جوستاف فلوبير متعصّب للفن ومتعبد يعرف كل أنواع العذاب

رسائل الكاتب تكشف عن إنسان مدفوع دائما بالحماس والشك والتأمل.
الأحد 2025/06/01
كاتب اعتبر الجماليات هي الحقيقة

تعتبر تجربة الكاتب والروائي الفرنسي جوستاف فلوبير من بين أبرز التجارب العالمية التي رسخت وهي تستعد لتجاوز قرنين من الزمن، تجربة لم تأت مصادفة، بل كانت وليدة جهد ونظرة أخرى للأدب والفن والعالم وتعاملا مختلفا بين الأفكار والمشاعر، كل هذا تكشفه لنا رسائله التي تضيء على عوالمها ابنة أخته وابنته بالتبني.

تُعدّ رسائل جوستاف فلوبير بمثابة نافذة تطل على عالمه الداخلي، وتكشف عن جوانب مختلفة من شخصيته وآرائه حول الأدب والفن والمجتمع. فهي ليست مجرد مراسلات شخصية، بل هي وثائق أدبية قيمة تقدم رؤى ثاقبة حول عملية الكتابة والإبداع، ومن جانب آخر تعكس الرسائل الحياة الاجتماعية والثقافية في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، وتوثق للأحداث التاريخية والأدبية التي شهدها فلوبير.

أيضا تتضمن المراسلات تبادلات فكرية وأدبية مع العديد من الأدباء والمفكرين المعاصرين له، مثل جورج صاند وإيفان تورغينيف، ما يضيف قيمة أدبية وتاريخية لها.

بدايات المسرح

“المراسلات الكاملة لجوستاف فلوبير” التي ترجمها أخيرا لطفي السيد منصور في جزأين صدر منهما الجزء الأول بعنوان “لا سبب للضجر” عن دار الكتب العلمية بالتعاون مع دار معنى، وضم رسائله بين سنوات 1829 إلى 1835، و1837 إلى 1839، وعامي 1840 و1841. تفتتحها ابنة فلوبير بالتبني كارولين كوماتفيل بتمهيد ومقدمة طويلة، وكلاهما ـ التمهيد والمقدمة ـ لا يكشفان فقط علاقتهما الإنسانية ولكن أيضا تسلط الضوء على الرؤى والأفكار والآراء التي كانت محل النقاش بينهما.

تقول كارولين بصدد جمعها لهذه الرسائل “نحو عام 1885 بعد سنوات من وفاة خالي ـ تقصد فلوبير ـ علمت من أوجين فاسكيل أن السيدة بيسيو اقترحت عليه أن ينشر رسائل جوستاف فلوبير إلى أمه لويز كوليه. كناشر يحترم حقوق الجميع وصديق مخلص، رفض واعتقد أن عليه إبلاغي، أثبتت لي هذه الحقيقة أنه من المحتمل أن تظهر مراسلات لا أعرفها، وقد رأيت في ذلك خطرا؛ ثم اتخذت قراري: كان عليّ أن آخذ زمام المبادرة، وأجمع الرسائل التي كتبها جوستاف فلوبير، وأنشرها للعامة إذا لزم الأمر. من يستطيع أفضل مني، ابنته بالتبني، إنجاز هذه المهمة الدقيقة والتمييز، إن لم يكن من خلال الذكاء، على الأقل من خلال حبي البنوي الكامل، ما هو مناسب للنشر؟ في ذلك الوقت، كان الرأي العام منقسما للغاية؛ ألقى الكثير من الناس اللوم على هذه المنشورات التي تسمح للغرباء باختراق المناطق الأكثر حميمية التي تتعلق بكيان شخصي ما.”

فلوبير بدأ في عمر العشر سنوات بتأليف المسرحيات رغم أنه كان بالكاد قادرا على كتابة أدوارها له ولرفاقه

تقول كارولين “بدأ جوستاف في عمر العشر سنوات، بتأليف مسرحيات. هذه المسرحيات، التي كان بالكاد قادرا على كتابة الأدوار فيها، أداها هو ورفاقه، وخصصت غرفة عمل كبيرة مجاورة لغرفة المعيشة، وكانت طاولة العمل المدفوعة إلى الخلف بمثابة مسرح؛ حيث كانوا يصعدون إليها بواسطة سلم الحديقة، وكانت كارولين مسؤولة عن الديكورات والأزياء. لقد سُرقت خزانة ملابس الأم.”

 كتب فلوبير إلى أحد ممثليه الرئيسيين، إرنست شوفالييه “النصر، النصر، النصر، النصر، النصر. سوف تأتي، وأميدي، وإدمون، ومدام شوفالييه، والأم، والخادمتان، وربما بعض الطلاب سوف يأتون لرؤيتنا ونحن نمثل، وسوف أقدم لك أربع مسرحيات لا تعلم عنها شيئا، ولكنك ستعرفها قريبا، تم إصدار تذاكر الصف الأول والثاني والثالث، وسيكون هناك كراس بذراعين، وهناك أيضا لوحات وديكورات، وتم تجهيز القماش، وربما سيكون هناك من عشرة إلى اثني عشر شخصا، لذلك أنت في حاجة إلى الشجاعة وعدم الخوف.”

 كان ألفريد لو بويتفان، الذي يكبر جوستاف فلوبير ببضع سنوات، وشقيقته لور، يشكلان أيضا جزءا من هذه العروض، وارتبطت عائلة لو بواتفان بعائلة فلوبير من خلال الأمّين اللتين تعرفتا على بعضهما البعض في المدرسة الداخلية منذ سن التاسعة. كان لألفريد لو بويتفان تأثير كبير جدا في مرحلة شباب خالي من خلال المساهمة في تطوره الأدبي. لقد وهب عقلا لامعا ومليئا بالحيوية والغرابة. خطفه الموت صغيرا، وكان حِدادا عظيما، ولقد تحدث عنه في مقدمة الأغاني الأخيرة.”

ألوهية الفن

I

تلفت كارولين كوماتفيل إلى أن جوستاف فلوبير “كان متعصبا، لقد اتخذ الفن إلهه، وكان يعرف، مثل المتعبد، كل أنواع العذاب وكل مثل الحب المضحي بنفسه. بعد الفترات التي قضاها في التواصل مع الشكل التجريدي، عاد الصوفي إنسانا مرة أخرى، وكان طيب الطباع، يضحك من القلب، يفيض بالحيوية ويظهر حماسا ساحرا في سرد حكاية ممتعة، ذكرى شخصية. وكان من أعظم متعه إسعاد من حوله. ليفرحني عندما كنت حزينة أو مريضة، ما الذي لم يفعله؟ من السهل أن تشعر بنزاهة أصوله، فلقد تلقّى عن والده ميله نحو التجربة، وهذه الملاحظة الدقيقة للأشياء التي جعلته يقضي وقتا لا نهاية له في ملاحظة أصغر التفاصيل، وهذا التذوق لكل المعرفة هو الذي جعله واسع العلم وفنانا على حد سواء.”

وتضيف “نقلت إليه أمه قابلية التأثر وهذا الحنان الأنثوي تقريبا الذي غالبا ما كان يفيض من قلبه الكبير، وأحيانا يبلل عينيه عند رؤية طفل. وقال إن ميله إلى السفر يأتي من أحد أسلافي، وهو بحار شارك في غزو كندا. لقد كان فخورا جدا بإدراج هذا الرجل الشجاع ضمن أهله، فقد بدا له ‘جسورا‘ جدا، وليس برجوازيّا، لأنه كره البرجوازي، ويستخدم هذا المصطلح باستمرار، أما في فمه فكان مرادفا للمتدني والحسود، ولا يعيش إلا على مظهر الفضيلة، ويهين كل عظمة وجمال.عندما توفي السيد لومونييه، خلفه جدي كرئيس للجراحين في مستشفى أوتيل ديو. وفي هذا المسكن الفسيح ولد جوستاف فلوبير.”

وتوضح كارولين “من السهل أن نرى أن الرجل الذي كتب ‘القديس أنطوان‘ شديد الاهتمام بالفكر الديني في الإنسانية ومظاهره المتعددة. كانت أنساب الآلهة القديمة تثير اهتمامه للغاية، وكان لديه انجذاب لا نهائي للإسراف في جميع الأنواع: فقد أثار إعجابه الناسك، الرجل المنعزل في طيبة، وشعر بالانجذاب نحوهم كما هو الحال تجاه بوذا على ضفاف نهر الجانج. كثيرا ما أعاد قراءة الكتاب المقدس. بدت له هذه الآية من سفر إشعياء سامية: ‘ما أجمل قدمي الرسول المبشر على الجبال‘، قال لي بحماس: ‘فكري في الأمر، فكري فيه بقوة من أجلي‘”.

وتذكر أن فلوبير كان وثنيّا من خلال جوانبه الفنية، ومن خلال احتياجاته الروحية، مؤمنا بوحدة الوجود. لم يترك سبينوزا، الذي أُعجب به كثيرا، بصمته عليه. علاوة على ذلك، لم يكن أيّ من معتقدات عقله، باستثناء الإيمان بالجمال، متجذرا بقوة فيه لدرجة أنه لم يكن قادرا على الاستماع وحتى الاعتراف، إلى حد ما، بالطريقة المعاكسة لرؤيته. كان يحب أن يكرر مع مونتين، والتي ربما كانت الكلمة الأخيرة في فلسفته: على المرء أن ينام على وسادة الشك.

عندما يصل فلوبير إلى نهاية فصل غالبا ما كان يمنح نفسه يوما إجازة ليقرأه للمقربين لكي يرى تأثيره

وحول طريقته في الكتابة تقول إنه “في عمله اليومي، يكون سعيدا عندما يقرأ لي الجملة التي أنهاها للتو؛ أشهد، شاهدة بلا حراك، الإنشاء البطيء لهذه الصفحات المتقنة للغاية. في المساء يضيء لنا نفس المصباح؛ أجلس إلى حافة الطاولة الكبيرة، منشغلة ببعض أعمال التطريز، أو القراءة؛ يناضل تحت ضغط العمل؛ في بعض الأحيان يميل إلى الأمام ويكتب بشكل محموم، ويتكئ إلى الخلف، ويمسك بكلتا ذراعيه كرسيه ويطلق أنينا، في بعض الأحيان يشبه ذلك حشرجة الموت. ولكن فجأة يتغير صوته بلطف، ويتضخم، وينفجر: لقد وجد التعبير الذي يبحث عنه، ويكرر الجملة لنفسه. ثم ينهض سريعا ويطوف حول مكتبه، يردد المقاطع وهو يمشي، وهو سعيد، إنها لحظة انتصار بعد عمل مرهق.”

وتضيف “عندما يصل إلى نهاية الفصل، غالبا ما كان يمنح نفسه يوما إجازة ليقرأه لنا بكل سهولة، ليرى ‘التأثير‘. لقد قرأ بطريقة غنائية فريدة من نوعها، والتي كان تركيزها، الذي بدا في البداية مبالغا فيه، أصبح ممتعا للغاية. لا يقرأ لنا أعماله فقط؛ ومن وقت إلى آخر قدم لنا جلسات أدبية حقيقية، ويصبح مفتونا بالجمال الذي يصادفه؛ كان حماسه معديا، من المستحيل أن تبقى باردا، كنا نهتز معه.”

وتشير كارولين إلى أنه من بين القدماء، كان فلوبير يعتبر هوميروس وإسخيلوس آلهة؛ وكان معجبا بأرسطوفان أكثر من سوفوكليس، وبلوتس أكثر من هوراس، الذي لا يجد جدارته عالية. كم مرة سمعته يقول إنه يريد قبل كل شيء أن يكون شاعرا كوميديّا عظيما، وقد أثار شكسبير وبايرون وفيكتور هوجو إعجابه العميق، لكنه لم يفهم ميلتون قط. قال “فرجيل جعل المرأة عاشقة، وشكسبير جعل الفتاة الصغيرة عاشقة؛ جميع العاشقات الأخريات هن نسخ بشكل أو بآخر من ديدون وجولييت.” وفي النثر الفرنسي، أعاد قراءة رابليه ومونتين باستمرار وأوصى بهما لكل من أراد الانخراط في الكتابة.

وتتابع “لقد كانت هذه الحماسة الأدبية موجودة فيه دائما؛ إحدى تلك الحماسات التي أحب أن يتذكرها هي التي شعر بها في أثناء قراءة فاوست. قرأها عشية عيد الفصح وهو يغادر المدرسة. وبدلا من العودة إلى والده وجد نفسه، لا يعرف كيف، في مكان يُدعى ‘كور لا رين‘ وهو منتزه جميل مزروع بالأشجار العالية على الضفة اليسرى لنهر السين، بعيدا قليلا عن المدينة. جلس على ضفة النهر. ودوت أجراس الكنائس على الضفة المقابلة في الهواء مختلطة بشعر جوته الجميل: ‘المسيح قام، سلام ومسرة كاملة. هل تعلنين، أيتها الأجراس العميقة، الساعة الأولى من عيد الفصح؟ ترانيم سماوية، قوية وحلوة، لماذا تبحثين عني في التراب؟‘، دار رأسه، وعاد كأنه مذهول، ولم يعد يشعر بالأرض. كيف كان لهذا الرجل، المعجب بالجمال، كل هذا الفرح في اكتشاف الخسة البشرية، خاصة حيث كان المظهر الخارجي للفضيلة هو السائد؟ أليس هذا هو عبادته للحق؟ ويبدو أن هذا الاكتشاف يؤكد فلسفته ويبتهج بحبه لهذه الحقيقة التي يعتقد أنه قد اخترقها.”

التضحية لأجل الأدب

الرسائل تحكي جوانب مجهولة من ذات الكاتب وآرائه
الرسائل تحكي جوانب مجهولة من ذات الكاتب وآرائه

تكشف كارولين كوماتفيل أن فلوبير “في بداية عام 1874، اضطلع بكتابة رواية ‘بوفار وبيكوشيه‘، وهو الموضوع الذي شغله لمدة ثلاثين عاما. كان من المفترض أن تكون في البداية قصيرة جدّا، قصة قصيرة في نحو أربعين صفحة؛ هكذا تبادرت الفكرة إلى ذهنه. كان يجلس مع بويهيت على مقعد في شارع في روان، قبالة دار رعاية للمسنين، كانا يستمتعان بحلم ما سيكونان عليه في يوم من الأيام، وبعد أن بدآ رواية وجودهما المفترض، صرخا فجأة: ومن يدري؟ قد ينتهي بنا المطاف مثل هؤلاء المسنين المقعدين الذين يموتون في الملجأ، لذا فقد تخيلا أن صداقة اثنين من الناسخين، حياتهما، بمجرد تقاعدهما من العمل.. إلخ.. إلخ، ستقودهما بعد ذلك إلى إنهاء أيامهما في الفقر. أصبح هذان الناسخان ‘بوفار وبيكوشيه‘.”

وتبين أن هذه الرواية، التي كان من الصعب إنجازها، أدت إلى إحباط خالها فلوبير أكثر من مرة؛ حتى أنه اضطر إلى التوقف، والحصول على قسط من الراحة، ذهب للانضمام إلى صديقه عالم الطبيعة جورج بوشيه في كونكارنو. هناك، على شواطئ بريتون، بدأ “أسطورة القديس جوليان الشافي”، والتي سرعان ما تبعها “قلب بسيط” و”هيروديا”. وسرعان ما كتب هذه الحكايات الثلاث ثم استأنف “بوفار وبيكوشيه”، وهي مهمة ثقيلة كان من المقرر أن يموت وهو يكتبها.

وتختم كارولين “قليل من الحيوات تشهد على مثل هذه الوحدة الكاملة مثل حياته: فرسائله تظهره وهو في التاسعة من عمره منشغلا بالفن كما لو كان في الخمسين. ولم تكن حياته، كما لاحظ جميع الذين تحدثوا عنه، منذ استيقاظ ذكائه حتى وفاته، سوى التطور الطويل لنفس الشغف، ‘الأدب‘. لقد ضحى من أجله بكل شيء؛ حبه وحنانه لم يبعداه قط عن فنه. هل ندم في السنوات الأخيرة على عدم اتّباع الطريق العام؟ بعض الكلمات العاطفية التي خرجت من شفتيه ذات يوم عندما كنا نسير معا على طول نهر السين جعلتني أعتقد ذلك.”

وتضيف “لقد قمنا بزيارة إحدى صديقاتي التي وجدناها بين الأطفال الساحرين. قال لي: ‘إنهم على صواب‘، في إشارة إلى هذه العائلة الصادقة والصالحة. ‘نعم‘، كرر لنفسه بجدية، لم أزعج أفكاره وبقيت صامتة إلى جانبه. كانت هذه المسيرة إحدى جولاتنا الأخيرة. أخذه الموت وهو بكامل صحته. في اليوم السابق، كانت رسالته بشوشة وتحتوي على متعة رؤيته تأكيدا لتخمينه في ما يتعلق بالنبات. لقد كتب لي هذه السطور المثيرة للاهتمام حول عمله والذي لم يتبق منه سوى بضع صفحات لإكمالها: ‘لقد كنت على حق. لقد استقيت معلوماتي من أستاذ علم النبات في حديقة النباتات، وكنت على حق، لأن الجماليات هي الحقيقة وعلى مستوى فكري معين (عندما يكون لديك منهج) لا يمكن أن تكون مخطئا، فالواقع لا ينصاع للمثل الأعلى، بل يؤكده. بالنسبة إلى ‘بوفار وبيكوشيه‘، استغرق الأمر ثلاث رحلات إلى مناطق مختلفة قبل العثور على المكان المناسب والبيئة المناسبة للحدث. آه آه، أنا أنتصر، هذا نجاح، إنه يفتنني.”

11