جيانو نازارو يبكي ويحكي تجربته مع السينما الوثائقية السورية

ختم السينمائي الإيطالي جيانو نازارو حواره مع “العرب” بالدمع الذي امتزج مع انشغاله الإنساني والجمالي بما ينتجه المخرجون السوريون من سينما وثائقية جديدة، تبدع وتنتفض وتصرخ في وجه الظلام، وتلتهب ضدّ اليأس والاستسلام.
الثلاثاء 2015/06/30
جيانو نازارو يشتغل على السينما الوثائقية تنظيرا وممارسة

جيانو نازارو هو أحد أشهر مبرمجي الأفلام في إيطاليا وأوروبا، ومن أكثر هؤلاء السينمائيين الأوروبيين، أيضا، في ما يتعلق بمتابعة المشهد السينمائي في العالم العربي. وحين نتحدث عن نازارو نتحدث عن الفيلم الوثائقي، وهو أحد النقاد، أيضا، فكان ممن اشتغلوا على السينما الوثائقية تنظيرا وممارسة، ونقدا وبرمجة.

في هذا الحوار الخاص مع “العرب” يتحدث نازارو عن السينما والسينما الوثائقية، وعن الوثائقية العربية، حيث يراها تعبيرا صارخا على الجانب الدرامي في الحاضر العربي الدامي.

ويبدأ السينمائي الإيطالي بالحديث عن ارتباطه بالسينما العربية والسينمائيين العرب، خاصة في المنافي، معتبرا أن انشغاله بسينما العالم العربي مثل فرصة ثقافية وفنية للقاء والتحاور، بين الشعوب المتوسطية.

مشهد سوريالي

يقول نازارو “إننا نعيش بين ضفتي بحر أصبح مقبرة ضخمة، نحن أمام مأساة فظيعة، يجب التعامل معها بهيبة واحترام، وعدم السقوط في الخطابية المبتذلة”، في إشارة إلى ما يجري في العالم العربي، بعد الربيع العربي الدامي متواصل النزيف، على حدّ استعارته.

من هنا، يقول محدثنا إن السينما “مثل دائرة للمقاومات، كلنا يحاول إطلاق إشارات، تدل على إمكان اللقاء، ينظر بعضنا في عيون البعض الآخر عبر الأفلام، لأن مشاهدة فيلم ما هي إلّا محاولة لملامسة الآخر، بطريقة أبعد ما تكون عن التجريد”.

وعن الأعمال السينمائية العربية الراهنة، كما يتابعها نازارو، فهي عنده أشبه ما تكون بـ”شرارات تدل على أن نارا هامدة قد تشتعل في أي وقت”، وأن السينما العربية، في صلة بالتحولات العربية الجارية، تدخل منعطفا جديدا، وهي تعد بتجربة سينمائية متفردة، تحمل لغتها وفعلها الدرامي النبيل التام، حسب عبارة المعلم الأول أرسطو.

هذه الأفكار، يقول نازارو، إنه تقاسمها مؤخرا مع عدد من المخرجين والسينمائيين العرب، يذكر منهم بالاسم كلا من: ميشيل خليفي ونوري بوزيد ويسري نصرالله.

ويضيف “ولن تفوتني هنا الإشارة بشكل خاص إلى المخرجين السوريين، أي الشتات السوري الذي يتنقل بين المنافي. هم أبدعوا سينما وموجة جديدة ضد اليأس والاستسلام، وأفلاما وثائقية تصرخ في وجهنا، ها نحن حاضرون، فأين أنتم؟ وماذا فعلتم؟

يتساءل جيانو نازارو، ويمتزج السؤال بدموع تكشف عن رؤية وجدانية مرهفة، وتعاطف إنساني نبيل مع “السينما في الوطن العربي والوطن العربي في السينما”، معلنا أن المشهد “السوري” قد تحول إلى مشهد “سوريالي” لا يتقبله العقل، لتصبح السينما الوثائقية سينما غير واقعية، لا يصدقها العقل، ولا يتحملها القلب.

جيانو نازارو يؤكد أن الأفلام الوثائقية باتت تصرخ في وجهنا: ها نحن حاضرون، فأين أنتم؟ وماذا فعلتم؟

والسينما هي صناعة الأحلام عند جيانو نازارو، وأما المهن السينمائية فلا حصر لها، ومن بينها مهنة “البرمجة”، التي لا تعدم رؤية نقدية وموقفا ووجهة نظر حول الفن السينمائي. ومحدثنا هو مبرمج أفلام في عدد من المهرجانات الأوروبية، ومنها مهرجان سويسرا السينمائي للفيلم الوثائقي. عن هذه التجربة الأخيرة، يقول نازارو إنه يشتغل ضمن فريق عمل يضم رئيس المهرجان، وخمسة أشخاص مبرمجين، أي أنهم مسؤولون عن اختيار الأفلام في مهرجان مخصص للفيلم الوثائقي.

ويوضح نازارو بقوله “ابتداء من شهر سبتمبر نتلقى أفلاما بصيغ مختلفة، في كل أنواع المسابقات: مسابقة كبرى، مسابقة النظرة الواعدة الجديدة، مسابقة الأفلام المتوسطة، مسابقة الخطوة الأولى، مسابقة الأفلام القصيرة، ومسابقة الأفلام الناجحة”.

ويسترسل “في البداية نختار ما بين 150 و170 فيلما من كل الأجناس. ونتحرى الحذر في عملنا، ففي الشهرين الأولين نتلقى في الأغلب الأعم أفلاما رفضت في مهرجانات أخرى، ولكن ابتداء من شهر نوفمبر تصلنا أفلام أنتجت لتعرض في مهرجانات كبرى مثل مهرجان كان أو البندقية وغيرهما”.

ومنهجية عملهم واضحة المعايير، حيث لا يختارون سوى أفلام جديدة، أي تلك التي لم تعرض إلاّ مرة واحدة في البلد الذي أنتجت فيه. والبرمجة في نظرهم فعل نقدي، يستند إلى رؤية، فالسينما بالنسبة إليهم حوار مع العالم وعلاقة بأشيائه. والسؤال الذي يطرحه أعضاء اللجنة لا يتعلق بالمضمون، ولكن بكيفية تفاعل الشكل مع العالم. وكما قال كافكا “العالم لا يجيب إلاّ على الأسئلة التي تطرح عليه مباشرة”، حسب تعبير نازارو.

أفلام وأحلام

عن الفيلم الوثائقي، وضد تلك النظرة التي ترى فيه جنسا سينمائيا لا يرقى إلى الأجناس السينمائية الأخرى، حيث أن المخرج في نظر البعض يكتفي فيه بنسخ الواقع وإعادة إنتاجه.. يقول نازارو إنه لن يجيب على هذا السؤال “انطلاقا من تعصب لجنس معين من السينما، وهو تحديدا الفيلم الوثائقي، على اعتبار أنني مسؤول في مهرجان مخصص لهذا الجنس، بل أجيب انطلاقا من متعة السينما”.

الفيلم الوثائقي طاقة خلاقة، وهو الخزان الذي يمدّ السينما بمادتها الأولى، هو الماء والهواء والكهرباء

صحيح أن النظرة الدونية للفيلم الوثائقي سادت لفترة طويلة، يسجل نازارو، ولكن لحسن الحظ، فهذا الموقف تغير بشكل ملموس. والسينما الإيطالية اليوم، مثلا، فيها أعلام كبار في مجال الفيلم الوثائقي.

وبالنسبة إليّ، يضيف المتحدث “فالفيلم الوثائقي طاقة خلاقة، وهو الخزان الذي يمدّ السينما بمادتها الأولى، هو الماء والهواء والكهرباء. يمكن أن نثق في الفيلم الوثائقي لأنه يتحدث انطلاقا من مكان معين، أما الفيلم الروائي التخييلي، فالمخرج يتوفر فيه على إمكانية التخفي وراء الشخصيات والسيناريو”.

ويؤكد نازارو أنه لا يقيم هنا أي تراتبية بين الاثنين، ففي كل الأحوال، يظل الوثائقي في نظره نوعا من الالتزام تجاه الواقع ولكن عبر أدوات السينما، حيث يستعمل المخرج هذه الأدوات لحكاية العالم.

أما عن السينما الإيطالية، فما يسجله نازارو هو أن التجربة الإيطالية لم تعد تتوزعها تيارات ومدارس، كما كان عليه الحال في القرن الماضي، بل “أصبحنا أمام أفراد لهم رؤية خاصة، وكل يبدع انطلاقا من تصوره للسينما، وإن كانوا جميعا يقدمون سينما رفيعة”.

ومع ذلك لا ينكر نازارو هيمنة السينما التجارية، وانسياق الآلة الإعلامية وراءها، ما جعل بعض الأفلام تحقق إيرادات كبرى وجماهيرية واسعة. أما عن السينما المتميزة برؤية معينة للواقع، من قبيل سينما المؤلف، فإن هناك استثناءات قليلة.

ويستشهد محدثنا هنا بفيلم “الشاب الرائع″ وهو آخر أعمال ماريو مارتوني، وفيلم “حكاية سباغيتي” الذي كان في الأصل فيلما وثائقيا، وتحول إلى فيلم روائي، واستقطب جمهورا غفيرا، وهناك أفلام جديدة تعرض في القنوات التلفزيونية.

كما يستحضر نازارو تجربة صديقه المخرج الإيطالي ستيفانو سوليما، والذي أبدع سينما ذات بعد فني راق، ومسلسلات، وخاصة مسلسل “كومورا”. وهو مخرج يبدع “مستحضرا الخصوصية الإيطالية، ولا يحاكي نموذجا ما جاهزا، كالنموذج الأميركي”.

هناك أيضا سابريو كونستانسو الذي ينتصر لسينما المؤلف، وفرانكو مارسكو، بأفلامه المستغلقة على الجمهور العريض.. وتجارب أخرى وحكايات ورؤى يواصل السينمائي الإيطالي الحديث عنها، ويريد أن يتقاسمها باستمرار مع قراء “العرب” وكل السينمائيين العرب.

16