جوسيبي أنجاريتي.. صوت الشعر الحي

شاعر خرج بقصائده من خنادق الحرب إلى شفافية الروح.
السبت 2023/02/04
شاعر كرس أعماله لقصة حياة الإنسان

الكثير من الشعراء يتعرضون للحيف أو الخطأ في تقييم نصوصهم أو حتى تجاربهم من النقاد، فتتواصل لعقود الصفات التي تلصق بهم ولكن النص بقي في حياته وتعددت قراءاته ويمكنه تجاوز التوصيفات الخاطئة ولو بعد قرون. ومن هؤلاء الشعراء الإيطالي جوسيبي أنجاريتي الذي وصف بأنه غامض.

يمثل الشاعر جوسيبي أنجاريتي نقطة تحول بارزة في الشعر الإيطالي الحديث، فقد خرج من بين أفكاره وأفكار زملائه وتلاميذه من بعده الروح التجديدية الثائرة على الشكل التقليدي للقصيدة ذات الإيقاع المتجانس، والتراكيب المكتملة والمعاني المفهومة واللغة البليغة الرنانة؛ فقد اتهم في الأربعينات بتكوين مدرسة “الهيرميتزم” أو الغموض والإلغاز؛ وهكذا التصق بشعره طابع الغموض، لكنه غموض لم يكن عجزا في اللغة أو الموهبة لديه، فالغموض الأصيل له سحره، وله عند الشاعر الحقيقي ما يبرره في البوح أو الصمت في الصورة أو الرؤية، وفي الفكرة الشعرية قبل تجسيدها في كلمة.

قصائد من الخنادق

الشاعر حاول استعادة البراءة والرعشة الأولية والحضور الشعري المنقى الخالص في {ديمومة} الشعور الحي واللغة المفارقة
الشاعر حاول استعادة البراءة والرعشة الأولية والحضور الشعري المنقى الخالص في "ديمومة" الشعور الحي واللغة المفارقة

انتخب الراحل عبدالغفار مكاوي أكثر من ستين قصيدة لأنجاريتي عنونها بـ”يا إخوتي قصائد مختارة من شعر أنجاريتي” وقدم لها بدراسة ألقت الضوء على تجربته وشعره. ووفقا لاتفاق قانوني بين مؤسسة هنداوي وأسرة مكاوي، كانت هذه الطبعة الجديدة من الكتاب.

يقول مكاوي “جوسيبي أنجاريتي ولد بالإسكندرية في عام 1888 ومات في ميلانو في 1970، يعد رائد التجديد في الشعر الإيطالي في القرن الماضي، ومؤسس اتجاه أو مدرسة كاملة ـ مع زميله أويجينو مونتاله وغيره ـ سميت خطأً أو صوابا بمدرسة الغموض أو الإبهام والإلغاز ‘الهرميتيزم‘. هذا الشاعر الذي رأت عيناه النور في الإسكندرية الشاهد الحي على تاريخه وحضارته، وقضى فيها طفولته وصباه وشبابه الباكر قبل سفره إلى روما، ومنها إلى باريس لاستكمال دراسته، ثم التطوع في الحرب العالمية الأولى التي تركت آثار تجاربها الدامية على أروع مجموعات قصائده، وهي ‘فرحة الغرقى’ 1919، وختمتها بخاتمها الذي جعل شعره ونثره كله بعد ذلك قصة ‘حياة إنسان‘ وتجاربه الأليمة التي عبرت عنها لغة الشعر الجوهرية، فارتفعت بها إلى آفاقها الصافية المتعالية”.

ويوضح أن أنجاريتي في عام 1915 تطوع للاشتراك في الحرب العالمية الأولى، وانخرط في الكتيبة التاسعة عشرة مشاة، وقضى معظم سنوات الحرب في الجبهة النمساوية؛ حيث كتب في الخنادق المظلمة وتحت وابل القنابل المدوية أغلب قصائد مجموعته الأولى “الميناء المدفون”، التي ظهرت سنة 1916 في مدينة أودين. لم تكن قصائد تحث على الحرب أو تنفر منها، وإنما كانت نفثات إنسان وجد نفسه على حين فجأة متورطا في السير على شارع الحرب الذي لم يحسب حسابه، ولم يخطر له على بال. راح يسأل في مواجهة الفواجع البشعة: لماذا؟ ولم يكن هو وحده الذي يردّد السؤال الذي استعصت إجابته على جنود كثيرين مثله.

كانوا يقفون في بؤسهم وتعرضهم كل لحظة للجرح والموت كما تقف أوراق الشجر في الخريف، وقد كتب عليها أن تسقط حتما دون أن تستطيع أن تقول شيئًا؛ لأنه لم يبق من شيء يمكن أن يقال. وهكذا تنشأ وتنمو قصيدة نادرة من أربعة سطور وتسع كلمات، لكن كم تدوي منطلقة منها أحزان الورق الذابل في صمت في رياح الخريف وكآبته، وأحزان الجنود الذين يروحون كل يوم ضحية “مجزرة الإخوة الأوروبيين”، ولسانهم وقلبهم يردّدان السؤال الذي لا جواب له “هكذا/ كما في الخريف/ على الأشجار/ ورقة وورقة”.

ويضيف مكاوي “جاءت بعد المجموعة الشعرية السابقة الذكر مجموعة قصائد أخرى ظهرت سنة 1919، وحملت هذا العنوان ‘فرحة الغارقين‘، أو ‘السفن الغرقى‘ الذي اختصره الشاعر في الطبعات التالية منذ سنة 1931، في كلمة واحدة تتعذر ترجمتها وهي ‘الفرح‘؛ الفرح الذي يمكن أن نؤديه بكلمات أخرى كالمرح والبهجة والسرور أو السعادة الباطنة التي تدفعنا لأن نعيش الحاضر بكل عمقه وحدته، ونأمل في غد نستبشر به ونثق فيه، ونمشي على الأرض بخطوات ثابتة، وكأننا نطلق من داخلنا كرة السعادة ونسارع لالتقاطها في لعب حر يفرحنا، ويمكن أن يعود بالخير والنفع على أهلنا ومجتمعنا ووطننا والبشرية جمعاء”.

عبقرية لغوية فريدة
عبقرية لغوية فريدة

ويتابع “ألم أقل: إن كلمة ‘الفرح‘ يتعذر ترجمتها والإحساس بمدلولها الخالص في لغتنا؛ لسبب بسيط هو: أن هذا الفرح الحقيقي غريب عنا، وغير معروف لنا ولا لمن نعيش وسطهم ويعيشون معنا وحولنا، هل قلت لسبب بسيط؟ لا؛ بل لأسباب تاريخية وواقعية تجعل ما تصفه عادة بالفرح معبرا في صميمه عن البكاء، وأنينا يتخذ شكل القهقهة المريضة والسخرية المرّة، والنكتة الهروبية المتشفّية، أو المنتقمة من الذات ومن الآخرين. مهما يكن من عجزنا أو من قدرتنا في لحظات نادرة على الإحساس بهذا الفرح (الذي لم ينفصل منذ البداية في العنوان الذي وضعه الشاعر نفسه عن غرق السفن، وخيبة الآمال وتكسرها على صخور الواقع العنيد)”.

ويوضح المترجم أن بعض النقاد قد رأى، وإن لم يكن هذا بالضرورة هو رأيه، أن أنجاريتي قد احتضن في قصائد “الفرح” أسمى ذرى إبداعه قبل أن تبدأ أجنحته في التهاوي بعد ذلك بالتدريج، بحيث تكفي المقارنة بينها وبين مجموعة أخرى متأخرة وهي “صرخة ومشاهد ريفية” 1952 للتأكد من ذلك بصورة تتجلى في انتباهه إلى التأمل المجرد من نبضات الشوق المحموم ورفيف فراش الحس الدافئ نحو شفافية الروح، وأفق اللامتناهي واللامحدود.

أنجاريتي يصر على أن أعماله كلها هي قصة حياة إنسان، بل يؤكد أن الأدباء العظام لم يطمحوا إلى أكثر من أن يتركوا وراءهم سيرًا ذاتية جميلة

ويؤكد أن قصائد “الفرح” استطاعت أن تنشر اسم صاحبها وتدعم شهرته، سواء بين الذين سخطوا عليه أشد السخط، أو الذين وجدوا فيه أملًا جديدًا لإنقاذ الشعر الإيطالي من أوزانه التقليدية وأساليبه الكلاسيكية أو الرومانسية التي ملتها الأسماع ومجتها الأنفس المتطلعة ـ بعد كوارث حرب فظيعة حطمت الأنظمة المستقرة في الفكر والدين والفن والسياسة والاجتماع … إلخ ـ إلى شعر يكون بدوره “حطاما” و”شظايا” متناثرة تسجل ـ بلغة الشعر المتعالية على الواقع الطبيعي وعلى لغة التواصل الطبيعية على السّواء ـ ذلك الواقع المادي والنفسي الذي تحول فيه الزمان والمكان والبشر إلى بقايا خرساء، وشذرات متناثرة وأطلال منهارة تنطق بالصمت، وتوحي بالإشارة والإيماءة أكثر ما تحرّك شفاهها بالكلمات المعقولة والمفهومة.

ويتابع مكاوي أنه ما أن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تحرك شوق أنجاريتي إلى باريس التي رجع إليها، وعقد قرانه على زوجته جان دوبوا، ثم عاد إلى روما في سنة 1921، واستقر فيها وتولى العمل في وزارة الخارجية التي كلفته بالإشراف على تحرير مجلة، أو نشرة تصدر باللغة الفرنسية وتلخص الأحداث الثقافية والسياسية المهمة في كلا البلدين. كان في هذه الأثناء قد حقق شهرة واسعة بعد صدور مجموعتيه السابقتين “الميناء المدفون” (1916)، و”فرحة الغرقى” (1919) اللتين ظهرت بعدهما مجموعة أخرى رسخت دعائم شهرته، وهي: مجموعة “عاطفة الزمن” (1933)، بجانب ظهور عدد من ترجماته الأولى التي شهدت على عبقريته اللغوية، مثل: ترجماته عن شكسبير وراسين ومالارميه وسان جون؛ بيرس وجونجورا.

وانقسمت الآراء حوله واحتدم الصراع بين المتحمسين له والساخطين عليه، حتى أدى الأمر إلى تأسيس مجلات للهجوم عليه أو للدفاع عنه. أما الشاعر نفسه الذي ثقلت عليه أعباء الأسرة فاضطر للعمل مراسلا صحافيّا لإحدى الصحف السيارة، وهي: صحيفة الشعب (جاتزيتا دال بوبولو) التي تصدر في مدينة تورين، وأتاح له هذا العمل الصحفي فرصة السفر وكتابة التحقيقات والمقالات المتنوعة من الجنوب الإيطالي ومن معظم البلدان الأوروبية؛ مما ساعد من ناحية أخرى على تدعيم شهرته وذيوع اسمه مرتبطا بريادة حركة التجديد في الشعر الإيطالي بعد دانو نزيو (مات: 1938)، وكاردوتشي (مات: 1907).

يوميات شعرية

Thumbnail

يلفت المترجم إلى أن أنجاريتي يصر على أن أعماله كلها هي قصة حياة إنسان، بل يؤكد أن الأدباء العظام لم يطمحوا إلى أكثر من أن يتركوا وراءهم سيرًا ذاتية جميلة. لنقرأ ما يقول عن ذلك في المقدمة التي كتبها للطبعة الثانية لمجموعته الشعرية “الفرح”، في سنة 1931 “هذا الكتاب مذكرات يومية، والمؤلف لا يطمح، ويعتقد أن الأدباء الكبار لم يطمحوا إلا لأن يتركوا وراءهم سيرة شخصية جميلة”.

لهذا فإن القصائد هي عذاباته الشكلية، ولكنه يريد أن يوضح مرة أخرى، وإلى الأبد، أن الشكل إنما يعذبه؛ لأنه يطلب أن يتطابق مع التغيرات التي اعترت حسه ووجدانه، وإذا كان قد استطاع ـ كفنّان ـ أن يحقق أي تقدم، فإنه يود ألا يفهم من هذا سوى أنه قد حقق ـ كإنسان ـ بعض الكمال. لقد نضج وأصبح رجلا وسط أحداث غير عادية لم يقف أبدا بعيدا عنها، وإذا كان لم ينكر يوما أن الأدب يتوجه إلى العام، فقد كان من رأيه دائما أنه حيث ينشأ شيء (له شأنه وقيمته) فلا بد أن يتطابق العام ـ من خلال شعور تاريخي فعال ـ مع الصوت الفرديّ للأديب.

ويتساءل مكاوي كيف نفهم قول أنجاريتي إن قصائده يوميات شعرية؟ وكيف نفسر حرصه الدائم على إثبات المكان والوقت الذي دونت فيه كل قصيدة على حدة؟ هل نفهم من ذلك أن القصائد تقتصر على وقائع حياة الشاعر وتجاربه المؤلمة؟

ويقول “لو كان الأمر كذلك لما كانت اليوميات شعرية، ولا كان صاحبها شاعرا؛ ذلك لأن القصائد المقصودة تقوم بالوصف والعلو معا؛ أي: إنها ترفع الموصوف ـ بلغة الجدل الهيغلي عن رفع الضدين إلى مستوى أعلى وأكثر خصوبة ـ إلى سياق شعري تؤخذ فيه الكلمة الشعرية مأخذا مطلقا، وهنا يظهر مرة أخرى تأثير مالارميه رائد الحداثة في الشعر الأوروبي، قبل أن تصبح الحداثة مذهبا وأيديولوجية وكلمة يلوكها لسان كل ثرثار”.

ويتابع: هذه الكلمة الشعرية التي لم يكن أنجاريتي يمل مراجعتها مع كل طبعة جديدة لمجموعات قصائده، في سعي لا يتوقف لإظهار الجوهري وحذف العرضي والزائد، والوصول بجرسها الموسيقي، حتى عدم مراعاة البحر والوزن التقليدي في القصائد الباكرة ـ إلى الدرجة المرضية لسمعه وإحساسه، وإلى أدق تعبير ممكن وأكثره صدقا ودقة وحيوية وطبيعية. وأكتفي للدلالة على دور الكلمة الشعرية في تمزيق الصمت وملء سكونه بالإشراق المضيء، بتلك القصيدة الشهيرة التي افتتحت بها هذه المجموعة المختارة ولم تزد كلماتها عن كلمتين اثنتين، وتحيرت طويلًا في نقلهما إلى العربية حتى استقرّ رأيي على وضعها في هذه الصورة، تحت العنوان الذي وضعه الشاعر نفسه لها، وهو “صباح”: أتجلّى/ باللا محدود.

أنجاريتي يعد رائد التجديد في الشعر الإيطالي في القرن الماضي ومؤسس مدرسة سميت خطأ أو صوابا بمدرسة الغموض
أنجاريتي يعد رائد التجديد في الشعر الإيطالي في القرن الماضي ومؤسس مدرسة سميت خطأ أو صوابا بمدرسة الغموض

ولعل النقاد الذين وصفوا الشاعر للأسباب السابقة بأنه “صوت حي”، لم يكونوا بعيدين تماما عن الصواب؛ فلم يكن مجرد صوت حي فحسب، وإنما حاول استعادة البراءة والرعشة الأولية، أو البدئية والحضور الشعري المنقى الخالص في “ديمومة” الشعور الحي واللغة المفارقة.

ويخلص مكاوي إلى أن أنجاريتي شاعر غامض وملغز كما قيل عنه، ولا يزال يقال، فلا يمكننا القول إن شعره سهل، ولكن صعوبته لا تجيز لنا أن نصفه بالغموض، بل إننا حين نقرأ شعره لن نفهم هذا الوصف ولن نصدقه، وربما نسلّم بأن إلغازه نابع من جوهرية الشعر نفسه وطبيعته الأصيلة، ولغته المفارقة للغة الطبيعية التي هي مجرد أداة للتواصل والتوصيل والممارسة.

ويضيف “من ثم يمكننا أن نؤكد في النهاية أن غموضه ـ لو صبرنا عليه! هو الغموض الأصيل، وليس الغموض الزائف الذي يأتي من تشوش الفكرة وتشتت الإحساس، ومن تعقيد البنية اللغوية والنحوية أو كسرها بغير ضرورة فنية أو نفسية أو موسيقية، أو من غرابة المصطلح والخروج المتعمد على المألوف في ترتيب عناصر العبارة وتسلسل الأفكار والأبيات في القصيدة الواحدة انسياقا وراء الادعاء والحذلقة والنشوز، لا استجابة لنداء التجربة الشعرية. ذلك هو الغموض الكاشف أو القابل للكشف عنه، وألغازه لا تحتاج إلى حلّ؛ لأنها تتصل بلغز الحياة والكون، وتنبع من قلب وجودنا الشقيّ ومن طبيعة الشعر، ورؤية الشاعر نفسه”.

 

12