جونسون يدشن عقدا جديدا من هيمنة حزب المحافظين

فوز المحافظين يؤكد الظاهرة الآخذة في الانتشار بالعالم، وهي انحسار المد الاشتراكي، وهزيمة اليسار، وأن الشعبوية يعلو صوتها فوق الجميع.
الثلاثاء 2019/12/17
بوريس جونسون يتقن لغة وسطية تعتمد الإقناع في حل مشاكله

انتهت الحملة التي قادها المعارضون لوقف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي تتجه الآن نحو “عقد جديد من هيمنة حزب المحافظين”. حدث ذلك بفضل رجل واحد هو، بوريس جونسون، كما يقول الصحافي البريطاني، آدم بينكوف، ويشاركه الرأي كثيرون.
لقد أعاد رئيس الوزراء البريطاني رسم خارطة المملكة المتحدة الانتخابية، بفوز مدوّ على حزب العمال في انتخابات 12 ديسمبر، منهيا بذلك فوضى وجدلا وتبادل اتهامات على مدى ثلاث سنوات، تلت التصويت عام 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبي، بين طرف مؤيد وآخر رافض حاول أن يصوّر الانسحاب من الاتحاد “قيامة” تنهي بريطانيا وتدمر اقتصادها.

واختارت بريطانيا حينها الخروج من المشروع الأوروبي بأغلبية ضئيلة. ومنذ الاستفتاء يناقش المسؤولون البريطانيون جدوى قطع العلاقات مع الدول الـ27 الأعضاء في التكتل.

تغيّر كل شيء في اللحظة التي أعلن فيها عمدة لندن السابق، بوريس جونسون، دعمه حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي. راهن جونسون على شعبيته الكبيرة لدى الرأي العام البريطاني. ولم يصغ لرئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون، الذي حاول إقناعه بالوقوف إلى جانب الحكومة من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي. وكانت استطلاعات الرأي تؤكد أن وقوف جونسون مع الجانب المدافع عن الخروج، سيكون له تأثير كبير على الناخب البريطاني.. وهذا ما حدث.

الذين منحوا أصواتهم لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016، عادوا إلى صندوق الاقتراع وهم أكثر عزما على التصويت لصالح المحافظين، وانضم إليهم العديد من أنصار حزب العمال.

ناضلت بريطانيا طويلا ضد هيمنة النقابات، التي شلت في الماضي البلاد وعطلت دورة الإنتاج، ولم تعد الاحتجاجات والمسيرات تغري الشارع البريطاني، الذي بات يفضل التعامل مع لغة وسطية تعتمد الإقناع في حل مشاكله

سر نجاح جونسون يكمن، حسب بينكوف، في قدرته على أن “يقول أشياء لا يستطيع الآخرون قولها. ورغم أن تصريحاته تكون أحيانا غير موفقة ولها نتائج عكسية، إلا أن الناس لا ينسونه“.

قبل دخوله إلى عالم السياسة، كان جونسون صحافيا ناجحا. وخلال فترة توليه منصب عمدة لندن كان أجره كصحافي يفوق ما كان يجنيه من وظيفته السياسية. وبعد ثماني سنوات عمل فيها عمدة لبلدية لندن، عاد عام 2015 إلى البرلمان نائبا.
عرف عن جونسون تصريحاته الجريئة، وروح الدعابة التي تميز بها، وهو يختلف بذلك عن باقي السياسيين البريطانيين.
وخلال حملة انتخابية برلمانية، جرت عام 2005، خاطب الحاضرين قائلا “إذا اخترتم مرشحا للمحافظين، فإن زوجته ستجري عملية تكبير لصدرها، وستزداد حظوظها بامتلاك سيارة ‘بي.أم.دبليو.أم 3′”. وظهر عام 2012 في شريط فيديو خلال دورة الألعاب الأولمبية في لندن عالقا في عربة نقل بالكابلات فوق حشد من الناس في حركة وصفت بالبهلوانية. وكانت بالنسبة للكثيرين لحظة لا تنسى، وقد حصد هذا الفيديو ملايين المشاهدات.

صورة جونسون كمنتصر عززها فوزه بمنصب عمدة لندن خلال عام 2008، على حساب مرشح حزب العمال كين ليفينغستون، كان ذلك أول فوز كبير للمحافظين منذ عام 1997، وفوزه مرة ثانية عام 2012 متقدما على نفس المرشح.

واليوم، بينما يتجرع حزب العمال مرارة أسوأ هزيمة له منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية. يثبت جونسون، الذي يتمتع الآن بأغلبية برلمانية كبيرة، بعد أكبر فوز لحزبه المحافظ منذ عهد مارجريت تاتشر قبل 32 عاما، أنه سيد المشهد السياسي في لندن بلا منازع. وبإمكانه أن يتفرغ، بعد إكمال الخروج من الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية يناير المقبل، لإعادة تشكيل الاقتصاد البريطاني.
أول التشريعات التي سيصوت عليها النواب الجدد سيكون قانون اتفاق الانسحاب. فلا شيء يعيق الآن البرلمان البريطاني لإعطاء الموافقة على اتفاق الطلاق الذي أبرمه جونسون مع بروكسل، كي تخرج بريطانيا في 31 يناير وتكافئ “ثقة الناس بتنفيذ بريكست”، دون مزيد من التأخير.

فوز المحافظين يؤكد الظاهرة الآخذة في الانتشار بالعالم، وهي انحسار المد الاشتراكي، وهزيمة اليسار، وأن الشعبوية يعلو صوتها فوق الجميع.
تخلى جونسون عن طباع المحافظين وما عرف عنهم من حرص، حينما يتعلق الأمر بالوعود الانتخابية، ووعد ببرنامج إنفاق اجتماعي ضخم، خلال حملته التي استمرت خمسة أسابيع، سعيا لجذب الأصوات المستقبلية للناخبين التقليديين من أنصار حزب العمال، الذين حولوا ولاءاتهم ومنحوا أصواتهم للمحافظين.

ويتضمن البرنامج الجديد لجونسون أول التزام قانوني بزيادة الإنفاق على “هيئة الخدمات الصحية الوطنية” (أن.آتش.أس). في خطوة الهدف منها تبديد المخاوف من انتهاء عهد الرعاية الصحية المجانية، وتعتبر أيضا ردا على اتهامات وجهها زعيم حزب العمال، جيرمي كوربين، للمحافظين، قائلا إن لديه أدلة على محادثات سرية أجرتها حكومة جونسون مع واشنطن، بشأن برنامج الخدمات الصحية، والتعامل مع قطاع صناعة الأدوية الأميركي، في إطار اتفاق تجاري مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مرحلة ما بعد بريكست.

راهن جونسون على شعبيته الكبيرة لدى الرأي العام البريطاني. ولم يصغ لرئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون، الذي حاول إقناعه بالوقوف إلى جانب الحكومة من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي

ورغم تصدر الخدمات الصحية الوطنية اهتمامات الناخب البريطاني بكافة انتماءاته السياسية، فشلت اتهامات كوربين في إنقاذ حزبه أمام صناديق الاقتراع التي لم يكرم فيها العمال. ورأى الكثيرون أن نتائج الانتخابات تعكس التأييد الساحق من الناخبين لفكرة الولاء للقومية البريطانية، ورسالة لهؤلاء الذين اعتقدوا أن مفهوم “القومية” عفى عليه الزمن، ويجب عليهم إعادة النظر في وجهة نظرهم هذه.

الموضوع لا علاقة له بالقومية، البريطانيون توقفوا منذ زمن بعيد عن النظر لأنفسهم بوصفهم قومية، بريطانيا بالنسبة لهم وطن، وخيارهم الانسحاب من الاتحاد الأوروبي هو خيار وطني بالدرجة الأولى. وهو هزيمة للاشتراكية وقوى اليسار بالدرجة الثانية.
لقد قدم كوربين للناخبين البريطانيين حجما من الوعود يكفي حسب ظنه لشراء أصواتهم، من ضمنها المزيد من الإنفاق على خدمات الصحة الوطنية، وتأميم قطاعات السكك الحديدية والمياه والطاقة، وهي وعود لم تلق قبولا أو صدى لدى الناخب البريطاني.
الخطيئة الكبرى التي ارتكبها كوربين هي “صهر حزب العمال داخل بوتقة الاشتراكية”، ليصبح الحزب رهن سيطرة اليسار المتشدد، وهي القوى التي فقدت مصداقيتها، وفقدت معها أيضا القدرة على إقناع الناخبين المعتدلين بمنحها أصواتهم.
ناضلت بريطانيا طويلا ضد هيمنة النقابات، التي شلت في الماضي البلاد وعطلت دورة الإنتاج، ولم تعد الاحتجاجات والمسيرات تغري الشارع البريطاني، الذي بات يفضل التعامل مع لغة وسطية تعتمد الإقناع في حل مشاكله، وهي لغة يجهلها كوربين ويتقنها جونسون.

6