حرائق المكتبات

السبت 2017/09/16

تبدو العلاقة متناسبة بين منتجي الكُتُب ومدمِّريها عبر التاريخ، فقد ظهر حارقو المكتبات مع ظهور الكتب تقريبا، وظلوا يتناسلون من سلوك بعضهم مع تطور صناعة الكتاب، فهدم مكتبة أو حرقها فعل لا أخلاقي منذ عصور قديمة.

بقراءة عميقة لتاريخ العمليات الكبرى لتدمير المكتبات في العالم، منذ إمبراطورية الصين في عهد سلالة كينغ وانتهاء الحكم العربي في الأندلس، وصولا إلى الكوارث المعاصرة وما يحدث من استباحة للتاريخ والثقافة في بلاد كالعراق وسوريا، مرورا بحريق الإسكندرية واشتعال روما، وكتيزيفون، وبغداد ثم محاكم التفتيش وما حدث خلال وعقب الثورة الفرنسية إلى ما فعله النازيون في تشيكوسلوفاكيا، والتهاب سراييفو سنة 1992.

هذه الحوادث المفصلية في الصراع بين مدمري الكتب وصانعيها أو حافظيها، إنما هي صراعات بين الظلام والنور، غالبا ما تنتصر به مرحليا القوة التي تصنع الحق وتحميه، مفهوم الحق المبني على مواجهة السلطة الحاكمة ضد العقل الباحث المستنير الذي يشكل خطرا بالمطلق، فالمركزية السلطوية- أيا كانت- تسعى دوما لجعل الكتاب هامشا، وإن قرَّبَتهُ فإنما تقرِّبه لخدمة خطابها وسياستها الثقافية في صناعة تركيبة الإنسان المقهور.

الحرائق التي التهمت المكتبات عبر التاريخ، لم تكن ألسنة من لهب فقط، إنما دعائم لترسيخ سلطة وإزالة أخرى، الكاتب الفرنسي المولود عام 1944، لوسيان بولاسترون والذي ترك كتابَين مهمَّين هما “الورق، تاريخ ألفي سنة”، وكتاب “الحروفية، فن الخط”، له كتاب ثالث وسمَهُ بعنوان ” كتب تحترق، تاريخ تدمير المكتبات”، في هذا الكتاب يمثِّل في فصوله الثلاثة عشر وملحقاته، بحثا أعتقد أنه الأشمل في نوعه حتى الآن، تتبَّع فيه الباحث أسباب تلك الكوارث المعرفية التي أصابت الإنسانية في عصور مختلفة، في محاولة منه لإعادة تشكيل الكنوز المفقودة واقتفاء أثر المؤلفات الناجية.

لا شك أن حريق مكتبة في زمن سابق بعيد، قد ترك أثره الكبير على شكل فجوة في التاريخ أمام الباحثين، فاختفاء مكتبة بغداد أو القسطنطينية أو روما التي كانت تضم ما يقارب 120 ألف كتاب في ذلك الزمان كأكبر مكتبة في وقتها، يعني اندثار علوم ومخطوطات ونظريات من الوجود، فضلا عن إعادة تدوين تلك المعلومات بطريقة جديدة توافق السلطة الموجودة التي دمَّرت المكتبة الأولى.

ثنائية يمكن الانطلاق فيها من العام إلى الخاص، فما ضرب المجتمعات خلال تغيُّر السلطات، يصيب اليوم أفرادا يُقدَّرون بالمئات من الآلاف، فقدوا مكتباتهم الخاصة التي تختزن ذاكرة مفردة في كل كتاب، فقدوها نتيجة لجوء أو نزوح أو اعتقال أو تشريد أو رحيل بسبب المواجهات العسكرية التي تكون الكلمةُ ضحيَّتها الأولى إذا ما ارتفعَ صوت الرصاص.

خلال زيارة في عام 2005 لدير مارموسى الحبشي، قال لي الراهب الإيطالي السوري باولو داليليو الذي اتخذ مقرا له من ذلك الدير بالقرب من مدينة النبك شمالي العاصمة السورية دمشق بتسعين كيلو متراً، إن “المكتبة إلى جانب الإنسان هي الكنز الحقيقي لأي دير، بغيرها ليس الدير سوى مطبخ دون قدور، أو حديقة دون أشجار”، على تلك الرفوف التي كانت منتشرة في قلب صخور الجبل، اكتشفت الحلاج وابن عربي ولويس ماسينيون وغيرهم، اليوم مع اختفاء أي أثر للأب باولو بعد ذهابه إلى الرقة لمحاورة عناصر داعش، لا أعرف حقا ماذا حل بالمكتبة، لكن الثابت أمامي اليوم أنَّ الملايين من السوريين أو العراقيين ما إن يتذكروا مكتبات بيوتهم حتى يسكن فيهم الحزن ولا يغادر، فالمكتبة ليست رفوفا للكتب إنها ذاكرةُ صاحبها المنسية، الموضوعة على جانب القدَر جاهزة للحضور في أي لحظة.

توقَّفتُ مرارا أمام قصة طلب أحد الموظفين في عهد نيفركارا الذي عاش بين 2426 و2462 قبل الميلاد، بأن تنقش على قبره “كان ناسخا في بيت الكتب”، وما كتبه راسموسن راسك على قبره في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن “الحق أبلج والباطل لجلج” بعربية فصيحة لا تخطئها العين ولا يتوه عنها العقل، وبالرغم من قدرتنا على تمييز الحق من الباطل إلا أن مكتباتنا تضيع في الغياب بهذا التيه الذي نعيش فيه.

كاتب سوري

15