حان وقت التغيير الخادم للناس في تونس

ملفات الزراعة والصحة والتعليم لا تحتاج إلى قانون انتخابي.
الأحد 2022/08/28
ندعم الحرب دون المشاركة فيها مباشرة

عَبَر قطار التغيير السياسي في تونس محطات كثيرة ورئيسية ولا شيء يمنعه من الوصول إلى المحطة النهائية، وهو ما يجعل من المنطقي أن تباشر الدولة معالجة الملفات الأخرى بالسرعة المطلوبة ولا تنتظر القوانين والبروتوكولات، فالناس لم يعودوا قادرين على المزيد من الانتظار.

وضع الاستفتاء على الدستور تونس على سكة الاستقرار بمقاسات قيس سعيد، وهو ما يعني أن المرحلة القادمة ستكون تحت قيادته وبأفكاره. وحتى الانتخابات التشريعية، سواء أكانت على القوائم بتشريك الأحزاب أم من دونها بنظام الانتخاب على الأفراد، ستؤول إلى نتيجة واحدة: قيس سعيد هو الحاكم المستقبلي لتونس وبكل الصلاحيات.

واستنادا إلى هذه المعادلة لم يعد التركيز على البعد السياسي وحده في التغيير مقبولا؛ فهذا المسار واضح والطريق معبدة أمام قيس سعيد، وهذا يعني أن على الرئيس سعيد والمحيطين به أن يبدأوا التغيير الشامل من الآن. يحتاج الناس أن يروا نتائج سريعة على الأرض تقول لهم إن الآتي أفضل، وإن مؤشرات على أن السنوات العشر القادمة أفضل قياسا بالسنوات التي باتت توصف بالسوداء. يحتاج الناس أن يلمسوا ما به سيكون الجديد أبيض وليس أسود.

ومرد الحاجة إلى البدء العاجل بتنفيذ سياسات التغيير قبل الانتخابات، وقبل تركيز النظام المجالسي وتسليم السلطة إلى أبناء الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية القصية والفقيرة، هو أن الوضع يستمر على سوئه القديم، وأن الأزمة الاقتصادية العالمية قد صبت الزيت على النار، فهناك أزمة في السكر والشاي والقهوة والدقيق والخبز والمحروقات، وتراجع قيمة الدينار زاد من تعميق معاناة الناس.

مواجهة غلاء الأسعار وندرة المنتجات بالركون إلى نظرية المؤامرة لم تعد ممكنة اليوم؛ فذاك خطاب تعبوي لم يعد يُقنع

كيف يميز الناس بين العشرية الماضية والبداية الجديدة إذا لم يروا أفعالا على الأرض؟ صحيح أن أغلب الناس دعموا مسار 25 يوليو وصفقوا له، ومازالوا يدعمونه بفكرة أنه سيخرجهم من معاناة العشرية الماضية وأخطائها الكثيرة، وعلى رأسها وصول طبقة سياسية إلى الحكم وهي لا تعرف الدولة ولا طريقة إدارتها، وخضوع السياسيين لنفوذ اللوبيات.

لا بد من الاعتراف بأن الناس قد دعموا قيس سعيد أملا في أن يحدث تغييرا حقيقيا بعيدا عن شطحات الديمقراطية البرلمانية وغياب رأس واحد للسلطة يكون قادرا على تحمل المسؤولية واتخاذ القرار بدل أن يتفرق هذا القرار بين رؤوس ثلاثة لا أحد منهم يسمح للآخر بأن يقرر وينفذ.

لم تكن العودة إلى النظام الرئاسي معبرة فقط عن قناعة قيس سعيد الذي يريد أن يقود ويأمر ويخطط بنفسه ليرى نتائج ذلك على الأرض. كانت عودة بطلب من الشارع قبل ذلك، وهو ما يجعل من الأهمية بمكان أن يرى الناس نتائج سريعة ليعرفوا أن الخيار الذي فرضوه صحيح وسليم وأن قيس سعيد هو الرجل المطلوب لإنقاذ البلاد.

لم يعد من الممكن أن تواجه الدولة أزمة غلاء الأسعار وندرة المنتجات الأساسية بالركون إلى نظرية المؤامرة؛ فذاك خطاب تعبوي نجح في تجميع الناس ضد الطبقة السياسية المتخلية، لكنه الآن لا يقنع، وعلى الدولة أن تعدل خطابها لتقول للجمهور الواسع الذي يثق في قيس سعيد إن هناك مشاكل عويصة بعضها قديم وبعضها
الآخر طارئ، وإن لا أحد معه عصا موسى.

يعرف قيس سعيد والمحيطون به أن الغالبية حسمت الأمر مع رموز المرحلة الماضية وليس هناك حنين بأي شكل إلى عودة أي طرف سياسي أو شخصية ممن ساهموا في الأزمة عن سوء نية أو عن عجز ومحدودية في الإمكانيات، ولذلك فلا داعي إلى الاستمرار في الركون إلى نظرية المؤامرة واتهام جهات مجهولة بالاحتكار وعرقلة جهود الدولة.

الوضوح مهم بالنسبة إلى الناس، فليست تونس مسؤولة عن أزمة السكر والزيت وندرة المنتجات الغذائية. ثمة أزمة عالمية لا يمكن أن تنأى تونس عنها، ولا أحد يهرب من تداعياتها بما في ذلك دول ذات وزن وإمكانيات مثل بريطانيا. لكن المهم في القصة أن تظهر الدولة أو الجمهورية الجديدة أنها تمتلك أفكارا وخيارات إستراتيجية، وألا تقف عند حدود اللطم والتباكي على المؤامرة والمتآمرين.

الأزمة الغذائية العالمية تحتاج إلى سياسة حكومية تشجيعية للزراعة بعد سنوات من هجرة الريف إلى المدينة، بل حتى إفراغ الريف من أهله. والأمر لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة ولا مشاريع عملاقة تبقى حبرا على ورق. ببساطة تنزل الدولة بأفكار صغيرة إلى الناس وتشجعهم بتمويلات بسيطة للقيام بمشاريع صغيرة توفر لهم الغذاء، ويمكن أن تقدم جزءا من المشروع وتشجع ملاك الأراضي الصغيرة على تنفيذ الجزء الثاني من المشروع، ويمكن أيضا أن تقوم بمواجل أو فسقيات صغيرة وتمكّن الناس من الري قطرة قطرة وتترك للمزارعين مهمة غراسة الخضر والغلال حسب نوعية التربة.

حين تنزل الحكومة إلى الناس ستجد لديهم أفكارا كثيرة والأمر لا يحتاج إلى شعبوية ولا إلى شعارات كبرى عن الإصلاح الزراعي والعودة إلى المشروع الوهمي للتعاضد الذي قاد البلاد إلى فوضى في سبعينات القرن الماضي، ومازالت مخلفاته ماثلة للعيان من خلال صراع العروش والعشائر على الأراضي.

الاستفتاء يضع تونس على سكة الاستقرار بمقاسات خاصة
الاستفتاء يضع تونس على سكة الاستقرار بمقاسات خاصة

من الآن وإلى حين وضع القانون الانتخابي ومن ثم إجراء الانتخابات في تونس، تحتاج الدولة التونسية التي يقودها الرئيس قيس سعيد بلا أية منغصات، تحتاج أن تتحرك وأن تصبح فاعلة على المستويات كافة، وخاصة ما يمس حياة الناس بشكل مباشر. عليها ألا تترك التعليم للتجارب الفوضوية، فهي أولى بالإشراف عليه وإصلاحه ومتابعته ليكون متماشيا مع خططها وإمكانيات الناس وخاصة مع ما تريده في المستقبل القريب.

في السنوات العشر الماضية ترك التعليم للنقابات لتتحكم فيه بالتعيينات والقرارات والإشراف على إصلاح لم يتم لأن من الواضح أنها لا تريده لأنه قد يمس من نفوذها. الدولة القوية لا تولد فجأة، يمكنها أن تبدأ بسط نفوذها بخطوات صغيرة من خلال قرارات لا تحتاج إلى فتاوى ولا مراكز دراسات، من ذلك تغيير الأولوية في اللغات بالتعليم. الإنجليزية لغة العالم، وهي الأولى بأن تكون اللغة الثانية بعد العربية بدلا من الفرنسية التي تأخذ مساحة كبيرة من البرامج ولا تصلح لشيء في المستقبل سوى التعامل مع فرنسا.

كما أن الدولة يمكن أن تتخذ قرارا بالتخفيض من ساعات التدريس وحصرها في مواد بعينها على أن تكون بقية المواد في شكل نواد واختيارات حرة للتلميذ حسب ميوله وإمكانياته. لا يمكن أن يأخذ التلميذ من كل شيء بطرف ثم يخرج إلى الحياة العامة، وهو لا يتقن شيئا. الفنون مهمة، والآداب مهمة، لكن الدولة تحتاج إلى نوعية من التعليم مرتبطة بسوق العمل، وهي التي يفترض أن تركز عليها، وهي اختصاصات الصنائع والمهن المطلوبة في الشراكات الثنائية، على أن تترك لمن يريد أن يتخصص في الآداب والفنون حرية أن يفعل ذلك ضمن مسار خاص به ودون أن تتكفل هي بأعباء ذلك، مثلما يحصل في أوروبا.

الدولة التونسية التي يقودها الرئيس قيس سعيد تحتاج بلا أية منغصات أن تتحرك وأن تصبح فاعلة على المستويات كافة، وخاصة ما يمس حياة الناس بشكل مباشر

ومن ضمن المجالات التي يفترض أن تتدخل فيها الدولة وتستعيد دورها فيها ولا تتركها للفوضى، قطاع الصحة. صحيح أن الملف شائك ومعقد، لكن الدولة يمكن أن ترفع شعارا لها استعادته من أيدي التجار في القطاع من خلال مستووين اثنين، الأول تحسين الخدمات وضرب الفوضى في القطاع، والثاني وقف نزيف هروب الكفاءات من أطباء وخاصة من الإطار شبه الطبي من ممرضين ومتخصصين في التصوير والتبنيج الذين باتوا ينتقلون بالعشرات إلى الخارج.

ضمانة جودة الصحة أن تحسن الدولة وضع هؤلاء وأن تضرب ازدواجية المهام بين القطاعين العام والخاص، هذه الازدواجية التي قادت إلى ضرب خدمات القطاع العام وإفشالها بالرغم مما تنفقه الدولة من أموال لشراء الأجهزة المتطورة. هناك مسار تأسس في الماضي لتغليب القطاع الخاص على العام في المجال الصحي يحتاج إلى تصويب حقيقي من أجل عودة الفئات الفقيرة والضعيفة والطبقة المتوسطة إلى القطاع العام واستعادة الثقة فيه، ويمكن أن تفكر الدولة في تغيير نظام التداوي المجاني إلى تداو بمقابل مالي أقل من أسعار القطاع الخاص الملتهبة، فتكسب الدولة ويكسب الناس.

هناك ملفات كثيرة مفتوحة وشائكة، واتخاذ خطوات عاجلة فيها لا يحتاج إلى قوانين انتخابية أو برلمان أو مجلس للجهات؛ يحتاج إلى حكومة متحملة لمسؤوليتها وإلى سلطة قوية تتخذ القرارات اللازمة في الوقت المناسب. وهي اختبار حقيقي للرئيس سعيد الذي سيحتاج إلى تغييرات كبيرة في محيطه من أجل الاستعانة بخبرات وكفاءات مغامرة وجريئة وتؤمن بالتغيير دون خوف ولا حسابات.

6