جولة جهادية جديدة تمتطي أحداث غزة

مشهد تسرّب تلاميذ المرحلتين الابتدائية والإعدادية للمشاركة في التظاهرات المنددة بالعدوان على غزة في بلد كتونس مثلا، يثير الريبة والحذر، ويتجاوز كونه مجرد موجة من التعاطف الجارف مع ما يعانيه المدنيون الفلسطينيون من قصف وتهجير وتجويع.
وإذا ما تمعنّا في هذه الجحافل السائرة والمسيّرة من الإناث والذكور وأنصتنا للهتافات التي يطلقونها تحت نظر معلميهم وامتنانهم، نتفطن إلى أن المشهد لا ينبغي له أن يسرّ الخاطر، تماما وبتلك الطريقة التي يثني فيها بعض الكبار على وعي هذا الجيل و”حسّه القومي والنضالي”.
غالبية أولياء التلاميذ أنفسهم، غير راضين عن تسيب أبنائهم رغم عدالة القضية التي تركوا الدروس لأجلها، واستمع أصحاب تلك الرؤوس الصغيرة اليافعة لمنظمين كبار ملتحين يشحنونهم ويلقّنونهم الشعارات والهتافات، إلى جانب بعض الانحرافات التي تحدث من هنا أو هناك خارج أسوار المدرسة.
◙ الجهاديون والتخريبيون من المتحالفين مع زعماء الفساد يبحثون عن التفاصيل كي يتسربوا إليها.. وليس أنسب لهم من القضية الفلسطينية كي يركبوها نحو مآربهم
بعض المدرسين ناسبهم هذا التملص من التزاماتهم المهنية وزكّوها ببضعة شعارات نقابية تفوح منها رائحة السياسة والاستقواء على الحكومة ضمن وضع اجتماعي هش.
الإسلاميون وحلفاؤهم جاءتهم الفرصة “من الجنة والناس” فطفقوا ينظمون الاجتماعات والوقفات التي في ظاهرها مناصرة للقضية الفلسطينية، وفي باطنها مآرب أخرى تتعلق بتصفية الحسابات مع الدولة التي بسطت نفوذها واحتكرت سلطتها في مواجهة رموز الفساد والعمالة للأجندات الخارجية المشبوهة.
يحدث هذا في تونس، مهد ما عرف بالربيع العربي وموطن كل شيء قابل للاشتعال في ظل معطيات إقليمية ودولية شديدة الأهبة والحساسية والتأويل بعد ما حصل في غزة يوم السابع من أكتوبر الماضي، وما انجرّ عنه من انتقام إسرائيلي فاق كل متوقع، ودفع حتى بالدول الصديقة والمتحالفة مع أميركا إلى مراجعة حساباتها وسياساتها.
هذا الظرف يشبه تماما، ما حصل بعيد 11 سبتمبر 2001 حين عمد طيارون انتحاريون إلى ضرب مركز التجارة العالمي في نيويورك، وحصل ما حصل بعدها من غضب أميركي واستنفار عالمي وانتقام إسلامي فاق كل وصف بل وغير خارطة العالم راسما إستراتيجيات جديدة أدت بدورها، إلى ما نعيشه الآن تعاقب فصول غريبة الأطوار.
يسهل للمتكئين على نظرية المؤامرة تفسير ما يحدث انطلاقا من فكرة أن كل شيء كان مهيئا سلفا، وأن ما يحدث حاليا ما هو إلا تنفيذ جيد أو رديء لسيناريوهات تكتب في الغرف المظلمة.
◙ الجولة الجهادية الجديدة قد وجدت ضالتها في فلسطين هذه المرة.. وثقل القضية الفلسطينية في بلد كتونس مثلا، يكاد يعادل أو يزيد عن ثقلها في فلسطين نفسها
أما ما يصعب توقعه وتفسيره ضمن هذه النظرية، أن مجموعة من الانزياحات والمفاجآت والارتجالات ستحدث ونحن ننساق إلى ما أريد لنا الذهاب إليه، وهو التعويل على ردات الفعل التي ستحدث في الشارع السياسي العربي بعد أحداث غزة.
مقياس “ريختر السياسي” في مثل هذه الأحداث هو ما سوف يقوله ويفعله الإسلاميون بعد السابع من أكتوبر، خاصة وأن أطراف العملية إسلامية بامتياز: حركة إسلامية تقود الهجوم والمقاومة، دولة إسلامية تتمثل في إيران هي التي تمول وتغذي وتحرك أذرعها في المنطقة الممتدة من العراق إلى اليمن مررا بلبنان وسوريا.. وتطمح لأن تطول أذرعها أكثر لتشمل مصر والمغرب العربي.
الكل بعد أحداث غزة يسبح في فلك إسلامي ذي نفس جهادي واضح، فالشعارات المرفوعة إسلامية عروبية، وأساليب التحشيد والتحليل إسلامية وإن بدت بعيدة عن المزاج الجهادي في نسخته الداعشية، لكنها “دعوات إلى الجهاد” في مجملها.. والأخطر من ذلك أن يساريين وعروبيين و”قوى ديمقراطية أخرى” تتبنّاها وتدعو إليها.
هذا هو المشهد في توصيفه العام على امتداد العالم العربي، وإلا فما معنى أن ينتظر الناس زعيم حزب الله، حسن نصر الله، كي يدلي بدلوه ويقول كلمته في ما يحدث، وما تفسيرنا لدخول الحوثيين على الخط، وما هو رأيناه في الشعارات التي يرددها تلاميذ المدارس المتسربين من صفوفهم في تونس لمناصرة أهالي غزة.
◙ الإسلاميون وحلفاؤهم جاءتهم الفرصة “من الجنة والناس” فطفقوا ينظمون الاجتماعات والوقفات التي في ظاهرها مناصرة للقضية الفلسطينية، وفي باطنها مآرب أخرى
حصل ما يشبه هذا المشهد بالتمام والكمال أثناء التحشيد للجهاد الإسلامي في تونس بداية 2011، وانتهت الظاهرة بمآس وفواجع لا تزال البلاد تعاني من تبعاتها.
ليس أول الرقص إلا حنجلة، وها هي تبدأ بمسيرات ومظاهرات تبدأ عفوية دائما، وسرعان ما يدنس براءتها إسلاميون يمتطون صهوتها بالوعي الزائف والتسليح والتسفير والحث على الجهاد، كما يروّج الآن إلى الدعوات لفتح الحدود والجهاد لتحرير فلسطين.. وفي غفلة أو تعام من بعض القوى الديمقراطية والعلمانية واليسارية التي تساند حماس تحت ذريعة أنها تقاوم الاحتلال.
غاب عن أذهان هؤلاء أن كل المصائب السياسية والاجتماعية عبر التاريخ القديم والحديث تبدأ بشعارات في ظاهرها إنسانية وتقدمية، ثم تنتهي بإحصاء الضحايا ومحاولة جبر الأضرار بعد فوات الأوان.
الجهاديون والتخريبيون من المتحالفين مع زعماء الفساد يبحثون عن التفاصيل كي يتسربوا إليها.. وليس أنسب لهم من القضية الفلسطينية كي يركبوها نحو مآربهم.
محللون أوروبيون تفطنوا إلى المسألة وحذّروا منها منذرين بتزايد منسوب العنف في أوروبا والعالم، ذلك أن الجولة الجهادية الجديدة قد وجدت ضالتها في فلسطين هذه المرة.. وثقل القضية الفلسطينية في بلد كتونس مثلا، يكاد يعادل أو يزيد عن ثقلها في فلسطين نفسها، أما عن الأسباب والدوافع، فتبقى إسلامية دائما وإن أغمضنا عيوننا عن الواقع، لذلك اقتضى الأهبة والحذر.