود حلف الناتو في القارة العجوز. في هذا السياق يفهم توقيع ترامب مؤخراً على قانون قيصر الذي يضيّق الخناق على موسكو قبل دمشق، رغم أنه يتجاهل مصالح الحلفاء الأوروبيين لواشنطن.

في الحقيقة لا يمكن اعتبار تضرر الأوروبيين بالعقوبات الأميركية على دول مثل إيران وروسيا والصين بمثابة تداعيات جانبية غير مقصودة. فالولايات المتحدة تعرف تماماً عمق مصالح الأوروبيين مع هذه الدول، كما أن ترامب لا يستثني دولا مثل فرنسا وألمانيا، قادة الاتحاد الأوروبي، في حرب عقوباته العالمية.

حرب ترامب تريد أيضا وقف البرنامج النووي لكوريا الشمالية، وإجبار الفلسطينيين على القبول بصفقة القرن. بالإضافة إلى أنها تسعى لتغيير نظام الحكم في فنزويلا، ووقف الهجرة من المكسيك. ولا ننسى معاقبة تركيا على شراء الصواريخ الروسية أس-400، وتخويف كل دولة تريد أن تحذو حذوها في المنطقة.

بشكل أو بآخر يمكن القول إن حرب العقوبات الترامبية تأتي على كل شيء في العالم. تحاصر كل أزمة دولية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى بيئية، مدّعية الرغبة في حلها. ولكن ليس وفق المعايير الأخلاقية التي يعرفها البشر أو يأمل بها المتضررون من الأزمات، وإنما وفق ما يلبّي المصالح الأميركية فيها.

العقوبات أدوات ضغط تمارسها منذ عقود الولايات المتحدة والقوى الكبرى في العالم، بالإضافة إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة. لم تكن يوماً مجردة من المصلحة السياسية أو محمولة على أغراض إنسانية بحتة، ولكن الملياردير حوّلها إلى سلاح ابتزاز فج ووقح يلاحق كل من يخالف المشيئة الأميركية.

يستحق السوريون رئيسا أفضل من الأسد، ويستحق الإيرانيون حكما غير نظام الولي الفقيه. ولكن هل تساند عقوبات ترامب الشعبين وغيرهما من شعوب العالم، في مطالبهم بالتغيير والحياة الكريمة، أم أنها مجرد أدوات ابتزاز للأنظمة كي تراعي المصالح الأميركية

ماذا يعني أن تُدرج على قائمة العقوبات الأميركية؟ يعني ببساطة أن تختم بحرف قرمزي يجعل كل العالم يبتعد عنك ويتجنب حتى مصافحتك. العقوبات مثل العار يلاحق كل من يتعامل مع المعاقبين، دولاً كانوا أو منظمات أو أفراداً. وهي عدوى قد تصيبك عند مشاركتك حتى الطعام والشراب مع المعاقبين أميركياً.

بلغة السياسة البحتة يحق لدولة مثل أميركا تمتلك أقوى جيش واقتصاد في العالم أن تفرض عقوبات على من تشاء ومتى تشاء. يحق لها أن تمارس رعونتها، وأن تبتز بقوتها العسكرية والمالية الكوكب بجميع مخلوقاته. ولكن بلغة الإنسانية التي لا تُسمعُ في أيّ بقعة على الأرض، يجب أن يكون لذلك معايير دولية. بلغة السياسة أيضا يمكن أن تؤيد عقوبات ترامب على دول وأنظمة وتستنكرها على دول أخرى. يتوقف الأمر على مدى تأييدك أو خصومتك مع الدول المُعَاقَبة. بهذه الانتقائية تتفهم أيضاً حق بعض المٌعَاقَبين في رفض ومقاومة العقوبات، وتعتبر مقاومة غيرهم للعقوبات إمعانا في الإرهاب والتخريب والاستبداد.

المفارقة عندما تتسبب الولايات المتحدة بمشكلة ما، ثم تبحث عن حل للمشكلة بحرب عقوبات أو أسلحة. أزمة إيران مثال جيد على هذا. البيت الأبيض في عهد الرئيس السابق باراك أوباما هو من فتح لإيران أبواب العراق وسوريا ولبنان واليمن، وفي عهد الرئيس ترامب يريد معاقبة إيران على وجودها في هذه الدول.

الأزمة السورية مثال آخر. فلو أرادت الولايات المتحدة إسقاط الرئيس بشار الأسد لكان في عداد المخلوعين منذ سنوات. ولكنها هي من ماطل في هذا وأطال عمر نظام دمشق. وبعد نحو تسع سنوات يصحو ضمير ترامب فجأة عند رؤيته لصور المعتقلين السوريين المعذبين، فيقرر معاقبة النظام ويوقع قانون قيصر.

يستحق السوريون رئيسا أفضل من الأسد، ويستحق الإيرانيون حكما غير نظام الولي الفقيه. ولكن هل تساند عقوبات ترامب الشعبين وغيرهما من شعوب العالم، في مطالبهم بالتغيير والحياة الكريمة، أم أنها مجرد أدوات ابتزاز للأنظمة كي تراعي المصالح الأميركية وتلبي نزوات البيت الأبيض في هذا الملف أو ذاك؟

إن نجحت واشنطن في إبرام اتفاق مع بكين، فهذا يعني أن التسوية بين البيت الأبيض والنظام الصيني المستبد قد اكتملت. أما بقية العقوبات التي نثرها ترامب على سطح الكوكب، فهي تنتظر نضوج التسويات بينه وبين أنظمة الدول التي فُرضت العقوبات عليها، ولا تنتظر أبداً إنصاف شعوب تلك الدول.

بقليل من التنازلات يمكن أن يتخلص الملالي من العقوبات الأميركية، وبقليل من التنازلات أيضاً يمكن للأسد أن يستمر على رأس السلطة في سوريا عشر سنوات أخرى. هذه هي الوصفة السحرية للتخلص من عقوبات ترامب في أيّ مكان وزمان، لأنها ببساطة لا تستند على مطالب أخلاقية وإنما دوافع ابتزازية.

عقوبات ترامب حق يراد به باطل. ولأن الأنظمة المستبدة في كل مكان تمتلك الخبرة الكافية في المساومة وتتقن لعبة الابتزاز التي يحبها الرئيس الأميركي، ويدير بها سياسته الخارجية، فلن يطال الشعوب أيّ خير من هذه العقوبات، ولن يحصد المتفائلون بالولايات المتحدة إلا مزيداً من الانتظار والخيبات.

8