حتى لا تتحول تونس إلى مصنع لإنتاج الكفاءات وتصديرها

رغم العوائق نجحت تونس في تطوير بيئة تعليمية كفيلة بإعداد المهارات المطلوبة ولا يخفى اليوم أن دولا أوروبية تعمل جاهدة على جذب الكفاءات التونسية لسد النقص في سوق العمل لديها.
الأربعاء 2025/01/15
خلق مناخ جاذب للاستثمارات

لو سألت أي رجل أعمال في بريطانيا قبل عشر سنوات عن شروط نجاح مشروع تجاري، ستسمع منه ردا واحدا هو: Location, Location, Location، أي (الموقع، الموقع، الموقع). اليوم، لو وجهنا نفس السؤال، لن يأتي أحد على ذكر الموقع التجاري. وقد يكون الجواب البديل هو: الكفاءات، الكفاءات، الكفاءات.

الموقع، في حال تم ذكره اليوم، هو موقع افتراضي. أما الاستثمار الحقيقي في عصر الذكاء الاصطناعي والأتمتة فهو استثمار في المهارات والكفاءات.

22 في المئة من الوظائف الحالية يتوقع أن تتغير بحلول عام 2030، وفق دراسة أعدها المنتدى الاقتصادي العالمي بمساهمة من المعهد العربي لرؤساء المؤسسات في تونس. وسيتم خلق 170 مليون وظيفة جديدة، مقابل إلغاء 92 مليون وظيفة نتيجة الأتمتة وتسابق الشركات المحموم على إدماج الذكاء الاصطناعي في أعمالها.

هذه الأرقام تعكس التحولات العميقة التي تعصف بسوق العمل، حيث تحل الروبوتات والذكاء الاصطناعي محل العمالة اليدوية في الكثير من المجالات، بينما تفتح الأبواب أمام فرص جديدة في قطاعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة والصناعات الإبداعية.

◄ لا يخفى اليوم أن دولا أوروبية، بينها إيطاليا وألمانيا وفرنسا، تراقب الوضع عن قرب، وتعمل جاهدة على جذب الكفاءات التونسية لسد النقص في سوق العمل لديها.

ويتصدر قائمة المهن الأكثر نموا المختصون بالذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، ومهندسو الروبوتات وخبراء البيانات الضخمة. ولمواكبة هذه التحولات، تحتاج القوى العاملة إلى تطوير مهارات محددة، أبرزها الذكاء الاصطناعي ومعالجة البيانات الضخمة.. وهي مهارات تأتي في المرتبة الأولى نظرا إلى أهميتها في دعم التحول الرقمي.

في ظل هذا التغيير في أسواق العمل، الاستثمار الحقيقي لأيّ دولة تريد أن تكون جزءا من الاقتصاد العالمي هو التدريب المهني لسد حاجة السوق من الكفاءات والمهارات المطلوبة. وهذا يتطلب شراكة بين القطاع الخاص والدولة لتسهيل بعث معاهد تقوم بتهيئة البرامج والكوادر التعليمية التي ستسند إليها مهام التدريب. وتظل المواصفات القيادية أساسية لإدارة فريق العمل بفعالية وتطوير حلول مبتكرة، أو من خارج الصندوق، كما يقال.

ورغم الفرص الواعدة التي تحدثت عنها الدراسة، تواجه الشركات في تونس تحديات كبيرة تتمثل في فجوة المهارات، حيث عبرت 80 في المئة من الشركات عن مخاوف ناجمة عن نقص المهارات واعتبرت هذا النقص أكبر عائق أمام التحول.

التدقيق في التفاصيل والأرقام يدفعنا إلى التشكيك بمخاوف هذه الشركات عندما يتم الحديث عن فجوة المهارات. في الحقيقة، يجب الاعتراف أن تونس كانت سباقة، حتى مقارنة بدول أوروبية، في اكتشاف أهمية النقلة إلى التكنولوجيا الرقمية وانعكاساتها على الاقتصاد في المستقبل، باستضافتها قبل 20 عاما (بالتحديد في نوفمبر – تشرين الثاني 2005) قمة مجتمع المعلومات، التي هدفت إلى تعزيز استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتعزيز التنمية المستدامة.

كان هذا الحدث فرصة لتبادل الأفكار وتعزيز التعاون على المستوى الدولي في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وساعد في جذب استثمارات أجنبية لقطاع تكنولوجيا المعلومات، وفي دعم وتطوير البنية التحتية الرقمية في تونس.

وأُعيدت على إثره صياغة البرامج التعليمية لتشمل مهارات تكنولوجيا المعلومات التي احتلت مساحة أكبر في هذه البرامج.

22

في المئة من الوظائف الحالية يتوقع أن تتغير بحلول عام 2030

وساهمت القمة في نشر الوعي بأهمية تكنولوجيا المعلومات في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتم خلالها التأكيد على ضرورة تعزيز الوصول إلى المعلومات وتكنولوجيا المعلومات للجميع، وتشجيع التعاون بين الدول في مجالات تطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ووضع خطط لتحقيق التنمية المستدامة من خلال تبني التكنولوجيا الرقمية.

للأسف، ما حدث في ما بعد من تطورات عرقل طموح تونس وسعيها لتبوؤ مكانة متقدمة في التكنولوجيا الرقمية، وعرقل ولوجها إلى عصر البيانات والذكاء الاصطناعي. حيث واجه العالم أزمة اقتصادية حادة (عام 2008) تبعتها بعد ذلك بثلاث سنوات أحداث 2011 التي عرفت باسم “الربيع العربي”.

العوامل والمؤثرات السلبية المذكورة لم تحبط جهود تونس، التي سعت إلى بعث معاهد ومؤسسات تعليمية قدمت برامج تدريبية في مجالات التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي. نذكر منها المعهد الوطني للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا (INSAT) الذي قدم برامج دراسات عليا في مجالات التكنولوجيا الرقمية، ومعهد التنمية والابتكار (IDE) الذي تميز بتقديمه دورات في البرمجة والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، إلى جانب العديد من مراكز التدريب المهني التي قدمت برامج مختصة في التكنولوجيا الرقمية.

الجامعات التونسية من جانبها أعلنت عن برامج دراسات عليا في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، مع تخصصات في هذا المجال. وهناك أيضا مجموعة من المبادرات الخاصة والمراكز التعليمية التي توفر دورات متخصصة في الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات. وفي الأعوام الأخيرة، ظهرت منصات تعليم إلكترونية وفرت دورات معتمدة من قبل الحكومة والهيئات التعليمية في مجالات التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.

وتعتبر هذه البرامج أساسية لتلبية احتياجات سوق العمل المتزايدة في مجالات التكنولوجيا الحديثة.

ولتشجيع انتساب الطلبة إلى هذه البرامج والدورات التعليمية، قدمت الحكومة التونسية دعما ماديا للطلاب الذين يرغبون في متابعة تعليمهم في مجالات التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، وذلك من خلال عدة برامج ومبادرات، منها منح دراسية للطلاب المتفوقين أو ذوي الاحتياجات الاجتماعية، يمكن للطلاب الاستفادة منها للدراسة في معاهد خاصة أو عامة، بما في ذلك المعاهد التي تقدم برامج في التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي. هذا إلى جانب برامج وفرت قروضا تعليمية ميسرة للطلاب لتمويل دراستهم في التخصصات المطلوبة.

وتقدم بعض المعاهد والشركات الخاصة منحا لدعم التعليم والتدريب في المجالات الحديثة، وغالبا ما تكون هذه المنح مرتبطة بالتوظيف بعد الانتهاء من البرنامج.

ولم يقتصر الأمر على مراحل التدريب المهني، بل امتد إلى ما بعد التخرج، بدعم مبادرات الشباب من خلال برامج تهدف إلى تعزيز ريادة الأعمال في المجالات الرقمية، ويمكن للطلاب استخدام هذه الموارد لتطوير مشاريعهم الخاصة في الذكاء الاصطناعي أو التكنولوجيا الرقمية.

رغم ذلك، يجب القول إن الأمور لم تكن وردية دائما، حيث اصطدمت الجهود التي تبذلها الحكومة التونسية بمحدودية الموارد التي يمكن تخصيصها لتطوير برامج التعليم والتدريب، في ظل ما تعانيه البلاد من صعوبات اقتصادية تحد من إمكانية بعث الشركات المتخصصة، وتدفع بها للتقشف، خاصة عندما يتعلق الأمر بالرواتب.

◄ في ظل التغيرات التي تشهدها أسواق العمل الاستثمار الحقيقي لأي دولة تريد أن تكون جزءا من الاقتصاد العالمي هو التدريب المهني لسد حاجة السوق من الكفاءات والمهارات المطلوبة

وتواجه الشركات التونسية تحديات كبيرة، مع ارتفاع تكلفة المعيشة والبطء الاقتصادي الذي يشكل عائقا أمام استثمارات الشركات في مجالات جديدة، وهو ما يحوّل وجهة أصحاب الكفاءات للبحث عن فرص عمل بعيدا عن تونس. ورغم أهمية التحويلات النقدية التي يقوم بها التونسيون في الخارج، هناك مخاوف من أن تتجاوز خسائر البلاد من استنزاف الكفاءات والمهارات هذه المكاسب. وتكفي هنا الإشارة إلى عدد الأطباء والمهندسين التونسيين العاملين خارج تونس؛ وفقا لبعض التقديرات، يُعتقد أن هناك حوالي 30 ألف طبيب تونسي و20 ألف مهندس تونسي يعملون في دول مختلفة حول العالم.

رغم العوائق، نجحت تونس في تطوير بيئة تعليمية كفيلة بإعداد الكوادر المطلوبة بالسرعة والكفاءة المناسبتين. الدليل على ذلك وجود أعداد كبيرة من الطلبة الأجانب يتلقون تعليمهم في المعاهد والجامعات التونسية، ويُقدّر عددهم بحسب الأرقام الرسمية بـ20 ألف طالب.

ليس هذا فقط، لا يخفى اليوم أن دولا أوروبية، بينها إيطاليا وألمانيا وفرنسا، تراقب الوضع عن قرب، وتعمل جاهدة على جذب الكفاءات التونسية لسد النقص في سوق العمل لديها.

الهجرة بحثا عن عمل ليست شرا مطلقا، فهي بالتأكيد أفضل من أن تصطف هذه الكفاءات في طوابير الباحثين عن العمل. ولكن، حتى لا تتحول تونس إلى مصنع لإنتاج الكفاءات وتصديرها يجب العمل على خلق مناخ جاذب للاستثمارات، وهذا ليس على تونس بعسير.

9