"حرب السمندل" مسرحية تحذر الإنسان من تدمير كوكبه

رواية للكاتب التشيكي كارل تشابيك تمزج الواقع بالتهويمات، والفنتازيا بالتحذير من راهن منذر بالمخاطر، وقصص المغامرات بالخرافة الفلسفية، والديستوبيا بالنقد الساخر.
الاثنين 2018/11/19
رسالة إيكولوجية قبل الأوان

بين فانتازيا جول فيرن والخيال العلمي لجورج أورويل، بين سردية المغامرات والديستوبيا، تقع رواية التشيكي كارل تشابيك “حرب السمندل”، التي لم تفقد راهنيتها، وقد حولها مؤخرا المخرج روبان رينوشي إلى عمل مسرحي ممتع.

يعتبر التشيكي كارل تشابيك (1890-1938) من المساهمين البارزين في خلق جنس رواية الخيال العلمي، فبعد ابتكار مصطلح الروبوت في مسرحية “آر يو آر” أو R U R اختصارا لعنوان الرواية بالتشيكية “Rossumovi Univerzální Roboti” أي “رجال روسوم الآلية العالمية”، ألّف قبل وفاته بعامين رواية من نوع الاستباق الديستوبي عنوانها “حرب السمندل”، حذّر فيها من الشمولية، وطغيان الآلة، والعولمة، والكوارث البيئية.

الرواية كتبت في ظرف متوتر، عقب الأزمة المالية العالمية سنة 1929، وصعود المخاطر، خصوصا النازية، في أوروبا الوسطى قبيل الحرب العالمية الثانية، ومدارها حول اتفاق بين ربان سفينة وشعب السلمندر، تزود بموجبه الكائنات البحرية العملاقة الربان باللؤلؤ مقابل أسلحة تذود بها عن نفسها، ثم اتفاق ثان بين الربان ورجل أعمال جشع بعث شركة متعددة الجنسيات، حولت تلك الكائنات إلى ما دون الطبقة البروتاليتارية، وسخرتها بالقوة لمزيد الإنتاج ومزيد الربح.

 وما لبثت تلك الكائنات أن ضاقت ذرعا بذلك الاستغلال الفاحش، فأعلنت عصيانها وتمردها وثارت على البشر كافة، باستعمال الأسلحة التي زودوها بها، وراحت تدمر القارات لتخلق لنفسها مجالا حيويا، يتكون من خلجان غير عميقة ومياه ضحلة غير صالحة للملاحة، تعتبره ضروريا لنموها الديمغرافي المتسارع.

هي رواية تمزج الواقع بالتهويمات، والفنتازيا بالتحذير من راهن منذر بالمخاطر، وقصص المغامرات بالخرافة الفلسفية، والديستوبيا بالنقد الساخر. وهذا العمل الذي كتب عشية الكارثة، وفي فجر التكنولوجيات الهائلة، يروي ملحمة متخيلة تعالج جرائر جشع البشر، أول أبطالها القبطان فان توخ، وهو بحار متمرس يهوى الكحول والتبغ، كان على رأس سفينة شحن تجوب الموانئ في بحار الجنوب، فاكتشف مجموعة من السمندل تعيش في بحيرة بإحدى الجزر المتاخمة لسومطرة.

رق قلبه لتلك الحيوانات المذعورة من أسماك القرش، واقترح عليها عرضا عادلا: أن تسلمه اللؤلؤ لقاء تزويدها بسكاكين تقاوم بها سمك القرش، وثانيهما رجل الأعمال بوندي، صاحب مجمع تجاري ومالي وصناعي عملاق، جاءه فان توخ، وكان رفيقه أيام المدرسة، بباكورة جَنيه من اللآلئ وعرض عليه أن يشترك معه في تطوير صناعة اللؤلؤ عبر تمويل باخرة في شكل حوض مائي تسمح بنشر السمندل المربى في كل الأرخبيلات التي يوجد بها محار لؤلئي.

الرواية كتبت في ظرف متوتر، عقب الأزمة المالية العالمية سنة 1929 وتروي ملحمة متخيلة تعالج جشع البشر

وبموت فان توخ وتدهور أسعار اللؤلؤ نتيجة تضخم الإنتاج، حوّل بوندي تلك الشركة المتواضعة إلى شركة متعددة الجنسيات، صارت تستثمر السمندل لأعمال جبارة في الموانئ وفي أعماق البحار، طمعا في أرباح لا حدود لها.

أما البطل الثالث، فهو بوفوندرا، كبير الخدم لدى بوندي، وهو الذي قاد فن توخ إلى عرفه، فكان أداة القدر البريئة ومصدر الكارثة العفوي، تلك الكارثة التي دمرت ثلاثة أرباع الإنسانية والأراضي الطافية على سطح البحر.

صار يجمع الآلاف من قصاصات الجرائد التي تتحدث عن السمندل حتى في اللغات التي يجهلها، ويتساءل باستمرار عن مسؤوليته في تردي البشرية أمام زحف جيوش تلك الحيوانات، ولكن الشخصية الأهم هي شعب السمندل الذي تطور ونحا إلى ما يسمّيه البشر “الحالة المتحضرة”، إذ تخلى عن براءته الأصلية القائمة على ما اصطلح روسو على تسميته بالمتوحش الطيب، واكتسب كل مساوي البشر: العدوانية، السكر والعربدة، التعصّب، القومية، العنصرية، حب الهيمنة، والجنوح إلى الغزو العكسري..

علاوة على إدانته الرأسمالية الشرسة، واستشرافه وقائع كارثة معلنة، يتناول النص، الذي اقتبسته إيفلين لو اقتباسا ذكيا، دور وسائل الإعلام في التلاعب بالحقيقة، وقد استطاع روبان رينوتشي أن يدير أحداثه وتقلباته وأوجهه المتعددة بحنكة، ويحافظ على رهانات النص وفنتازيته دون الوقوع في الوعظ الأخلاقي أو الدرس التعليمي. كما استفادت السينوغرافيا من آلية جول فيرن، وأجواء سينما الخمسينات أو المسرح التعبيري، وطرافة الكوميكس الأميركي، لتحملنا إلى فضاءات متعددة عبر العالم: مقهى في براغ، شاطئ بإحدى الجزر النائية، مجلس حاملي أسهم..

وما يحسب للعرض، علاوة على نجاحه الشكلي، اقتصاده في الكشف عن الإشكاليات السياسية والاقتصادية التي لا تزال قائمة حتى اليوم، عند تناول التقدم المزعوم والانحرافات المنجرّة عنه.

بين السرد الحكائي والتمثيل، بين مسرح الأدوات والدمى ومسرح مدن الألعاب، يقترح روبان بونوتشي فضاء مفعما بالحياة والمغامرة ليلبي شروط رواية متعددة العناصر، ورسالة إيكولوجية قبل الأوان تدين بشدة جنون البشر الحالمين بتقدم لا حدود له، حيث يدفع الإنسان إلى التضحية ببيئته وإنسانيته ليعزّز مكاسبه ويشبع غروره وشعوره بالعظمة، وهو لا يدرك أنه كالسائر إلى حتفه بظلفه.

16