جو بايدن العائد إلى الشرق الأوسط بعد خرابه

عدا عن دلالاتها الأميركية - الإسرائيلية وما تعمّده الرئيس جو بايدن من تلميح خلال كلمته في القدس، صحبة رئيس حكومة تصريف الأعمال يائير لابيد، فإن إشارة الرئيس الأميركي إلى زياراته السابقة إلى الشرق الأوسط، ومن بينها ما دار بينه وبين غولدا مائير قبل خمسين سنة، تصبّ في هدف طمأنة الإسرائيليين إلى أن إدارته ماضية في مسار استعادة ثقتهم، بعد أن تيقنوا أن مشكلتهم مع باراك أوباما ما تزال مستمرة مع بايدن.
العرب من جهتهم، وصلوا أخيرا إلى قناعة بأن حلفاء الولايات المتحدة ليسوا محظوظين أكثر من خصومها، بل إن الأخيرين قد يغنمون بشيء من عداوتهم لها، بينما يخيب أمل أصدقاء واشنطن كل مرة.
اضطر الإسرائيليون إلى جلب بايدن إلى طاولتهم والحصول على تعهّد خطي منه بأن بلاده لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي، متجسدا بما سمّي بـ"إعلان القدس". ويا لتلك الورقة التي لا تساوي الحبر الذي وقّعت عليه، إذا ما نظرنا إلى الكيفية التي تعاملت فيها أميركا مع خطر النفوذ الإيراني، خلال العقود الماضية. ومن المفارقات أن من يوقّع على ذلك التعهّد ليس الإيرانيون بل الرئيس الأميركي، لمعرفة الإسرائيليين الدقيقة بأنه لولا الضوء الأخضر الأميركي الموقد في وجه إيران لما وصلنا إلى هذه اللحظة.
لم يذكّر الإسرائيليون بايدن بأن بلاده، والإدارة الديمقراطية ذاتها التي كان خلالها نائبا للرئيس، أهدت العراق كلّه لإيران على طبق من فضة، وتركتها تبتلع سوريا، واليمن ولبنان، وأتاحت لها المجال لتهديد عواصم الخليج بمسيّراتها وصواريخها، فلماذا ستحتاج إيران لسلاح نووي بعد ذلك كله؟
حلفاء على مفترق الطرق
كان بايدن أول من رفع صوته محذّرا من نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لغزو أوكرانيا، وكانت أجهزته في واشنطن تدرك أن هذا سيخلق نظاما عالميا جديدا، لكن الصدفة شاءت، أو أراد لها الكرملين ذلك، أن يرى هذا العالم النور في عهد رئيس يوصف بالضعيف. والآن وقد انطلقت آليات تشكّل النظام العالمي الجديد فهل الولايات المتحدة مستعدة لمثل هذا التغيير الكبير؟
تبدو ديون واشنطن كبيرة لصالح حلفائها في الشرق الأوسط الذين أهملهم بايدن لسنة ونصف السنة من رئاسته، حتى أنه لم يعيّن سفيرا دائما لبلاده في العاصمة السعودية، ففريقه اكتشف أخيراً أن الاستراتيجية المتبعة في التعامل مع هؤلاء غير مجدية، بل ضارة بمصالح الولايات المتحدة ضررا بالغا، بعد أن قرّر العرب التلويح أيضا بما يتوجب على حليفتهم الكبرى دفعه، سواء في حرب الطاقة، أو في مسألة هندسة الأمن.
◙ استراتيجية بايدن المتبعة في التعامل مع الحلفاء العرب لم تكن مجدية، وها قد قرّر العرب التلويح بما يتوجب على حليفتهم الكبرى دفعه، سواء في حرب الطاقة، أو في مسألة هندسة أمن الشرق الأوسط
يستغرب المحللون الأميركيون أن تكون الولايات المتحدة "في حاجة إلى السعوديين" على سبيل المثال، يعتبرونه أمرا "مزعجا ومؤلما"، وهو تحوّل كبير في العقلية السياسية الأميركية التي لم تعهد مثل هذا النمط من العلاقات من قبل، ألم ير العالم كيف كان بايدن مصدوما وهو يستمع إلى الرسالة التي نقلها إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أسابيع من رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة حول موقفهم وموقف الرياض من زيادة إنتاج النفط. يهمس مستشاروه في أذنه ”إن الشرق الأوسط الذي تزوره الآن لن يكون مثل ذاك الذي اعتدت عليه“.
لم يعد هناك جدار شاهق بين العرب والإسرائيليين، وإن بقيت قضايا معلقة، لكن هذه الورقة تم سحبها من الأميركيين، ولم تعد زيارات المسؤولين البيض من خلف المحيط الأطلسي إلى الشرق محمولة على التبشير بالسلام، فالسلام قد انطلق والتطبيع بات حقيقياً وله مساراته التي تختارها كل دولة حسب مواقيتها السيادية الخاصة.
البديل لدى العرب جاهز، الحلف الأوراسي، روسيا والصين، ويمكن في لحظات صعبة مثل التي يعيشها بوتين أن ينتزع منه العرب الكثير، حتى علاقاته التي تسير على الحافة مع الإيرانيين، فما الذي يمكن أن يقدمه لهم بايدن أفضل من ذلك؟
ما يزال العرب قادرين على أخذ زمام المبادرة، حتى في مشاريع من نوع الناتو الشرق أوسطي القائم سلفا دون أن يكون معلنا موثقا باتفاقية وشعار، شاملا الدول العربية وإسرائيل، على اعتبار أن التهديد المشترك كفيل بوجود تنسيق مشترك، والخطر الإيراني بات أكثر من أن يترك للمزيد من التمادي.
حتى أن لابيد لم يجد نفسه مضطرا للتوسع في الإجابة على سؤال طرحته صحافية إسرائيلية عن مستقبل التطبيع مع الرياض، ولو أن اللغة أفلتت منه حين قال "أما حول سؤالك عن رحلتنا إلى الرياض"، إلا أنه اكتفى بأن زيارة بايدن إلى هناك تعني أن الأمور ستكون بخير.
أميركا جديدة وشرق جديد
ألا يصدق هنا وصف عاموس جلعاد رئيس معهد السياسة والاستراتيجية بتل أبيب حين يقول "الخبر السار هو أنه، على عكس الماضي، فإن السعودية الدولة المهمة للغاية في الشرق الأوسط، لم تعد تتبع سياسة عدائية ضد إسرائيل".
بايدن نفسه كتب في "واشنطن بوست" مقالا قبل أن تقلع طائرته باتجاه المنطقة، بعنوان "لماذا سأذهب إلى السعودية؟"، قال فيه إنه سيكون أول رئيس أميركي يطير مباشرة من إسرائيل إلى جدة في السعودية، مضيفا قوله إن هذا يعتبر "رمزا صغيرا للعلاقات الناشئة وخطوات التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي الذي تعمل إدارتي على تعميقه وتوسيعه".
◙ بايدن يريد أن يكرّس ما تحدث عنه في فندق "والدورف إستوريا" بالقدس أن الغرض من زيارته بيان أن أميركا (مستمرة في قيادة المنطقة).
ألم يكن هو من قال خلال حملته الرئاسية إن السعودية يجب أن تعامل كدولة "منبوذة"؟ حسنا، الآن تغيّرت الأحوال، لكن هل ستكتفي الرياض بهذا اللسان المعسول في زمن لم تعد تنطلي فيه الكلمات على من يجلسون تحت خطر المسيّرات الإيرانية من فوقهم وفوق سيول المخدرات والسلاح والنعرات الطائفية التي تدفع بها أذرع إيران إلى بلدانهم ومجتمعاتهم.
لكن بايدن مستعد لفعل كل شيء في سبيل قطع الطريق على بوتين، فالهزيمة هنا ليست لأوكرانيا والأوروبيين وحسب، بل للناتو ومن خلفه بايدن والديمقراطيون وسيكون لزلزال أوكرانيا ارتدادات قد نرى شروخها في المكتب البيضاوي نفسه.
ما هي ملامح الفصل الجديد الذي يروّج له بايدن في العلاقات الأميركية مع دول الشرق الأوسط؟ يقول إن المنطقة تحوي "ممرات مائية ضرورية للتجارة العالمية"، إذاً كلُّ شيء يبتعد ثم يعود إلى أوكرانيا وآثار الحرب الروسية عليها اقتصاديا، والبعد الاقتصادي هو ما يملكه بايدن لمخاطبة جمهوره في أميركا لشرعنة تغيير سياسة إدارته، أو على الأقل للتخلص من هيمنة إرث أوباما، أما البعد الأمني فهو ما يهم الجانب العربي، ويساعدهم في هذا جنرالات بايدن أنفسهم الذين حذروا من أن المزيد من إهمال الشرق الأوسط سيجعل منه منطقة "تتعرض لضغوط خطيرة".
مهمة متعددة الأوجه
مهمة بايدن متعددة الأوجه تحيله إلى مندوب مكلّف بحماية مصالح الجميع تقريبا، فحلفاؤه الأوروبيون يشتكون من تأرجح اليورو الذي أصبح مساويا لدولار واحد، ويضعون أيديهم على قلوبهم حين يفكّرون في الشتاء القادم وكيف سيكون عليه وضع الطاقة والتدفئة وغلاء الأسعار والانفجارات المتوقعة في شوارع المدن الأوروبية احتجاجا على تضرر الاقتصاد.
سيطلب بايدن من العرب خفض أسعار النفط، وسيطلب منه العرب الكثير بالمقابل، ومن يدري لعل لديهم هذه المرّة خطة استراتيجية أكثر بعدا من ذي قبل، لا تكتفي بتوقيع اتفاقيات مثل التي وقعها بايدن في إسرائيل، فالأخيرة قادرة على حماية أمنها، بينما العرب بمتناول اليد الإيرانية ولا توازن ردع قائماً بينها وبينهم.
قال بايدن في فندق "والدورف إستوريا" بالقدس إنه يريد أن يوضح من خلال زيارته أن أميركا "مستمرة في قيادة المنطقة". ولكن كيف لهذا أن يُترجم عملياً؟ والقواعد العسكرية الأميركية نفسها تتعرض إلى صواريخ إيران؟ وهل سيخلق هذا الضغط كله، والحاجة الأميركية إلى الدعم العربي نوعاً من التحول التاريخي لخلق النظام العالمي الجديد بصورة حادة هذه المرة؟
كانت غولدا مائير تعرف ما تقول حين نظرت إلى وجه بايدن قبل خمسين سنة، وهو إذ يستحضرها اليوم، يتذكّر ما قالته له لتطمينه، بدلا من الحصول على الضمانات منه، قالت له "لا تقلق لدينا دوما سلاحنا السرّي. ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه". أما العرب، في جميع البلدان التي يتهددها خطر المشروع الإيراني، فيبدو أنهم لم يصلوا بعد إلى تلك القناعة العميقة التي تحلّت بها رئيسة وزراء الدولة التي حاربوها وحاربتهم طيلة العقود الثمانية الماضية.