حتى لا يتكرر أكتوبر الجزائري

خطاب تبون لا يخلو من التهديد والوعيد لكل من تلاعب بقوت الجزائريين ويجري إشهار سيف الحجاج في وجه هؤلاء وإن "لم تكف العشرون عاما سجنا نافذا، مستعد للذهاب إلى الإعدام".
الجمعة 2023/10/06
الجزائريون باتوا أقرب إلى الانفجار

مرت 35 عاما على انتفاضة الجزائريين في الخامس من أكتوبر 1988، وإلى غاية الآن لا تزال القراءات تتضارب حول الأسباب، بين من يراها “ثورة جوع”، وبين من يراها “انتفاضة سياسية”، وتتوسع الاختلافات حول ما إذا كانت عفوية من تلقاء نفس الضمير الجمعي، أم مفتعلة من طرف جهات فاعلة جرّت الشارع إلى تصفية حسابات وفرض أمر واقع.

ولأن الجزائريين جزء من أمة لا تقرأ التاريخ، فبدل الاستفادة من التجربة وحفظ الدروس، يجري إنتاج مناخ اجتماعي وسياسي يشبه كثيرا ذلك الذي ساد نهاية الثمانينات مع فوارق بسيطة، وهي أن السلطة آنذاك اختارت الانفتاح بجيوب فارغة، فسعر النفط لم يكن يتجاوز التسعة دولارات، والآن جيوب السلطة مملوءة ومع ذلك يسود الحديث عن الفقر وتدهور المستوى المعيشي، وعن تفاقم القمع السياسي وتكميم الأفواه.

وفي تلك الفترة يرى البعض أن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد كان محرضا علنيا على انتفاضة الشارع، عندما حض الجزائريين على التمرد على لوبيات السوق، ولذلك ينسب إليه هؤلاء تحريك الأحداث لسحب البساط من تحت أقدام المحافظين بغية فرض أجندة التغيير السياسي، وأنه لما أراد استتباب الوضع خاطبهم دامعا، فهَمّ الجزائريون في اليوم الموالي لتنظيف الشوارع ومسح آثار الشغب.

◙ تبون بقدر ما هو مهتم بأمر الجبهة الاجتماعية، بقدر ما هو مطالب بالنظر والفحص بعينيه ويديه لتلك الجبهة، وليس بعيون وأيدي الآخرين

والآن يعود الرئيس عبدالمجيد تبون في أكثر من مناسبة لتطويق بوادر تلك الثورة لأن المناخ والرائحة المنتشرة يوحيان بأن الجزائريين باتوا أقرب إلى الانفجار في أي لحظة احتجاجا على الأوضاع السائدة، ولذلك ما فتئ يتدخل في كل مرة من أجل تفكيك تلك الألغام وتقديم التطمينات اللازمة حول اضطلاع الدولة بأسباب الاستقرار الاجتماعي وضمان العيش الكريم للجميع.

في نهاية ثمانينات القرن الماضي، كان التغيير هو غاية قطاع كبير داخل السلطة، وفعلا استغلت انتفاضة أكتوبر في إقرار حزمة من الإصلاحات السياسية أدخلت البلاد في تعددية سياسية وإعلامية غير مسبوقة في العالم العربي، لكن الآن السلطة تعض بالنواجذ من أجل الاستقرار والاستمرار في نفس النمط السياسي المنتهج.

حينذاك قال قطاع من الجزائريين بأننا “خرجنا من أجل لقمة العيش وضد الندرة والغلاء”، وقال آخرون “خرجنا لكسر طوق الحزب الواحد الذي كتم الأنفاس بنظام سياسي أحادي كرس البيروقراطية والفساد”، والآن لم تتبلور أي فكرة معينة، إلا ما يستلهم من احتجاجات الحراك الشعبي من خطاب راديكالي يريد تغييرا جذريا يطيح بالنظام القائم، وبين آخر معتدل يريد تغييرا توافقيا بين كل الأطراف بما فيها السلطة.

ولو كان ذلك متاحا أثناء أو بعيد “ثورة الابتسامة” في 2019، فإن تراكمات الأزمة الاجتماعية أطبقت بقوة على فرص النضال السياسي، ولم تترك المجال إلا أمام ثورة جوع يحذر منها الجميع لكن لا أحد يملك زمام بداياتها ونهاياتها، ففي تفاصيلها تكمن كل النوازع والأغراض والنوايا التي لا تحمل الخير للبلاد في وسط كل هذه الرمال المتحركة.

خطاب تبون لا يخلو من التهديد والوعيد لكل من يتلاعب بقوت الجزائريين، ويجري إشهار سيف الحجاج في وجه هؤلاء، فأثقلت العقوبات وإن “لم تكف العشرون عاما سجنا نافذا، مستعد للذهاب إلى الإعدام”، كل ذلك من أجل القوت الذي يهدد استقرار الجزائر.

وهنا يبدو أن الرجل يستشعر ما يدب في الشارع الجزائري، ولذلك فهو حريص على الاهتمام بأسباب ذلك الاستقرار، ومنه لم يترك سببا يعتقد أنه ينفس الاحتقان إلا ولجأ إليه، فاستحدث منحة البطالة وزاد الرواتب والمعاشات وأولى اهتمامه بالفئات المسحوقة، لكن نفس المناخ ونفس الرائحة مستمران، لأن التراكمات أقوى بكثير من الجهود المبذولة والنوايا الظاهرة.

وبغض النظر عن مشروعية ووجاهة ذلك النوع من العقاب، فإن السيف الذي لا يزال في غمده، هو ذلك الذي يستوجب إشهاره في وجه أكبر أسباب الوضع المقلق، وهو نمط وتركيبة المؤسسات العاملة في دواليب الدولة، وطبيعة قنوات التواصل بين الشارع وبين المؤسسة الرسمية، فضلا عن الخلل الناجم عن إقصاء هيئات طبيعية وتقليدية في الاضطلاع بمهامها ودورها، كالأحزاب والنقابات والإعلام.

◙ الرئيس عبدالمجيد تبون يعود في أكثر من مناسبة لتطويق بوادر تلك الثورة لأن المناخ والرائحة المنتشرة يوحيان بأن الجزائريين باتوا أقرب إلى الانفجار في أي لحظة احتجاجا على الأوضاع السائدة

في بلدة صغيرة لا تبعد كثيرا عن العاصمة، يعيش السكان على وقع أزمة حادة في التزود بالماء، وببساطة يتلمس المرء حدة الغضب والاحتقان وربما الانفجار، واللافت هو الغياب التام للتواصل بين هؤلاء وبين مسؤوليهم ومنتخبيهم وجمعياتهم، للتواصل والتشاور حول الحلول الممكنة.

وهذه العينة هي سياق عام يسود الشأن العام في البلاد، ولذلك فإن الاهتمام المتكرر للرجل الأول في الدولة بالجبهة الاجتماعية يبقى بعيدا عن تحقيق أهدافه إذا لم يرفق بآليات المرونة والسلاسة في مرور اجتهادات القمة نحو القاعدة، وبضمان قنوات اتصال وتواصل لسماع الأصوات المبحوحة قبل أن يدب اليأس في حبالها وتتجه إلى ردود فعل لا أحد يتوقع متى وكيف تكون.

خلال احتجاجات الحراك الشعبي، كانت المواعيد والأماكن والخطابات معلومة للسلطة، ومع ذلك تعبت كثيرا في إعادة الناس إلى بيوتهم، وجلبت لنفسها صداعا مستمرا من المنظمات الحقوقية والهيئات المختصة، لكن الآن الغضب موجود والاحتقان موجود ورد الفعل وراد جدا، لكن من الصعب على السلطة تحديد مكانه وزمانه إلا إذا اهتدت إلى حلول حقيقية تبدو بعيدة إلى حد الآن.

السلطة كل متكامل من القاعدة إلى القمة، لكن الرأس هو الذي يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية لأنه هو صاحب القرار الأول والأخير، ولذلك فإن تبون بقدر ما هو مهتم بأمر الجبهة الاجتماعية، بقدر ما هو مطالب بالنظر والفحص بعينيه ويديه لتلك الجبهة، وليس بعيون وأيدي الآخرين، لأن الزيغ والرعشة طالا العديد منهم.

9